مقال رأي
أصبحت تصريحات وزير الاقتصاد والتخطيط التونسي، "الوزير الخارق" (super-minister) نظرًا لجمعه عددًا من الوزارات التي جعلت منه في موقف الإشراف على التوجهات الاقتصادية والمالية للحكومة ومن ثمة إشرافه على المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أصبحت هذه التصريحات النادرة ربما بذات أهمية تصريحات الرئيس نفسه وأحيانًا ربما أكثر تعبيرًا عن التوجه العملي للدولة.
هذه الثنائية بين شخصين يحملان للمفارقة ذات اللقب، تعكس ثنائية نظام الحكم الحالي نفسه، الرئيس الذي يملك رسميًا كامل صلاحيات السلطة التنفيذية، وهو عمليًا قادر على تفعيل ذلك متى أراد، مقابل دولة "الإدارة/التكنوقراط والسلاح"، القوة الباردة والقوة الصلبة، وهي الفاعل العملي للدولة. لا يوجد تناقض كما سنرى بل "تمايز"، أحيانًا هامش واضح من الاختلاف بين "طموح" الرئيس و"عقل" الدولة البارد.
أصبحت تصريحات وزير الاقتصاد والتخطيط التونسي مؤخرًا وهي تصريحات "نادرة" ربما بذات أهمية تصريحات الرئيس نفسه وأحيانًا أكثر تعبيرًا عن التوجه العملي للدولة
نقلت وسائل الإعلام التونسية، منذ أيام قليلة، وبالتزامن مع ظهور الوزير سمير سعيّد في جلسة علنية للبرلمان التصريحات التالية: "أن اتفاق تونس مع صندوق النقد الدولي يبقى مهمًا وإذا لم نصل إلى اتفاق سواء مع الصندوق أو مع البديل الذي ليس لدينا الآن، سيكون لنا ترقيم سيادي ضعيف".
وأضاف: "لا يمكن لتونس اللجوء إلى السوق الدولية للاقتراض...إن الاتفاق ضرورة حتى تكون لدينا إمكانيات لتنفيذ مخطط التنمية". وقال كذلك: "قمنا بمقترحات وسنحسنها وسنوجهها في اتجاه ما طلبه ("سنراعي") رئيس الجمهورية ونأمل التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي في أقرب الأوقات.. سنراجع وثيقة الاتفاق والمقترحات التي هي مقترحاتنا لأننا نحن من سعى إلى الصندوق وليس العكس".
وقد سبق للوزير سمير سعيّد أن قال نفس المعاني على هامش ندوة حول الاستثمار في إفريقيا جنوب الصحراء. كرر نفس العبارة: "مراعاة" طلب الرئيس. السؤال المركزي الذي سنطرحه هو التالي، كيف يراعي من هو أدنى مرتبة "طلب" من هو "أعلى مرتبة"؟
على عكس تصريحات الرئيس التونسي، صرح وزير الاقتصاد في أكثر من مناسبة وآخرها منذ أيام في البرلمان أن "اتفاق تونس مع صندوق النقد يبقى مهمًا وأنه لا بديل لديه الآن"
من الواضح أن الرئيس التونسي قيس سعيّد قادر على إعفاء أي وزير في الحكومة، وأيضًا رئيسة الحكومة التي عينها بنفسه. بالمناسبة هناك جدل متكرر في الكواليس حول "تحوير حكومي وشيك"، وسبق أن أشرنا إلى هذا الجدل.
وسنكتفي هنا بالإشارة ربما إلى أن الرئيس متردد بين تغيير نجلاء بودن، بموال من الإدارة (ربما أحد الوزراء الحالين) مقابل موال "من المشروع" (ربما غير منتم أصلاً للحكومة). في كل الحالات إن زاد جدل على أمر ما علنًا ربما ذلك ليس الوقت المتوقع لوقوعه، إذ يبدو قيس سعيّد ميالاً إلى "مفاجأة" الرأي العام وتجنب "المتوقع".
الرئيس التونسي أثبت مرارًا أنه معني بالإعلانات السياسية المعبرة عن "إرادة الشعب" وأنه موضوع تآمر دائم من داخل الدولة (من قبل من "يريدون تفجير الدولة من الداخل")، والدولة بما هي النخبة وهو بما هو الشعب. وبالتالي هو في صراع ظاهر بالضرورة حتى مع من يعيّنه من التكنوقراط.
لكن الرئيس يعلم أيضًا أن ليس لديه بدائل أخرى غير صندوق النقد الدولي، ويترك المهمة "النجسة" للتعامل مع المنظومة الدولية، المتآمرة بالضرورة هي أيضًا، للإدارة التونسية، كأنها قفازه الذي يستعمله لتجنب "نجس" النخبة الدولية المعادية للشعب. وبالتالي يترك دائمًا وباختياره الإدارة لكي تكون كبش الفداء القادم في حالة نشوب أي أزمة.
يعلم قيس سعيّد أن ليس لديه بدائل أخرى غير صندوق النقد ويترك المهمة "النجسة" للتعامل مع المنظومة الدولية، المتآمرة بالضرورة هي أيضًا، للإدارة التونسية، كأنها قفازه الذي يستعمله لتجنب "نجس" النخبة الدولية المعادية للشعب وبالتالي يترك دائمًا وباختياره الإدارة لكي تكون كبش الفداء القادم
الوزير سمير سعيّد هو أيضًا من يعلن مواقف الدولة الحاسمة في خصوص البديل الاستراتيجي أي موضوع "البريكس" إذ قال الوزير سعيّد: "إن حجم الاقتصاد التونسي لا يؤهل البلاد للالتحاق بمجموعة "بريكس" لكننا لا نستثني أي تكتل أو جهة يمكن التعامل معها لما فيه مصلحة تونس بما في ذلك هذه المجموعة. إن الهدف من "البريكس" هو خلق منافس للقطب الغربي.. يجب أن نكون واقعيين حول حجم تعاملنا مع هذه الدول وهو حجم متواضع نسبيًا".
وختم سمير سعيّد في هذه النقطة: "عمليًا موقعنا الجغرافي يحتم علينا أن تكون علاقاتنا متميزة مع أوروبا والاتحاد الأوروبي وكذلك إفريقيا التي تشكل فرصة كبيرة إلا إن تعاملنا مع هذه الأخيرة متواضع و لم يتعد 3 بالمائة".
الوزير سمير سعيّد هو أيضًا من أعلن مواقف الدولة الحاسمة في خصوص البديل الاستراتيجي المتداول أي موضوع "البريكس" إذ قال "إن حجم الاقتصاد التونسي لا يؤهل البلاد للالتحاق بمجموعة "بريكس"
وعمليًا الرئيس في تونس أعلن مرارًا رغبته في رؤية توازنات دولية جديدة، ويرى تطورها وإمكانية استقرار العالم على وضع جديد، لكنه يعلم أيضًا أننا لم نصل إلى تلك المحطة، وأن تونس خاصة غير معنية بعد بتغيير ولاءاتها الجيوسياسية التقليدية وهو بذلك يبحر بين الخيوط الرفيعة والرقيقة للعالم الجديد الناشئ.
إذًا نحن لسنا إزاء صراع وجود بين الرئيس والدولة. بل التقاء موضوعي، يصل في ملفات معينة إلى حالة تعارض، ثم انزياح أحدهما لصالح الآخر. يمثل الرئيس بهويته الشعبوية "الروح السياسية" للدولة أو "المتخيل"، في حين تمثل "الروح العملية" للدولة آداءها الروتيني.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"