23-مايو-2023
جزيرة قرقنة

الأدب الجُزري أو الجزيري هو من الأجناس الأدبية ذات العلاقة بالجُزُر وعوالمها (جزيرة قرقنة/ فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

ملايين الجزر على كوكب الأرض، تملأ المحيطات والبحار تُشيع النَّفسَ الجمالي للعابرين حذوها، وتبعث غموضها للرّاسين على عتبات شواطئها، وتمنح سحرها وفتنتها الكامنة  للمغامرين الذين تجشّموا تسلق جبالها ودخلوا غاباتها الظلّيلة وشربوا من زلال عيونها الجارية.

ليست كلّ الجزر آهلة بالسكّان، لكنها عامرة بالأسرار والقصص والأساطير وعناصر التفرّد ونسيج من التاريخ يستدلّ عليه بالمواقع والمعالم الأثرية وبالحقائق الواردة في الكتب والمصنفات.

سكان الجزر يتميزون عن باقي سكان البرور بخصوصيات متفرّدة تهمّ التركيبة النفسية والسّلوكات الاجتماعية، فهم حذرون دومًا من المجهول القادم من البحر

أما الجزر العامرة والتي سكنها الإنسان منذ الأزل فهي تبدو للرائي أو الزائر منذ الوهلة الأولى أمكنة جاذبة للتريّض والتنزّه والتمتع بجمال الطبيعة الباذخ، لكنها في جوهرها تتحوّز على خصوصيات سوسيولوجية وتاريخية كثيرة وموروث حضاري إنساني لا مثيل له.

سكان الجزر أو الجزريون يتميزون عن باقي سكان البرور بخصوصيات متفرّدة تهمّ التركيبة النفسية والسّلوكات الاجتماعية، فهم حذرون دومًا من المجهول القادم من البحر، لذلك لا تجدهم يسكنون على الشواطئ مباشرة بل يتخيرون أماكن في قلب الجزيرة، وعادة ما تكون التجمعات السكنية الجزرية مسوّرة ومحروسة الأبواب أما منازلهم فهي تشبه التحصينات الدفاعية حيث تجد الآبار وفسقيات المياه الواسعة وغرف المؤونة والسلاح وأماكن العبادة.

تبني شعوب الجزر ملاحمهم وموروثهم الشفوي الحكائي الشعبي على نحو مغاير، فهم عادة ما يحوّلون انتصاراتهم وانكساراتهم وهزائمهم إلى أغان وأهازيج

أما علاقتهم بالبحر ففيها من الغرابة الكثير، فهي تبدو في مخيالهم المرجعي مزدوجة البناء والمصير، فيكون البحر مصدرًا من مصادر الخير والحياة والتبادل التجاري والسفر إلى أرض الله الواسعة من أجل العمل وجلب الخيرات، وهو في الوقت نفسه أيضًا يعتبر مصدرًا من مصادر الخطر والمداهمة في أيام الحروب والقرصنة والتغاور البحري.

كما تبني شعوب الجزر ملاحمهم وموروثهم الشفوي الحكائي الشعبي على نحو مغاير، فهم عادة ما يحوّلون انتصاراتهم وانكساراتهم وهزائمهم إلى أغان وأهازيج، وخلق أعياد ومناسبات خاصة ببعض الأحداث كما يطلقون أسماء بعينها على أماكن وشواطىء تخليدًا لذكريات حدثت. ومع مرور الوقت والزمن، يتحول ذاك الموروث في كليّته إلى أساطير ملهمة وإلى مادة مغرية للسياحة وشتى أغراض الفنون.

 

 

"الجزرية" هي مفهوم معقد يتداخل فيه السياسي والحضاري والتاريخي والسوسيولوجي والأنثروبولوجي.. أما المادة المستخلصة من ذاك المفهوم فهي للنظر والتدقيق والتيه في بديع الإنسان. ومن أجل تبيان قِدَم "الجزرية " تاريخيًا فإننا نجد الشاعر الإغريقي "هوميروس" يتحدث في ملحمته الشعرية الخالدة "الأوديسة" عن أجمل جزر البحر الأبيض المتوسط في أكثر من مقطع شعري فيصورها كأمكنة للمغامرة واكتشاف المجهول.

أما في ملحمة الملك السومري "جلجامش" الذي تحول بعد موته إلى بطل ميثولوجي في بلاد الرافدين، فإن الجزر تحضر كمكان خال يطيب للآلهة الاسترخاء في ظلاله، كما تصور ذات الملحمة  البطل "جلجامش" وهو يستدلّ بالزّهرة الخالدة في جزيرة "دلمون".

