21-يناير-2024
المكتبات العمومية في تونس

وزارة الثقافة التونسية تقول إن عدد المكتبات العمومية في تونس إلى حدود سنة 2016 بلغ 371 مكتبة عمومية (صورة توضيحية/ getty)

مقال رأي 

 

منذ أسابيع خلت، حثّت أستاذة مادة اللغة العربية بأحد المدارس الإعدادية التونسية تلامذتها على الاشتراك في المكتبة العمومية المجاورة ورغّبتهم في استعارة الكتب وتقضية جزء من وقت فراغهم في المكتبة قصد تنمية مهاراتهم في اللغة والكتابة وحملهم على الحلم عبر الروايات والقصص.

توجه أغلب التلاميذ إلى المكتبة العمومية لاكتشاف هذا الفضاء الذي لا يعرفونه من قبل بحثًا عن العالم الجميل الذي حدثتهم عنه أستاذة اللغة العربية، فوجدوا في انتظارهم إدارة بيروقراطية وكلاسيكية طلبت منهم جملة من الوثائق ومبلغًا ماليًا زهيدًا ثمنًا للاشتراك، ومن بين الوثائق التي فاجأتهم هي "ظرفان متنبران" عليها عنوان الولي.. حتى أن الصديق الذي نقل لي هذه الحكاية قالت له ابنته: "أبي ما معنى (ظرفان متنبران) ونحن في زمن التراسل الإلكتروني؟".

تونس لها تاريخ طويل في مجال المكتبات أسهم في تأسيس ثقافة التونسي وفكره التنويري، والمكتبات العمومية كانت مشاريع أساسية من مشاريع دولة الاستقلال

هذه الحادثة جعلتني أقلّب في موضوع ثقافي حارق ويهم تقريبًا كل التونسيين من مختلف الشرائح الاجتماعية والعمرية وهو "المكتبات العمومية" التي كانت مشاريع أساسية من مشاريع دولة الاستقلال وأسهمت في نحت كيانات أجيال ونخب هي من تقود البلاد الآن كل في المجالات.

هذا المشروع الذهبي الذي انطلق منذ بواكير الاستقلال، ما هو واقعه الحالي؟ هل حايث المستجدات التي طرأت على عالم الكتاب والمكتبات؟ وأي مصير ينتظر المكتبات العمومية في ظل الثورة الاتصالية ذات الإيقاع العاصف والسريع؟

قبل الخوض في تسمية ما يعرف في الزمن الحاضر بالمكتبات العمومية، تجدر الإشارة إلى أن تونس لها تاريخ طويل في مجال المكتبات أسهم في تأسيس ثقافة التونسي وفكره التنويري، ففي الثلاثة القرون الأخيرة، كانت الجوامع والمساجد كمؤسسات دينية تنهض بهذه المهام، فنجد أقدم المكتبات بكل من المدينة العتيقة على غرار "مكتبة جامع الزيتونة المعمور" و"المكتبة العامة" والتي تأسست سنة 1885 (وقد تحولت فيما بعد إلى المكتبة الوطنية في نهج العطارين) و"مكتبة الخلدونية" التي تأسست سنة 1901 و"مكتبة التلميذ الزيتوني" التي تأسست سنة 1942 و"مكتبة مسجد بيت الباشا بباردو" و"مكتبة بيت الحكمة بالقيروان"..

 

 

هذا التاريخ الطويل، مهّد بشكل من الأشكال إلى تأسيس المشروع الثقافي المعروف بالمكتبات العمومية زمن الاستقلال مع وزراء ثقافة كانوا بهواجس إبداعية وفنية ورؤى استراتيجية، وكانت لديهم مشاريع مؤسسة في اتجاهات الفنون والآداب والمعارف وهم: الشاذلي القليبي ومحمود المسعدي والبشير بن سلامة.. وغيرهم.

