08-نوفمبر-2020

أهمية الرهان على الاستثمار في الترويج للديمقراطية التونسية (Win McNamee/Getty)

مقال رأي

 

لعلّه، في البداية، لا حاجة للتأكيد بأن السياسة الأمريكية الخارجية تقوم على أركان ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الرؤساء، ومنها بالخصوص، فيما يهمّ منطقتنا، الانحياز إلى الكيان الصهيوني، ولكن لا يُنكر، قطعًا، أن اختلاف الرؤساء، من الجمهوريين من محافظيهم إلى معتدليهم وصولًا إلى الديمقراطيين بمختلف درجات الليبرالية داخلهم، هو عنصر محدّد في إعادة ضبط السياسة الخارجية، أو أدق، إعادة تدقيق الخيارات ومعالم الحساسية تجاه بعض الملفات.

لا تتصدّر المنطقة المغاربية جدول الأولويات في الفضاءات الاستراتيجية للإدارة الأمريكية، ولا تعدّ تونس بلدًا أساسيًا في خريطة التحرّك الأمريكي في المنطقة برمتها، ولكن اندلاع الثورات العربية من تونس، ومن ثمّ تمثّل البلد نموذجًا للتحوّل الديمقراطي، والزخم العالمي لهذا التحوّل بفضل جائزة نوبل للسلام للعام 2015، عدا عن الموقع المجاور لليبيا، والسعي الأمريكي لتعزيز تعاونها العسكري تحديدًا في شمال إفريقيا في إطار كبح جماح الجماعات الإرهابية، جميعها عوامل جعلت تونس، بعد 2011، أكثر أهمية لدى الإدارة الأمريكية عكستها بالخصوص زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون لتونس عام 2011، وأيضًا زيارة السيناتور الراحل والمرشح الجمهوري السابق جون ماكين عام 2012، ومنح تونس في واشنطن صفة "حليف رئيسي من خارج الأطلسي" عام 2015، وتعزيز التعاون في المجالين الأمني والعسكري بمستوى قياسي في تاريخ العلاقات بين البلدين.

اقترحت إدارة ترامب، بعد انتخابه، تخفيض قيمة المساعدات الأمريكية لتونس بأكثر من النصف وتحديدًا من 185.5 إلى 80 مليون دولار

لم يكن دونالد ترامب طيلة سنوات إدارته الأربع صديقًا للديمقراطية برمتها، أو أدق لم يكن مهتمًا بالاستثمار في الديمقراطية بما عكسه توجهه نحو تقليص الدعم المالي للبلدان في طور التحوّل الديمقراطي، إذ للتذكير اقترحت إدارته، بعد انتخابه، تخفيض قيمة المساعدات الأمريكية لتونس بأكثر من النصف وتحديدًا من 185.5 إلى 80 مليون دولار. وقد انتقد جايمس اندرو، وهو أحد أبرز صحفيي "نيويورك تايمز"، في مارس/أذار 2018 العزم على تخفيض مساعدات تونس باعتباره، ووفق تعبيره، تمثل "مسارًا ثالثًا" عبر تحول ديمقراطي يجمع المواطنين "على إعادة التفاوض على العقد الاجتماعي دون قمع أو فوضى"، وذلك بعيدًا عن خيار الاستبداد والقبضة الحديدية في مصر أو خيار الفوضى ودمار الدولة في سوريا وليبيا. وما كان مقلقًا جدًا مع ترامب وهو ما لحقت تبعاته تونس، على مدى سنوات إدارته، هو تحالفه الواضح مع محور الشر الإماراتي-السعودي-المصري، في استثمار في محور الاستبداد والتطبيع الذي يرى في تونس نموذجًا واجب إفشاله، ولم تكف مخططاته لاستهداف الانتقال الديمقراطي.