أصبحنا نتحدث اليوم عن "أدب الجزر" أو "الأدب الجزري" أو "الأدب الجزيري" والمقصود بذلك هو كل الكتابات السردية كالرواية والمسرح والقصة وسرد الرحلات واليوميات والمذكرات والشعر

في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، وبفضل الدّراسات التي قامت بها شتى العلوم الإنسانية توضح مفهوم "الجزريّة" أكثر فأكثر بل وتوسّع ليشمل أقسامًا مستحدثة من أبرزها الجانب الأدبي، فأصبحنا نتحدث اليوم عن "أدب الجزر" أو "الأدب الجزري" أو "الأدب الجزيري" والمقصود بذلك هو كل الكتابات السردية كالرواية والمسرح والقصة وسرد الرحلات واليوميات والمذكرات والشعر.. وذلك فضلًا عن السينما الجزرية والرسم الجزري والفوتوغرافيا الجزرية والغناء الجزري.

وقد أثمر المنحى السردي للأفنية الجزيرية مدونة خاصة بأدب الجزر غذّت بدورها الأدب الإنساني عامة ومن أشهر الكتاب الجزريين المعاصرين الذين أعلوا من قيم الجزيرة وأدبها ومخزونها التاريخي والحضاري.. نجد الكاتب والشاعر المارتينيكي  "إيمي سيزار" الذي يعد أحد أبرز وجوه تيار "الزنجية" في الشعر الفرنكفوني ورمزًا من رموز الحركات المناهضة لاستعمار الشعوب.

تملك تونس 60 جزيرة وجزيرة صغيرة توجد قبالة 6 ولايات ساحلية هي: بنزرت وتونس العاصمة والمنستير ونابل وصفاقس ومدنين

وتونس كبلد عربي مطل على البحر الأبيض المتوسط تملك 60 جزيرة وجزيرة صغيرة توجد قبالة 6 ولايات ساحلية هي: بنزرت وتونس العاصمة والمنستير ونابل وصفاقس ومدنين، ويعد أرخبيل قرقنة الأكثر عددًا حيث يحتوى على 16 جزيرة  منها (الشرقي، الغربي، الرومدية، الرقادية، سفنو...) أما الجزر الشهيرة فذكر منها: جربة وجالطة التي كانت آهلة إلى حد قريب من قبل عائلات إيطالية استوطنت الجزيرة زمن الاستعمار الفرنسي، أما اليوم فهي خالية ولا يوجد بها إلا مقرات البحرية التونسية، وجزيرتي "زمبرة وزمبرتة" وجزر "قاني"  و"القورية" و"شكلي" و"الديماس"..

لكن الجزر التونسية الآهلة بالسكان إلى اليوم هي أرخبيل قرقنة وجزيرة جربة. وهي في حقيقة الأمر جغرافيا تونسية ساحرة وزاخرة بالتاريخ والحضارة والأساطير القديمة، وقد كانت ولا زالت فضاء ثريًا وملهمًا للعديد من الكتاب والمبدعين من أبناء تلك الجزر أو غيرهم من الكتاب الذين أسرهم المكان.

الجزر التونسية أسهمت بدورها في قسم الأدب الجزري بفضل أجيال من المبدعين الذين حولوا جزرهم إلى سرد بنكهة خاصة. ولعل كتاب وأدباء جزيرة جربة يعود لهم الفضل الأكبر في إرساء أدب جزري تونسي ومنهم نذكر الكاتب والشاعر والروائي "محمد فريد غازي" (1929 ـ 1962) المختص في أدب ابن المقفع والحاصل على أول دكتوراه دولة لتونسي باللغة الفرنسية سنة 1957 وقد أشرف عليها المستشرق الفرنسي رجيس بلاشير، ومن أعماله الأدبية نذكر "الرجل الحر" وهو ديوان شعري ورواية "الهلال الأخضر يطل على الربوة". وفريد غازي هو الذي تحمل الآن دار الثقافة حومة السوق بجربة اسمه.

الجزر التونسية أسهمت في قسم الأدب الجزري بفضل أجيال من المبدعين الذين حولوا جزرهم إلى سرد بنكهة خاصة

ومن الأسماء البارزة نجد "فرحات يامون" (1945 ـ 1990) وهو كاتب مسرحي وممثل، اشتغل مع علي بن عياد في فرقة مدينة تونس للمسرح والتحق أيضًا بفرقة مسرح الجنوب بقفصة، وتخليدًا لذكراه تم تأسيس مهرجان فرحات يامون للمسرح والفنون الركحية بجربة.