وقد ذهب المؤسسون أثناء تجسيدهم للمشروع بداية من سنة 1972 إلى إنشاء مكتبة عمومية في كل معتمدية، وكانت هذه المكتبات بعضها مستقل وله مقر خاص به ويكون عادة قريبًا من المؤسسات التربوية والبعض الآخر مرتبطًا بمقرات دور الشعب التي أصبحت تسمّى أواخر السبعينات بدور الثقافة، وبالتوازي مع هذا المشروع، تم إنشاء إدارة عامة للمطالعة العمومية في صلب وزارة الثقافة عهدت إليها فيما بعد شبكة المكتبات العمومية وهي التي تقوم بتزويدها بالكتب والإصدارات والمصنفات باللغات الثلاث (العربية والفرنسية والإنجليزية) وتوفر لها الاشتراكات في الصحف والمجلات التونسية والأجنبية.

ويأتي ذلك ضمن مشروع وطني همّه الأساسي بناء مجتمع تونسي جديد ورسم شخصية جديدة متماسكة وقوية ولها جذور ضاربة في التاريخ، كان الاستعمار الفرنسي قد أمعن في تشويهها وتشتيتها وإضعافها لعقود.. وأيضًا إيمانًا بأن دور المكتبات العمومية هو رفع الجهل ودحر الأمية وتنمية الذوق العام وفي الوقت نفسه، التكامل مع المشروع التربوي الذي انطلق هو الآخر في نفس اللحظة التاريخية.

تتمركز بالعاصمة تونس 13 مكتبة عمومية من أشهرها "مكتبة نهج يوغسلافيا" و"مكتبة باب الأقواس" و"مكتبة نهج الديوان" و"مكتبة نهج فلسطين" و"مكتبة حي الزهور"

وحسب منشورات موقع وزارة الشؤون الثقافية التونسية فإن عدد المكتبات العمومية وإلى حدود سنة 2016 بلغ 371 مكتبة عمومية موزعة بين مكتبات للكهول والشباب وأخرى للأطفال، كما يوجد 32 مكتبة متنقلة مهمتها الذهاب إلى الأرياف وتوفير الكتب والأنشطة المتعلقة بالمطالعة وهي تغطي مجال 1736 تجمعًا سكنيًا. وتتمركز بالعاصمة تونس 13 مكتبة عمومية من أشهرها "مكتبة نهج يوغسلافيا" و"مكتبة باب الأقواس" و"مكتبة نهج الديوان" و"مكتبة نهج فلسطين" و"مكتبة حي الزهور".

أما تزويد هذه المكتبات بالكتب فيرتكز أساسًا على اقتناءات إدارة الكتاب والمطالعة العمومية من قبل الكتاب المبدعين والباحثين ضمن سياسة دعمها لهم بتخصيص أكثر من مليوني دينار سنويًا لهذا الجانب، حيث تقوم الوزارة بتوزيع الكتب المقتناة سنويًا على المكتبات العمومية هذا فضلًا على منشورات وزارة الثقافة نفسها واقتناءات أخرى من معارض الكتاب الوطنية والعربية والدولية، كما تتلقى المكتبات العمومية هبات في شكل مكتبات خاصة من قبل مثقفين وكتاب وشعراء.

تحولت المكتبات العمومية إلى فضاءات إدارية ثقافية باردة وطاردة وتقدم خدمات قديمة بموظفين كلاسيكيين وأساليب عمل متقادمة غير جاذبة للمتلقين

هذه المكتبات ورغم المجهودات المعرفية والثقافية الجبارة التي قامت بها على مرّ تاريخها، فإنها ومع تطور الحياة وانجذاب البشرية نحو الفضاء السيبرني، وفتور العلاقة بالمنشورات الورقية بما في ذلك المواطن التونسي، تحولت المكتبات العمومية إلى فضاءات إدارية ثقافية باردة وطاردة وتقدم خدمات قديمة بموظفين كلاسيكيين وأساليب عمل متقادمة غير جاذبة للمتلقين، كما لم تخطط المكتبات العمومية بجدية لإنقاذ نفسها من الاندثار والتفكير بجدية في الاستمرار والتواصل.

