30-أكتوبر-2019

وأسوأ موقف يمكن لتونس أن تتّخذه هو السلبيّة التي يمكن أن ترتدّ على مصالحها ردّة عنيفة (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

شاءت الصّدف أن لا تكون عهدة قيس سعيّد اعتياديّة من زاوية صلاحيّاته الرئيسيّة، أي الخارجيّة والدّفاع، تمامًا كالظّروف التي صاحبت دخوله لقصر قرطاج يوم 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. إذ انتُخبت تونس للمرّة الرابعة كعضو غير قارّ ممثّل للمجموعة الإفريقيّة مع النّيجر وجنوب إفريقيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة. وكما هو معلوم فإنّ تونس تترأّس حاليًّا جامعة الدّولة العربيّة إلى حين تسليم العهدة بمناسبة القمّة القادمة كما أنّها تستعدّ لاستضافة قمّة الفرنكوفونيّة في غضون السنة القادمة.

ما ليس مطلوبًا هو بالتحديد ذلك البرود والهروب الذي رُوّج باعتباره تقليدًا أو عُرفًا بورقيبيًّا

وإذا كان العُرفُ الدبلوماسيّ المُتخيّل تونسيًّا يتمثّل في مقولة الحياد وسياسة النّعامة من المواقف الدوليّة إلاّ فيما ندر، فإنّ السّنتين المقبلتين لن تسمحا بذلك، اللهمّ أن تضع تونس نفسها في موقع لا يليق بتاريخها من قرطاجنّة إلى القيروان، ولا بموقعها الجغرافيّ ولا بتطلّعات شعبها الذي أهدى المجال العربيّ أملًا في مستقبل أكثر حرية وأكثر سيادة وأكثر وطنيّة ضدّ كلّ أشكال الوصاية داخليّة كانت أو خارجيّة.

اقرأ/ي أيضًا: قيس سعيد رئيسًا: "هبة الصندوق" وأسئلة السلطة الثلاثة..سؤال الجوار المغاربي (2)

مسؤوليّة تونس وتهافت سرديّة الحياد البورقيبيّ

على هذا الأساس، سيتعيّن على تونس وعلى من كلّفه شعبها بالمسؤوليّة الأولى – أي الرئيس - أن يراعي ذلك التوازن الدّقيق بين علويّة المبدأ وروح المسؤوليّة التاريخيّة من جهة، وإكراهات الواقع وضرورات بناء موقف تونسيّ مفتوح على كلّ الخطوط من جهة ثانية.

وما ليس مطلوبًا هو بالتحديد ذلك البرود والهروب الذي رُوّج باعتباره تقليدًا أو عُرفًا بورقيبيًّا، وهو في نظرنا رواية لا أساس لها. فلم يكن الحبيب بورقيبة محايدًا في الموقف من الجزائر باحتضانه جيش التحرير ورئيسها المستقبليّ الهواري بومدين رغم فصله بين مسارات الاستقلال على خلاف ما كان يراود أحلام آباء نجمة شمال إفريقيا، ولم يكن بورقيبة محايدًا في مواقفه الداعمة للتحرر في مالي والقارة الإفريقية، ولم يكن محايدًا في دعمه لاستقلال الجمهورية الإسلامية الموريتانية وتبنّي ترشّحها لعضويّة المُنتظم الأمميّ سنة 1960 على حساب علاقات تاريخية مع المملكة المغربيّة انقطعت إلى سنة 1965.

في الملفّ الفلسطينيّ تعني الشّجاعة الأدبيّة والسياسيّة الانطلاق من موت وهم الدّولتين الذي بات سرابًا بحكم الواقع وبحكم ما هو قائم من تقطيع أوصال الضفّة الغربيّة

وربّما كان بورقيبة أحيانًا متسرّعًا أقرب إلى الخطابة الصحفيّة والتسرّع العاطفيّ منه إلى الموقف السياسيّ الرصين: كذلك شكّك الزّعيم بورقيبة في الشرعية التاريخية للمملكة الأردنية الهاشمية في تصريح صحفيّ فانقطعت العلاقات مع عمّان وسارع للوحدة مع ليبيا في قصّة معروفة دون سابق إنذار ولا إعداد.

ليس هذا مجال استعراض تهافت مقولات الحياد البورقيبيّ الشّائعة، ولكنّ خلاصة ما تقدّم هو أنّ خيطًا رفيعًا يفصل بين الاتّزان والمبدأ، وأنّ الاتّزان لا يُختزل في حسابات موازين قوى الحاضر ودليل ذلك أنّ تونس لا تزال تتمتّع بحظوة خاصّة في بلاد الشنقيط رغم أنّ موقف بورقيبة في حينها لم يكن البتّة خاضعًا لحسابات موازين القوى الآنيّة: من يذكر اليوم أنّ المغرب الشقيق لم يكن مرتاحًا لاستقلال موريتانيا؟