اقرأ/ي أيضًا: عن ترامب الذي لا تروق له ديمقراطية تونس الناشئة

إبعاد ترامب هو خبر جيّد، وصعود بايدن يوفّر فرصة لإعادة الاستثمار في أطروحة الديمقراطيين الأمريكيين حول دعم الديمقراطيات لتعزيز النفوذ الأمريكي، بمنطق مصلحي وليس مبدئي كما يتوارد لذهن البعض وذلك كإحدى الإستراتيجيات لمواجهة النفوذ الروسي والصيني في العالم. هذا الاستثمار الديمقراطي هو مفيد بالنسبة لبلد، تونس، هو الديمقراطية الوحيدة في الوطن العربي، أو في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمنظار الأمريكي لجغرافيا العالم. وهو مفيد بمعنيين اثنين: الأول محلي قد يأخذ شكل تعزيز الدعم المالي خاصة في شقه الاقتصادي دون اقتصاره على الشق الأمني والعسكري، والثاني إقليمي بتحجيم، ولو نسبي ومتباين حسب مجال التحرك، للمخططات التخريبية، لمحور الشرّ العربي، والترفيع في منسوب الضغط في قضايا حقوق الإنسان والإصلاحات السياسية في بلدان القمع العربية، وذلك مفيد استراتيجيًا لتونس: الدفع نحو الدمقرطة والإصلاح السياسي.

بخطوات ملموسة، التزم جو بايدن، خلال حملته، بتنظيم قمة عالمية للديمقراطية في العام الأول من رئاسته، وقد اقترحت ورقة صادرة عن مركز كارنيجي، وهو من المراكز الأمريكية البحثية المرموقة، أن تحتضن تونس هذه القمة في الذكرى العاشرة للاحتفال بثورتها، عام 2021. واعتبرت الورقة أن منطقة شمال إفريقيا تمثل عمومًا فرصة لبايدن لتنفيذ التزامه بـ"تجديد الدعم الأميركي للأنظمة الديمقراطية". وتحدّثت عن إمكانية أن يعطي خصوصًا الأولوية للعلاقات مع البلدان التي تتشارك القيم الأميركية مقدمًا إياها على الأنظمة الاستبدادية في العالم، مشيرة تحديدًا إلى تونس باعتبارها "الديمقراطية الوحيدة في العالم العربي".

 اقترحت ورقة تحليلية نشرها مركز "كارنيجي" أن تحتضن تونس عام 2021، في الذكرى العاشرة لثورتها، القمة العالمية للديمقراطية التي وعد بايدن بتنظيمها في العام الأول من رئاسته

بايدن أساسًا ليس غريبًا عن الملفات الخارجية، إذ كان رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، والأهم كان نائبًا للرئيس السابق باراك أوباما (2008-2016)، وعايش الثورة العربية عام 2011، وتابع التطور الديمقراطي في تونس، والتقى عمليًا الرئيسين السابقين منصف المرزوقي والباجي قايد السبسي في واشنطن، ويعرف جيدًا أن تونس هي "النموذج" في المجال العربي، والتي حازت 4 منظمات وطنية منها على جائزة نوبل للسلام عام 2015. وقد مُنحت، زمن الإدارة الديمقراطية السابقة، على صفة حليف رئيسي من خارج الأطلسي عام 2015.