هذه المكتبات العمومية التي تقدم خدمات جليلة للمجتمع التونسي، لا بدّ من التفكير حولها استراتيجيًا من أجل إنقاذها، ولا يكون ذلك كذلك إلا بدعمها بإنترنت عالية التدفق تكون مجانية لرواد المكتبات وإحداث غرف بحث إلكتروني مرتبطة بمكتبات عالمية والذهاب إلى تشبيك المكتبات العمومية جميعها ورقمنة المحتويات وتبادل الكتب فيما بينها وإعادة تنظيم مسألة إعارة الكتب على نحو إداري يسير، وتنظيم لقاءات دورية مع الكتّاب والسعي إلى أنشطة لها علاقة بباقي الفنون الأخرى.

كما يجب الذهاب في صيانة هذه الفضاءات صيانة جمالية وتوفير كراس وطاولات مريحة للرواد وأدوات عمل متطورة من حواسيب ولوحات لمسية وآلات طباعة وتصوير فوتوغرافي.. وإيلاء الكتاب المسموع العناية القصوى وتقديمه للروّاد العاديين ولأصحاب الهمم من فاقدي البصر.

لا بدّ من دعم المكتبات العمومية في تونس بإنترنت عالية التدفق تكون مجانية لرواد المكتبات وإحداث غرف بحث إلكتروني مرتبطة بمكتبات عالمية

كل هذه المراجعات تتطلب ثورة تشريعية تهم كل شيء له علاقة بالمكتبات العمومية وخصوصًا تهم فريق العمل بالمكتبة، فلمَ لا يقع تطوير طرق الانتداب للمكتبيين والمختصين في الأرشيف ومنشطي المكتبات وتقنيي الإنترنت والإعلامية والاتصاليين وعملة الصيانة والنظافة؟

كما يجب أيضًا تمكين المكتبات العمومية من آليات التصرف الإداري والمالي ومنحها ميزانية محترمة حتى يتسنى لها النشاط بحرية وتنفيذ برامجها في علاقة بالمثقفين والمبدعين ومع مهنيي الكتاب على غرار ما حصل مع المكتبات الجهوية التي حصلت سنة في 2017 على أمر حكومي متعلق بضبط تنظيمها الإداري والمالي واعتبارها مؤسسات مستقلة تخضع للمراقبة فقط.

يجب تمكين المكتبات العمومية في تونس من آليات التصرف الإداري والمالي ومنحها ميزانية محترمة حتى يتسنى لها النشاط بحرية وتنفيذ برامجها

كما بات من الضروري الآن أن تتواصل المكتبات العمومية ضمن أطر القانون مع شركاء من المجتمع المدني المختص والمهتم بالكتاب والنشر والتوزيع وأنشطة التحفيز على المطالعة والانشغال بالكتاب.. من أجل رسم أفق أفضل لصالح الأجيال القادمة.

ولا بدّ أيضًا للانتباه إلى خطورة عزوف المجتمع التونسي على الكتاب والمطالعة، والتراجع الكبير لعدد رواد المكتبات. ومعالجة ذلك في جزء منه لا يكون إلا بتطوير شبكة المكتبات العمومية وإحيائها على نحو عصري.

 رغم الندوات واللقاءات العديدة التي قامت بها الوزارة أو الشركاء من المجتمع المدني والتي طرحت قضايا ومشاغل المكتبات العمومية، فإن واقع المكتبات العمومية التونسية لم يتغير ومازال يراوح مكانه، ومازال الراغب في دخول عالم الكتاب والمطالعة العمومية يبحث عن ظرف وطابع بريدي وصورة شمسية من أجل الالتحاق.. فإلى متى؟  

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"