24-أكتوبر-2019

لن يكون كافيًا في التّعاطي مع الملفّ الليبيّ الحارق الاحتماء بشعار"الشرعيّة الدوليّة" (وسيم جديدي/ SOPA Images/LightRocket)

 

بالنّسبة لتونس ولاعتبارات الجغرافيا والاقتصاد والسياسة، ليس سؤال الجوار المغاربيّ محض مسألة إقليمية، ولعلّنا نذهب إلى حدّ القول بصعوبة تمييزه عن سؤال الدّاخل. ففي رأس الجدير وبن قردان تذوب الفوارق مع جميل ورقدالين وزوارة وبقيّة مدن الشريط الساحليّ وصولًا إلى الحاضرة طرابلس، بما يكتنزه ذلك الشريط من ثراء ثقافيّ واجتماعيّ. وفي الذهيبة مدخل صحراويّ للجبل الغربيّ الليبيّ الزّاخر تضاريس وثقافة واجتماعًا واقتصادًا ومنه إلى الصحراء الليبيّة وامتدادها في إقليم الفزّان.

من الزاوية الجزائريّة يسود انطباع مُعقّد فيه الكثير من الحقيقة فحواه لوثة من انتهازيّة تونسيّة تاريخيّة في التّعامل مع الجزائر منذ الاستقلال

وفي أقصى الجنوب التونسيّ، برج الخضراء، بوّابة لتاريخ زاخر بالتّجارة الجزائريّة الليبية التونسيّة مع إفريقيا عبر غدامس العريقة... تلك المدينة التي تتجسّد فيها واقعًا لا شعارًا روح وحدة بلاد المغرب. ومن الجهة الغربيّة، حسبنا قسنطينة بأسماء أحيائها باردو والسويقة وباب الجديد، وحسبنا تاريخ فروع الزيتونة في مدينة الجسور المعلقة وفي عنابة دليلًا على ارتباط لا يختزله سرد أو وصف لامتداد الجزائر تونسيًّا وامتداد تونس جزائريًّا.

اقرأ/ي أيضًا: قيس سعيّد رئيسًا: "هبّة الصّندوق" وأسئلة السّلطة الثلاثة.. سؤال الدّاخل (1)

المسكوت عنه في العلاقات مع الجوار الجزائريّ الليبيّ

لا بدّ من الإقرار بأنّ أوّل خطوة في استرجاع عنفوان علاقات تونس بجوارها تتمثّل في طرق المسكوت عنه وكسر ما استقرّ من وعي مُشوّه حول الجوار الليبي الجزائري في التصوّرات والسلوكيّات السائدة والمجال الإعلامي والنّخبوي.

فمن الزاوية الجزائريّة، يسود انطباع مُعقّد فيه الكثير من الحقيقة فحواه لوثة من انتهازيّة تونسيّة تاريخيّة في التّعامل مع الجزائر منذ الاستقلال وما بدا تخلّيًا عن وحدة مسارات التحرّر في شمال إفريقيا. وعلى نفس النّحو كانت العشريّة السوداء وما شابها من تضييق على دخول الجزائريّين وإهانة بعضهم أحيانا في تونس ووصمهم بالإرهاب نقطة سوداء في تاريخ العلاقات مع الجوار الغربيّ. في المقابل من حقّ الجزائريّين أن يعتبروا أنّهم لم يبخلوا أبدًا في مساعدة تونس ماليًّا وطاقيًّا وأمنيًّا. ولقد آن الأوان للبتّ في هذه الصفحات الرماديّة التي نتحمّل فيها كتونسيّين المسؤوليّة بكلّ شجاعة ونزاهة وصراحة لبناء مستقبل جديد في العلاقات مع الجوار.

إنّ استعادة العنفوان في العلاقات مع جوارنا الشرقيّ يبدأ بكسر تلك الصّور النمطيّة التي تختزل ليبيا في مجال صحراوي غنيّ بالبترول ومجتمع قبليّ

وإذا كنّا نروم التأسيس لمجال جزائريّ تونسيّ حقيقيّ فلا يجب أن يكون لمبدأ المعاملة بالمثل أيّ اعتبار: لتبدأ تونس بتسهيل الإقامة والتملك والعمل للجزائريّين دون شرط أو قيد، ولتبدأ تونس برفع كل القيود على السلع الجزائريّة اللهمّ ما يتعلّق منها بالشروط الصحية والفنية.

أمّا بخصوص ليبيا، فيجب أن نعترف أن نظرة تبسيطيّة تنطوي على لوثة استشراقية تهيمن على الفهم التونسي السائد لليبيا ولليبيّين. لقد آن الأوان لكي يفهم التونسيّون الرسميّون أوّلًا أن ليبيا لا تُختزل في القبائل على أهمّية المكوّن الاجتماعي الأهليّ، وأن ثراء الاجتماع والاقتصاد في ليبيا لا يمكن اختزاله في البترول أو الكسل الريعيّ، وأنّه لا يمكن التعامل مع ليبيا ولا فهم الواقع الليبيّ المعقّد بتبسيطات مخلّة بعضها غير لائق. وقد آن الأوان أن يفهم بعض التونسيّين أنّ ليبيا ليست غنيمة لا في الحاضر ولا في المستقبل، وآن أوان الترفّع عن ذلك الموقف المُخلّ المُختلّ توضيحًا وتلميحًا.