الشاعر "نور الدين فارس" (1953 ـ 2016) يعد هو الآخر من الأسماء التي لمعت في جزيرة جربة ومن أعماله الصادرة: "حديث الحب والصيف والجزيرة" و"يا ذات العينين الزرقاوين" و"أنا وفارلان على نفس موجة الحلم" و"من أحزان فاقد الأشياء".

والروائي "المنوبي زيود" وقد اشتغل بالقضاء لسنوات طويلة وهو الآن محام لكنه في الآن نفسه شغوف بكتابة الرواية وله عدة إصدارات منها "رسائل مهملة" و"القاضي والبغي" و"كاميرا المتلصص" و"محاضر محفوظة" و"ليالى حارس البرج" و"اعترافات عادل وازن" (قصص).. وأغلب هذه الأعمال فازت بجوائز أدبية مرموقة على غرار جائزة توفيق بكار للرواية العربية وجائزة الكومار للنص البكر.

وأيضًا نجد الشاذلي فلاح وهو روائي وقاص يعيش في الجزيرة ومن أعماله الروائية "الحصاد" و"لعبة الزمن" و"اليد السفلى".

كتاب وأدباء جزيرة جربة يعود لهم الفضل الأكبر في إرساء أدب جزري تونسي

أما جزيرة قرقنة فقدمت لأدب الجزر العديد من الأسماء المبدعة منها الشعراء المشاهير: "رابح عز الدين" و"محمد السويسي" و"مصطفى الحبيب بحري" و"محمد صدود".. ومن الروائيين: "سمير بوليلة" و"عبد الحميد الفهري" وهو مؤرخ أيضًا وصاحب رواية "الحوماني سندور".

تقريبًا، كل الأدباء والكتاب والشعراء التونسيون من أبناء الجزر، جعلوا من "الجزيرة" كينونة يعود إليها خيالهم، فهم يجترحون الأمكنة بقلوبهم الطفولية المأسورة للضفاف، ويلاعبونها ويتحكمون فيها ويسيّرونها ويلتقطون الأسطورة ويروّضون أبطال التاريخ فيحولونهم إلى سرد مبهر.

من أعمال هؤلاء الكتاب تفوح رائحة البحر في كل أطواره، ويتأتى صخب البحّارة العائدين من فلاحة الصيد ورصد استمرار الحياة. من هذه الأعمال الأدبية نستمع إلى أنين الموج على عتبات الغروب وتحت ضوء القمر الفضي المسكوب على ردهات السمر والمناجاة.

لم يتم الالتفات إلى أدب الجُزر بالشكل المطلوب من قبل المشتغلين بالتاريخ الأدبي، كما تشح رفوف البحوث الجامعية التونسية من الدراسات المهتمة بهذا الأدب

كما وظّف كتّاب الجزر من التونسيين الحقيقة التاريخية والصراعات التي كانت دائرة خلال قرون مضت مثل الصراع العثماني الإسباني حول الجزر التونسية في القرن السابع عشر وأيام الحربين العالميتين الأولى والثانية وصراعات القراصنة في القرن الخامس عشر.

أيضا نجد الجانب السياسي، حيث لم يغفل كتّاب الجزر التونسية عن توظيف الضيم السياسي الذي تعرضت له جزرهم سواء خلال حكم البايات أو فترة دولة الاستقلال.

كما أكد بعضهم على التعايش السلمي والتضامن الاجتماعي الذي يسود مجتمعهم الصغير منذ قرون خلت وإلى الآن وخصوصًا في جزيرة جربة حيث تحضر شخصيات يهودية وأخرى مسيحية في أعمال الروائيين "الجرابة" حضورًا رمزيًا مكثفًا في إشارة إلى التجاور الديني النقي بين الأديان السماوية الثلاثة.

إن "أدب الجزر" أو "الأدب الجزري" أو "الأدب الجزيري" في تونس يمكن اعتباره قسمًا هامًا من  المدونة السردية التونسية أو بالأحرى هو ركيزة من ركائز الثقافة التونسية الحديثة والمعاصرة لتميزه وخصوصيته، لكن مقابل ذلك لم يتم الالتفات إليه بالشكل المطلوب من قبل المشتغلين بالتاريخ الأدبي، كما تشح رفوف البحوث الجامعية التونسية من الدراسات المهتمة بهذا الأدب.