"انهمرت دموعي لدى اطلاعي على نتيجة التوجيه الذي سأضطر بمقتضاه إلى مغادرة بيت أهلي نحو المبيت الجامعي بولاية المهدية.. لم أتمالك نفسي عن البكاء رغم فرحي بحصولي على الشعبة التي حلمت بدراستها منذ الصغر واجتهدت سنة البكالوريا وما سبقها لأنالها وأتخصص فيها"، تقول مريم، وهي طالبة من العاصمة نجحت في بكالوريا 2023، لـ"الترا تونس".
وتعقّب: "بما أنّ المخاوف من إمكانية رفض مطلبي في دراسة علوم الإعلامية استحوذت على جل أفكاري فإني نسيت وضع فرضية إمكانية مغادرة المنزل الذي جمعني بعائلتي طيلة 19 سنة أو يمكن أن أكون تناسيت ذلك لأبدد شبح الخوف من فراق والدي ووالدتي وأختي الصغرى"، مضيفة: "تبادرت إلى ذهني في دقائق معدودة عشرات الأسئلة، أولها كيف يمكنني العيش في غرفة المبيت بمفردي بل مشاركتها مع طالبة أخرى لا تربطني بها أي معرفة سابقة ولا علاقة صداقة ولا قرابة فأسرعت بالاتصال بصديقات البكالوريا علها الصدفة تجمعني بإحداهن تم توجيهها أيضًا إلى المهدية، وهو عزائي الوحيد وأملي الكبير، لكن للأسف تبددت آمالي ووجدت أغلب صديقاتي على الحال نفسه".
وتضيف: "انتابنا جميعًا شعور مشترك بالصدمة الممزوجة بالخوف. نعم يمكنني القول إنّ الفرحة باجتياز اختبارات البكالوريا بنجاح توقفت حينها وبدأت مرحلة ما بعد البكالوريا وتحدياتها".
مريم (طالبة) لـ"الترا تونس": فرحة نجاحي في البكالوريا تبددت بعد أن علمت أنه تم توجيهي للدراسة في جامعة بولاية جديدة.. وما أخشاه اليوم هو عدم القدرة على التأقلم مع نمط العيش بعيدًا عن عائلتي
تقول "مريم" إنّ "عدم توقعها مغادرة منزل العائلة بهذه السرعة عمّق أزمتها فقد كانت تحلم بإتمام مرحلة الماجستير في فرنسا، لكنها تعتبر أنّ وقت الرحيل عن العائلة في الـ19 لا يروقها، فهي غير معتادة على الوحدة ولا على تحمل الصعاب نعم فهي تعتبر أن تحمل مسؤولية الالتزام بدروسها في الكلية بالتزامن مع تحمل أعباء الطهو والتنظيف والإشراف على جميع مستلزماتها اليومية عملية صعبة مضنية لا قدرة لها عليها في الوقت الحاضر".
وتضيف محدثة "الترا تونس" أنّ صدمتها دامت بضعة أيام كانت ثقيلة عليها فكرت فيها مطولًا وبجدية في ضرورة تقديم مطلب نقلة لإحدى ولايات تونس الكبرى، لكن تحقيق ذلك كان أشبه بالمستحيل خاصة في ظل ارتفاع الطلب على الدراسة في جامعات تونس العاصمة وتعدد حالات رفض مطالب النقلة وفقًا لما استقته من أخبار من زميلاتها ومن سبقنها في التجربة".
"مريم" هي واحدة من آلاف الطلبة الذين يغادرون عائلاتهم نحو المبيتات الجامعية التي تضم طلبة من مختلف محافظات البلاد وتعتبر هذه المرحلة انتقالية في حياة كل طالب لما تزخر به من تجارب جديدة له
تؤكد الطالبة أنه لم يبقَ لها من خيار إلّا التأقلم مع الوضع وإقناع نفسها بأنّها بصدد الاستعداد لخوض تجربة جديدة واكتشاف الحياة الجامعية وخباياها على أمل أن تحمل التجربة في طياتها إيجابيات كانت تجهلها تتحول فيما بعد إلى ذكريات تحفر في ذاكرتها بحلوها ومرها.
