تحتضن العاصمة التونسية انطلاقًا من يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، جولة مفاوضات مباشرة لحوار ليبي-ليبي بعد انطلاقها رسميًا عن بعد بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول 2020، تحت رعاية البعثة الأممية للدعم في ليبيا، التي لازالت تشرف على أعمالها بالإنابة الأمريكية ستيفاني ويليامز، بعد استقالة رئيسها اللبناني غسان سلامة منذ مارس/آذار الماضي، وتعذّر توافق القوى الدولية والإقليمية، المعنية بالملف الليبي، على شخصية جديدة، بما يعكس حدّة التجاذبات فيما بينها.
يأتي احتضان تونس لجولة المفاوضات التي يُعوّل عليها لإنهاء حالة الاحتراب الأهلي والانقسام المؤسساتي وتعطل عملية الانتقال الديمقراطي منذ 2014 ضمن مسار برلين
ويأتي احتضان تونس لجولة المفاوضات التي يُعوّل عليها لإنهاء حالة الاحتراب الأهلي والانقسام المؤسساتي وتعطل عملية الانتقال الديمقراطي منذ 2014، ضمن مسار برلين الذي تبنّاه مجلس الأمن بموجب القرار 2510، وفي إطار سلسلة منصّات أخرى للمحادثات بين الفاعلين الليبيين، وتحديدًا بين المجلس الأعلى للدولة وحكومة الوفاق الوطني من جهة، ومجلس النواب الليبي المتمركز في طرابلس واللواء المتقاعد خليفة حفتر من جهة أخرى، وهي تحديدًا منصّة مونترو السويسرية، ومنصّة بوزنيقة المغربية التي انتهت لاتفاق بتاريخ 6 من الشهر الجاري يحدد معايير توزيع المناصب السيادية في البلاد، ومنصّة جنيف التي انتهت لاتفاق بتاريخ 23 من نفس الشهر لوقف إطلاق النار، إضافة لمنصّة القاهرة المخصّصة لتناول القضايا الدستورية (11-13 أكتوبر/تشرين الأول). فيما تشرأب الأعناق نحو منصّة تونس بوصفها الجولة الحاسمة للتوافق على خارطة طريق لحلّ للأزمة المستمرة منذ 6 سنوات.
اقرأ/ي أيضًا: هل تغيّر موقف رئيس الجمهورية من المشهد الليبي؟
في معنى احتضان تونس لجولة المفاوضات
تعوّل الدبلوماسية التونسية، بداية، بعد اختيار تونس لاحتضان جولة الحوار الليبي-الليبي على لعب دور في تحديد معالم حلّ الأزمة الليبية، والتي دائمًا ما يردّد المسؤولون الرسميون في تونس أن بلادهم هي الأكثر تأثرًا بتبعاتها سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي. ويأتي حدث الاحتضان لكسر حالة جمود نشاط الدبلوماسية التونسية في هذا الملف، رغم التأكيد الدائم على الحياد الإيجابي بين الفرقاء الليبيين، ولكن دون لعب أي دور حيوي، مقابل بالخصوص الدور المغربي النشيط منذ اتفاقية الصخيرات عام 2015 ومنصة بوزنيقة حاليًا، عدا عن أدوار الفاعلين الإقليميين وبالخصوص مصر وتركيا، عدا عن القوى الأوروبية والدولية وتحديدًا ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا.
ومثّل الملف الليبي إحدى أهم نقاط المؤاخذة من المراقبين تجاه رئيس الجمهورية الجديد قيس سعيّد، بعد إعلانه في مناسبات متعدّدة، وبالخصوص خلال زيارة باريس جوان/يونيو 2020، عن طرح يقوم على إعادة تجربة المصالحة الأفغانية بعد غزو أمريكا، وقوامها صياغة دستور بين القبائل الليبية، وهو ما أثار استهجانًا واسعًا من الفرقاء الليبيين، وبالخصوص من الفاعلين في المنطقة الغربية. وقد عبّر رئيس المجلس الأعلى للدولة طارق المشري عن أسفه من تصريحات سعيّد، ومنتقدًا بالخصوص تشكيك الرئيس التونسي، من قصر الإيليزي في باريس بالذات، في شرعية حكومة الوفاق الوطني.