إنّ استعادة العنفوان في العلاقات مع جوارنا الشرقيّ يبدأ بكسر تلك الصّور النمطيّة، السائدة حتى داخل مؤسّسات الدولة، والتي تختزل ليبيا في مجال صحراوي غنيّ بالبترول ومجتمع قبليّ: من يعلم من التونسيّين أنّ يفرن التي لا تبعد عن الذهيبة سوى 200 كم في العمق الليبي يتساقط فيها الثلج؟ من يعلم من التونسيّين ثراء الآثار الرومانية في الساحل الليبيّ؟ ومن يعلم عمق الممارسة التجاريّة والاقتصاديّة غير الريعيّة في حواضر ليبيا؟ ألم يكن أب الاستقلال التونسيّ الطاهر بن عمّار حفيد تاجر ليبيّ استقرّ في تونس؟ من يعلم من التونسيّين أن بورقيبة كان سليل عائلة مصراتية استقرّت في حي الطرابلسية بالمنستير؟ من يستذكر أن أوّل جامعة مغاربيّة وطنيّة عصريّة كانت الجامعة الليبية بفرعيها في بن غازي وطرابلس في عهد الملك السنوسيّ؟

اقرأ/ي أيضًا: خطاب قيس سعيّد بعد آداء اليمين رئيسًا لتونس.. حماسة وتحديات كبرى منتظرة

الملفّ الليبيّ الحارق

لن يكون كافيًا في التّعاطي مع الملفّ الليبيّ الحارق الاحتماء بشعار"الشرعيّة الدوليّة". وفضلًا عن كون "الشرعيّة الدوليّة " لا وجود لها إلا في الخيال العربيّ لكون العالم بأسره يتحدّث عن القانون الدوليّ الخاضع في النّهاية لموازين القوى، فإنّ هذه "الشرعيّة" المُفترضة تترنّح بمفعول التدخّلات الإقليميّة والدوليّة وواقع المواجهة العسكريّة على الأرض. وإذا كان التونسيّون يجمعون على التطلّع لدور تونسيّ أكثر فاعليّة في خدمة الليبيّين من كلّ مشاربهم، فإنّ ذلك لا يمكن أن يكون عبر التشبّث بشكلانيّة قانونيّة على أهمّية احترام الاعتراف الدوليّ بحكومة الوفاق الوطنيّ التي يرأسها فائز السراج. وبشكل أكثر وضوحًا، فإنّ التشبّث بالشرعيّة الدولية (إن وُجدت) هي إجابة سليمة ولكنّها منقوصة على واقع أكثر تعقيدًا.

فإذا ما سلّمنا أنّ مصلحة تونس تكمن بصفة عامّة في حلّ ليبيّ مُستدام مأمول نابع من إرادة وسيادة الشعب الليبيّ، فإنّ المصلحة الجزائريّة التونسيّة وبانتظار الحلّ النهائيّ المنشود تكمن على وجه الاستعجال في استقرار المنطقة الغربيّة والفزّان، ولحمة أهلها وتماسك نسيجها الاجتماعيّ واستباق ما قد يقع من أزمات ونزع فتيلها إن أمكن.

في الواقع تحتاج تونس إلى مجال أكثر عمليّة يتوسّط هذين المستويين يتطلّب إعادة تفعيل السّفارة والبعثات القنصليّة وعدم اقتصار التّمثيل على أمنيّين حاملين للصفة الدبلوماسيّة

ومن منظور هذه الأولويّة العاجلة، أي استقرار المنطقة الغربيّة والفزّان وتماسك نسيجهما الاجتماعيّ، فإنّ الموقف من حكومة الوفاق ليس موقفًا جامعًا والاختلافات الليبيّة الليبيّة الكبرى تنعكس للأسف داخل المدينة الواحدة على تخوم الحدود التونسيّة. ومغزى ما قدّمناه هو أنّ التعاطي مع الملفّ الليبيّ يحتاج لمنطقة وسطى بين مستويين يبدو لنا أن السياسة التونسيّة الحاليّة تقتصر عليهما: المستوى الدبلوماسيّ ومجاله المؤتمرات والصالونات والعموميّات بما فيها دعم "الشرعيّة الدوليّة" من جهة، والمستوى الأمنيّ الاستعلاماتيّ في الحدود الغارق في التفاصيل الآنيّة.

في الواقع تحتاج تونس إلى مجال أكثر عمليّة يتوسّط هذين المستويين يتطلّب إعادة تفعيل السّفارة والبعثات القنصليّة وعدم اقتصار التّمثيل على أمنيّين حاملين للصفة الدبلوماسيّة. ويتطلّب هذا المجال علاقات أوثق تتجاوز الأمني لما هو اجتماعي وسياسي في خدمة السلم الأهليّة في مدن المنطقة الغربيّة بما فيها الجبل الغربيّ بمكوّناته المتعدّدة ذات التواصل التاريخي مع الجنوب التونسيّ.

إنّ إدماج جملة هذه المعطيات الاجتماعيّة والمحلية باعتبار الامتداد الجغرافيّ التونسيّ الليبيّ هو ما نعتبره ترجمة عمليّة لمبدأ مُتوافق عليه تونسيًّا وهو في هذه الحالة لعب دور إيجابيّ في الملفّ الليبيّ. وبصفة أعمّ، وحدها مقاربة أكثر صراحة وأكثر تواضعًا معرفيًا وسياسيًّا من شأنها أن تحقّ مصالح الجوار في تونس ومصالح تونس في الجوار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل نسير إلى حكومة مهام وطنيّة؟

تونس: المشهد السياسي في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية (تقدير موقف)