"مريم" هي واحدة من آلاف الطلبة الذين سيغادرون عائلاتهم نحو المبيتات الجامعية التي تضم طلبة من مختلف محافظات البلاد وحتى من دول مجاورة. وتعتبر هذه المرحلة انتقالية في حياة كل طالب خاصة الطلاب القاطنين في المدن فهم لم يعتادوا على حياة المبيت الجامعي على عكس الطلبة المتوافدين من المناطق الريفية التي تفتقر لمؤسسات تعليمية، فهم متعوّدون منذ سن الـ12 على مغادرة عائلاتهم نحو مبيتات المعاهد نظرًا لطول المسافة الفاصلة بين منازلهم والمعاهد التي تكون على بعد مئات الكيلومترات.
- أهمية التحضير النفسي للتغيير
ويرى المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه أنه من الطبيعي جدًا أن تكون الفترة التي تتغير فيها بيئة التلميذ عند تحوله إلى طالب صعبة إذا لم يتم الاستعداد والتهيئة لها جيدًا لتجاوز صعوبتها بالمهارات المطلوبة.
وسلط الفقيه، في حديث لـ"الترا تونس"، الضوء على الصعوبات الأولى التي قد تعترض الطالب الجديد، مصرحًا: "سيتحول الطالب، الذي كان بالأمس تلميذًا، للعيش في المبيت الجامعي في بيت يشارك فيها زميلًا آخر فيضطر بذلك للقيام بواجبات غير متعود على القيام بها وهي الصعوبة الأولى التي تعترضه. أما الصعوبة الثانية فتتمثل في كيفية إدارته لشؤونه اليومية في علاقة بالطعام والإعاشة وترتيب الوقت والانضباط فتتغير بذلك المعطيات فجأة ويصبح معتمدًا على نفسه عوضًا عن الاعتماد على العائلة".
عبد الباسط الفقيه (مختص في علم النفس) لـ"الترا تونس: من الطبيعي جدًا أن تكون الفترة التي تتغير فيها بيئة التلميذ عند تحوله إلى طالب صعبة إذا لم يتم الاستعداد والتهيئة لها جيدًا لتجاوز صعوبتها بالمهارات المطلوبة
ويضيف المختص أنّ فترات التغيرات بصفة عامة هي فترات ضاغطة فيها توتر كبير ونوع من الخوف والرهبة، والتغلب على كل ذلك لا يكون إلّا بتوقّع الصعوبات والتحضير لتجاوزها، فالطلبة مثلًا بإمكانهم تعلم مهارات الطبخ في عطلة الصيف، كما لا بدّ لهم من تعلّم كيفية إدارة ميزانيتهم المالية ليحسنوا التصرف فيها، إضافة إلى أنّ التعايش داخل الغرفة في المبيت يفترض التهيئة له عبر التشارك في القيام بالواجبات اليومية كترتيب الغرفة وترتيب وقت مشترك للدراسة بهدف توفير ظروف حسنة، وذلك يعتمد على رغبة مشتركة بين الشخصين.
- الإفراط تفريط
ويعتبر الفقيه أنّ حرص الوالدين على توفير الرفاه لأبنائهم والإفراط في مساعدتهم في شؤونهم اليومية والمبالغة في ذلك يترك فراغًا كبيرًا لدى الأبناء ويولّد لديهم عجزًا عن إدارة حياتهم الجديدة وحتى إيجاد صيغة في التعايش مع أصدقائهم لأول مرة.
وأوضح في هذا الصدد أن البقاء ضمن العائلة فيه إيجابيات كبيرة باعتبار أنه لن يكون هناك خروج عن المألوف فالعائلة تقوم بجميع الواجبات وبالتالي تكون الحياة اليومية للطالب أسهل، لكن ذلك يتعارض مع مسائل أخرى على غرار عدم قدرته على الاندماج مع الآخرين باعتبار أنّ ذلك يتطلب حدًا أدنى من الاستقلالية والقدرة على التعايش مع الاختلافات واحتمال الاختلاف فليس من السهل قبول الأدوار والعادات الجديدة، حسب تصوره.