تعوّل الدبلوماسية التونسية، بداية، بعد اختيار تونس لاحتضان جولة الحوار الليبي-الليبي على لعب دور في تحديد معالم حلّ الأزمة في البلد المحاور
وقد انطلق سعيّد، منذ صعوده في قرطاج، في مقاربة الملف الليبي انطلاقًا من الإطار القبائلي بوصفه المحرّك الأساسي للمشهد السياسي، وباعتبار التجربة الأفغانية تحت الاحتلال الأمريكي نموذجًا يُحتذى به، وقد استقبل فعلًا وفدًا من القبائل الليبية للدفع بهذا المسار، وهو ما أثار موجة انتقادات، بين المراقبين في تونس قبل الفاعلين الرسميين في ليبيا، رفضًا لهذا الطرح بما يعكسه من عدم دراية بخصوصيات المشهد الليبي وديناميكياته، مع التشديد أن وفد القبائل، الذي اُستقبل في قرطاج، لا يمثل القبائل الليبية من أصله. وتعزّز ارتباك الموقف الدبلوماسي بعدم دعوة ألمانيا لتونس، منذ القائمة الأولية، للمشاركة في مؤتمر برلين في شهر جانفي/كانون الثاني 2020، وذلك قبل تقديم دعوة، قبل يومين فقط من تنظيم المؤتمر، اعتذرت رئاسة الجمهورية عن تلبيتها لورودها "متأخرة".
اقرأ/ي أيضًا: الأحزاب التونسية والأزمة الليبية.. اختلافات حد التناقض
وعملت تونس لاحقًا على تأكيد التنسيق مع الجزائر بعد صعود رئيسها الجديد عبد المجيد تبون حول الملف الليبي، في ظلّ لهجة دبلوماسية قوامها تطابق موقف البلدين تجاه أزمة البلد الجار، ومن ثمّ التنسيق المشترك لحلّ الأزمة. غير أن العنصر المؤكد لمضي تونس في لعب دور نشيط لحلّ الأزمة الليبية كان بمناسبة الحركة الدبلوماسية في شهر سبتمبر/أيلول 2020 بتعيين سفير تونسي للمرّة الأولى منذ 6 سنوات، وهو الأسعد العجيلي، وقد كان المكلّف بوحدة الدراسات والبحوث بين تونس وليبيا صلب وزارة الخارجية.
ويمثل لاحقًا اختيار تونس لاحتضان الجولة الحاسمة للمفاوضات الليبية الليبية تتويجًا لمسار استئناف الدبلوماسية التونسية للعب دور عملي تجاوزًا لمجرّد إعلان المبادئ الموجّهة للموقف التونسي وهي عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ودعم الحوار الليبي الليبي والحفاظ على وحدة الدولة. ولا تُنكر الإشارة اليوم إلى أن عامليْن مساعديْن ساهما في اختيار تونس لاحتضان الحوار وهما الموقع الجغرافي وأزمة كوفيد-19، وذلك باعتبار العدد الهام المنتظر للمشاركين في جولة المفاوضات. وتعوّل تونس في احتضانها لهذه الجولة على تعزيز فاعلية محور تونسي-جزائري، يقوده الرئيسان قيس سعيّد وعبد المجيد تبون، لتجاوز حالة الجمود الدبلوماسي لبلديْهما تجاه الأزمة الليبية طيلة السنوات الماضية، ولتعزيز فاعلية موقعهما في مخاض حلّ الأزمة، لحماية مصالحهما وتأمين مساهمتها في معالم الحلّ النهائي في البلد المجاور، وذلك بالنظر للدور المتقدّم من فاعلين إقليمين ودوليين قادمين من وراء البحار تقدّموا أمام ضعف دور دول الجوار.