وربّما أكثر أهمية، يبدو أنطوني بلينكن، مستشار حملة بايدن للعلاقات الخارجية ونائب وزير الخارجية في إدارة أوباما، والمرشّح أن يكون وزير الخارجية في إدارة بايدن أو مستشار الأمن القومي وفق وسائل إعلام أمريكية، متابعًا جيدًا للوضع في تونس، إذ زارها مرتين بصفته مساعد وزير الخارجية عاميْ 2015 و2016، وكانت الزيارة الأولى في أفريل/نيسان 2015 في إطار تنسيق زيارة السبسي لواشنطن وقتها. ووصف في نقطة صحفية بالقصبة تونس بأنها "ضوء يشعّ في المنطقة" وأن واشنطن ستدعم على دعمها لتواصل إشعاعها ليس فقط من أجل التونسيين لكل للشعوب التي تتابع النجاح التونسي، وفق تعبيره. وأعلن مضاعفة الإدارة الأمريكية للدعم المالي في القطاع الأمني لتونس بنسبة 200 في المائة. وفي عام 2016، قدم بلينكين في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في واشنطن محاضرة بعنوان "ملاحظات حول دعم الانتقال التونسي"، وصف في مفتتحها السفير التونسي السابق وقتها قويعة بـ"الصديق" وذكّر بتاريخية العلاقات التونسية الأمريكية حينما أرسلت واشنطن قنصلًا إلى باي تونس منذ 250 عامًا، غير أن الأهم، أكدت المحاضرة التي دامت نصف ساعة الاستثمار في الديمقراطية "المشعّة" في المنطقة مستعرَضًا أوجه من الدعم المالي الُمترجم لهذا الاستثمار الاستراتيجي. إن تولّي بلينكين منصبًا متقدمًا في إدارة بايدن المقبلة سيكون أمرًا مفيدًا لتونس، قد يمثل فرصة عمليًا لمزيد تأمين الدعم المالي سواء المباشر أو غير المباشر عبر المؤسسات المالية الدولية.

 المُطالب اليوم العمل على التأكيد لواشنطن أهمية التعامل بنديّة بعيدًا عن الفوقية ومنطق الإملاءات، والتأكيد أن الدعم الحقيقي المطلوب لا يجب أن يقتصر على المجالين الأمني والعسكري

إن الحرص على ترجمة الاستثمار الأمريكي، مع الإدارات الديمقراطية تحديدًا، في "دعم الديمقراطيات" وذلك وبالخصوص، بتعزيز الدعم المالي للديمقراطية الوحيدة في المنطقة، لا يعني الانضواء ضمن المخططات الأمريكية في المنطقة. هي نقطة التقاء مصلحية من المهم استثمارها، خاصة وأن البلد يعاني أزمة اقتصادية غير مسبوقة، مع الحاجة المتفاقمة طيلة الفترة المقبلة للخروج للأسواق المالية العالمية للاقتراض، بما يستدعي البحث عن ضمانات للقروض الرقاعية، على غرار الضمان الأمريكي عام 2016 لقرض بقيمة 500 مليون دولار. ويمثل تعزيز العلاقات مع واشنطن فرصة تونسية أيضًا لتنويع العلاقات الخارجية وبالخصوص العمل على تقليل الارتباط بالشركاء التقليديين في شمال المتوسط، وذلك بالتوازي مع السعي الصيني لتمديد نفوذه في شمال إفريقيا، وكلّ ذلك بما يعزّز الخيارات التونسية لخدمة المصالح العليا للدولة لا غير.

المُطالب اليوم العمل على التأكيد لواشنطن أهمية التعامل بنديّة بعيدًا عن الفوقية ومنطق الإملاءات، والتأكيد أن الدعم الحقيقي المطلوب لا يجب أن يقتصر على المجالين الأمني والعسكري بل يشمل خصوصًا الدعم الاقتصادي وذلك بأخف الشروط المالية الممكنة وبأكثر الامتيازات المتوفرة، في إطار دعم الانتقال الديمقراطي في "النموذج المشعّ" في المنطقة، وذلك مع عدم القبول بالمس بأي شكل من الأشكال بثوابت الخيارات التونسية في الأمن القومي والمواقف الخارجية. نحن بحاجة اليوم للاستثمار بديمقراطيتنا من أجل ديمقراطيتنا، من أجل الخروج من الأزمة الاقتصادية ثم المضي في التحوّل الاقتصادي والاجتماعي المأمول لفائدة قوت التونسيين بالتوازي مع الانتقال الديمقراطي، الذي جعل بلدنا نموذجًا رائدًا في المنطقة: ممارسة الحريات وسيادة الشعب لا يعنيان التنازل عن الأمن أو الرفاهية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وعد بايدن بتنظيمها حال فوزه: هل تحتضن تونس القمة العالمية للديمقراطية؟

سعيّد مهنئًا بايدن: مستعدون لترسيخ العلاقة بين البلدين وتعزيز آفاق الشراكة