عن الثوابت.. وإمكانيّات ترجمتها واقعًا لا إنشاء

لا حاجة لنا لتفصيل الثّوابت فهي معلومة إلاّ لمن ساءت نيّته أو تأويه، في القلب منها فلسطين ووحدة المصير مع الجوار الجزائري الليبيّ والانتماء لبلاد المغرب وحاضنتها العربية الإسلاميّة والإفريقية والمتوسّطية ولما هو كفيل بإدخال النّاس في السلم كافّة. وإذا كان الرئيس قيس سعيّد قد أكّد كلّ ذلك في خطاباته فإنّ السياسة فعل والخطاب فيها لا يعدو أن يكون جزءًا من الفعل لا اختزالًا له. ومن هذا المُنطلق فإنّه لا بدّ لتلكم الثوابت من ترجمة سياسيّة واقعيّة ونحن بصدد تحمّل مسؤولية تمثيلية لإفريقيا وللمجالين العربيّ والإسلاميّ في مجلس الأمن الدّولي: ماذا يعني الالتزام المبدئيّ بقضيّة فلسطين؟ وما الذي يعنيه التشبّث بمعاني الوحدة المغاربيّة وأفقها العربيّ والإسلاميّ؟ كيف ستحدّد تونس مواقفها من القضايا الشائكة بما فيها الملفّ الإيرانيّ واليمنيّ وربّما الفنزولّي والأثيوبيّ المصريّ؟

اقرأ/ي أيضًا: قيس سعيّد رئيسًا: "هبّة الصّندوق" وأسئلة السّلطة الثلاثة.. سؤال الدّاخل (1)

عن الشجاعة السياسيّة وضرورات الحزام الحمائيّ

في بعض القضايا سيتطلّب ذلك شجاعة أدبيّة وسياسيّة وربّما كثيرًا من العودة إلى الأصول واللبنات الأساسيّة. ففي الملفّ الفلسطينيّ، تعني الشّجاعة الأدبيّة والسياسيّة الانطلاق من موت وهم الدّولتين الذي بات سرابًا بحكم الواقع وبحكم ما هو قائم من تقطيع أوصال الضفّة الغربيّة. وربّما آن الأوان فلسطينيًّا وعربيًّا أن يتمّ وضع قضية الحدود والدولة وغيرها في أحد الرفوف وإعادة الاعتبار إلى أسس تستند للشرعيّة الفلسطينيّة والعربيّة الإسلاميّة وتلتقي مع القانون الدولي وأوّلها قضيّة اللاجئين.

ومن زاوية عمليّة، فإنّ المُشترك في أزمات المشرق العربيّ وبُعدها الأكثر مأساويّة هي قضيّة اللاجئين، السابقون من الفلسطينيّين واللاحقون بهم من السوريين والعراقيين واليمنيّين، وردّ الاعتبار لقضيّة اللاجئين الفلسطينيّين هو أيضًا البدء في تفكيك العقدة والأولى والأهمّ والأكثر رمزيّة للمنطقة بأسرها. ويمكن لتونس مسنودة بالقرار 194 لمجلس الأمن أن تحمل شُعلة هذا البُعد المُغيّب عمدًا ويمكن أن تكون الخطوة الأولى في حشد الجهود لإنقاذ الأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين) وإعادة العنفوان لدورها تثبيتًا لحقّ اللاجئين الفلسطينيّين حقًّا تاريخيًّا جماعيًّا وفرديًّا لا يسقط بالتّقادم.

سيتوجّب على تونس أن تأخذ بزمام المبادرة في ترجمة الثوابت حينًا وأن تجعل من موقعها في مجلس الأمن فرصة للمساهمة في بلورة التوافقات ونزع فتيل التوتّر أحيانًا

وبهذا المعنى، سيتوجّب على تونس أن تأخذ بزمام المبادرة في ترجمة الثوابت حينًا وأن تجعل من موقعها في مجلس الأمن فرصة للمساهمة في بلورة التوافقات ونزع فتيل التوتّر أحيانًا. وأسوأ موقف يمكن لتونس أن تتّخذه هو السلبيّة التي يمكن أن ترتدّ على مصالحها ردّة عنيفة. فالذّاكرة السياسيّة الدوليّة لا تنسى الغياب أو سياسة النّعامة في مجلس الأمن. ولا يمكن لتونس أن تتفادى هذا المأزق إلاّ بالسّعي الحثيث لتوسيع دائرة التّشاور حول مواقفها جزائريًّا ومغاربيًّا بحيث تكون مواقفها في قضايا دوليّة مُعقّدة في الأمريكيّتين وآسيا وإفريقيا رجع الصدى الجوار المغاربيّ والغرب إفريقيّ في ظلّ الاستقطاب الحادّة عربيًّا وعالميًّا.

ستُطرح على تونس أسئلة مُعقّدة بخصوص مصر وأثيوبيا وما يبدو أزمة مائيّة، وأسئلة أكثر تعقيدًا بخصوص الملفّ الإيرانيّ وما يقترن به من ملفّات إقليميّة في سوريا ولبنان والعراق واليمن ناهيك عن الملفّ التركيّ الكرديّ. وبوضوح لا يمكن لتونس أن تصوغ موقفًا منعزلًا أو مُرتجلًا بخصوص كلّ هذه القضايا ولا بدّ لها من حزام حمائيّ مغاربيّ قد يتوسّع ليشمل دولا لم تنخرط في سياسة المحاور على غرار الكويت وسلطنة عمان وإلى حدّ مّا الباكستان.

ستكون عُهدة الرئيس قيس سعيّد استثنائيّة وتاريخيّة شاء أم لم يشأ، وحدها قدرته على ترجمة الأقوال والمبادئ والثوابت أفعالًا وسياسات ستكون المُحدّد في النّجاح والفشل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الثورة الثقافيّة مُنجَزٌ أم مشروع للإنجاز؟

خطاب قيس سعيّد بعد آداء اليمين رئيسًا لتونس.. حماسة وتحديات كبرى منتظرة