حوار تونس.. تحديات حلّ الأزمة
تواجه المشاورات السياسية بين الفرقاء الليبيين ضمن ملتقى الحوار في تونس تحديّات عديدة، منطلقها تمثيلية قائمة المشاركين، المكوّنة من 75 اسمًا والتي أعلنتها البعثة الأممية بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وقد أثارت موجة انتقادات ورفض من مكونات عديدة. إذ أعلنت "قوة طرابلس"، واحدة من أهم المجموعات المسلّحة في العاصمة، أن القائمة تضم "شخصيات جدلية كانت يومًا سببًا في خراب البلاد ومشعل الفتنة فيها"، بل تحدثت عن تغييب تمثيل عديد القوى العسكرية والسياسية والمناطقية وأهمها العاصمة طرابلس وجلّ المنطقة الغربية. كما أعلن رئيس لجنة المصالحة بالمجلس الأعلى لقبائل ليبيا زيدان معتوق الزادمة انسحابه من القائمة. وعبّر آمر غرفة عمليات تأمين وحماية سرت والجفرة إبراهيم بيت المال عن استغرابه الشديد من الأسماء المطروحة داعيًا المبعوثة الأممية إلى "الكف عن العبث بمصير الليبيين". فيما اعتبر "ائتلاف القوات المساندة لعملية بركان الغضب"، المنضوي ضمن حكومة الوفاق، أن الأطراف المشاركة بالحوار "فاقدة للشرعية ومرفوضة". وقد أعلنت االبعثة الأممية أن اختيار المشاركين تمّ وفق معايير الشمولية والتمثيل الجغرافي والعرقي والسياسي والقبلي والاجتماعي العادل، مع امتناع المشاركين عن تولي أية مناصب سياسية أو سيادية في أي ترتيب جديد للسلطة التنفيذية.
تأمل تونس من هذه الجولة التفاوضية تحقيق اختراق دبلوماسي يعيد للدبلوماسية التونسية حيويتها في حلّ الأزمة إضافة لتثبيت محور تونسي/جزائري يسعى للعب دور التوازن أمام المحاور الإقليمية المتنافرة
لا يتعلق التحدي فقط بمدى قبول الفاعلين الأساسيين، سواء السياسيين أو العسكرين، لتمثيلهم من طرف الأطراف المشاركة التي اختارتها البعثة الأممية، بل يشمل أيضًا، وأساسًا، مدى جديّة هؤلاء الفاعلين لحلّ الأزمة. إذ يهدف الحوار في تونس إلى "تحقيق رؤية موحدة حول إطار وترتيبات الحكم التي ستفضي إلى إجراء انتخابات وطنية في أقصر إطار زمني ممكن" وفق الأمم المتحدة، وهو ما يفترض توافقًا واسعًا بين مكوّنات النزاع المحلي، وأيضًا الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لها. وتتعزّز الشكوك حول هذه الجديّة خاصة أمام التحديات الموضوعة في تنفيذ الاتفاقات المُعلنة بالخصوص اتفاق بوزنيقة، أمام تحدّي اعتماده كمرجعية في ظلّ لزوم المصادقة عليه من مجلسيْ الدولة والنواب مع استمرار حالة الانقسام صلب هذين الجهازين، وأيضًا اتفاق جنيف لوقف إطلاق النار، خاصة بعد إعلان حكومة الوفاق أنه لا يشمل اتفاق الدعم العسكري بين طرابلس وأنقرة. كما أن منصّة القاهرة لم تحقق اختراقًا عمليًا أمام مجرّد الاتفاق المُعلن على ضرورة إنهاء الفترة الانتقالية.
لازال الأمل معقودًا لتحقيق الحوار الوطني في تونس لهدفه المعلن وهو التوافق على خارطة طريق تنهي حالة التأزم السياسي المستمرّة منذ 6 سنوات بما يمكّن من استئناف الانتقال الديمقراطي، وبالخصوص المضي في تنظيم الاستفتاء على مشروع الدستور الذي أتمّت لجنة الستين صياغته منذ شهر جويلية/يوليو 2017. ويبقى تحقيق المفاوضات الليبية الليبية تحت الرعاية الأممية لاختراق فعلي رهين أولًا جديّة المكونات السياسية والعسكرية الأساسية المتمركزة غرب البلاد وشرقها على حلّ الأزمة بما تعنيه من تنازلات متبادلة وعسيرة أحيانًا، وثانيًا دفع القوى الإقليمية والدولية، التي باتت فاعلًا رئيسيًا في المشهد العسكري الداخلي خصوصًا، لتيسير تحقيق أهداف الحوار. فيما تأمل تونس من هذه الجولة التفاوضية، من جانبها، تحقيق اختراق دبلوماسي يعيد للدبلوماسية التونسية حيويتها في حلّ الأزمة، خاصة وأنها تشغل مقعدًا في مجلس الأمن، إضافة لتثبيت محور تونسي/جزائري يسعى للعب دور التوازن أمام المحاور الإقليمية المتنافرة.
اقرأ/ي أيضًا:
الدبلوماسية التونسية على ضوء تحولات المشهد الليبي نحو الحل السياسي