عبد الباسط الفقيه لـ"الترا تونس": حرص الوالدين على توفير الرفاه لأبنائهم والإفراط في مساعدتهم في شؤونهم اليومية والمبالغة في ذلك يترك فراغًا كبيرًا لدى الأبناء ويولّد لديهم عجزًا عن إدارة حياتهم الجديدة
وشدد المختص في علم النفس على أنّ العيش مع الآخرين دون تهيئة يعرّض الطالب إلى الصدمة، خاصة وأنّ العثور على شخصين متناسبين في طريقة العيش صعب، وهو ما يدفع العديد من الطلبة إلى طلب تغيير الرفقة في غرفة المبيت، مع ذلك فإن الفترة الانتقالية واجبة في التعليم وفي تدريب العمل وفي العمل أيضًا، بالتالي منصوح جدًا في الفترة الانتقالية في المبيت الاعتماد على النفس وتحمل الصعاب لأنها فرصة مبكرة لتجربة العيش بعيدًا.
وأشار المتحدث إلى أن تونس تشترك مع الغرب في سن العيش بعيدًا عن العائلة وهو سن الرشد القانوني، لكن تجربة الابتعاد عن العائلة يجب أن تكون مبكرة لأن ما يلاحظ هو أن جميع الأسر بداعي الاحتياط والحفاظ على سلامة الأبناء والرقابة تبقى حاضنة لهم إلى سن الشباب وتصبح في متابعة مهووسة لهم تعيقهم على التعويل على أنفسهم.
- صعوبة التأقلم بين أبناء الأرياف والمدن
شهاب شاب عشريني يزاول تعليمه العالي بالسنة الثانية حقوق بجامعة تونس المنار، استهلّ حديثه بفقرة من رواية ليلة التأبين للأديب التونسي أنيس العبيدي فيقول "نحن، الريفيون القاطنون بالعاصمة وبالمدن الكبرى، نسمي قرانا وبلداتنا التي ولدنا ونشأنا فيها "البلاد" كأنّ لا بلاد غيرها، كأن المدن التي أصبحت تحتضننا ليست بلادًا ولم توفر لنا مسكنًا تستقر الروح فيه. في المدينة أنت نكرة، أنت رقم على بطاقة الهوية (..) أما في بلدتك أو قريتك فأنت هوية اسم ولقب واسم أب وجد وعرش (..) والعبارة التونسية "نروّح" التي تعني العودة للديار لم تأت من عدم بل هي رجوع إلى الروح فلا روح لك خارج مسكنك الأول. تعود إليك روحك حينما تعاود البلاد، فخارجها أنت جسد فقط".
يقول شهاب: "نحن أبناء الأرياف والمناطق البعيدة عندما نأتي للدراسة في العاصمة تنشب بيننا علاقات وطيدة كأننا نعرف بعضًا منذ سنوات، ربّما لأننا نجد هنالك مشتركات بيننا لا نجدها مع أبناء المدن أو العاصمة".
شهاب (طالب): تأقلمي مع الحياة الجامعية كان صعبًا في البداية فليس من السهل أن يتأقلم أبناء الريف مع أبناء المدينة، فضلًا عن قسوة الحياة وضعف الإمكانيات
ويضيف شهاب أنّ تأقلمه مع الحياة الجامعية الجديدة كان صعبًا في البداية، خاصة أنه واجه متغيرات جوهرية في حياته إضافة إلى قسوة الحياة وضعف الإمكانيات، لكن ذلك كان دافعه الأول لتجاوز الصعوبات والنجاح".
وتابع: "في البداية تختلط الأمور، حياة جديدة يتغير فيها كل شيء حتى الألفاظ خاصة تلك المرتبطة بالمبيت الجامعي والمطعم الجامعي، الأمر في البداية كان بالنسبة لي معقدًا لكنني اعتدت عليه مع مرور الوقت".
ويستحضر شهاب فراقه لعائلته بالقول: "كان الفراق صعبًا، لم أستسغه في البداية، كنت أهاتف أفراد عائلتي في البداية صباحًا مساءً، لكنني لم أكن أبدي لهم أي تذمر، بالعكس كنت دائمًا أطمئنهم بأنّ الأمور تسير على ما يرام".
جدير بالذكر أنه في الوقت الذي يرفض فيه بعض الطلبة فكرة مغادرة منازلهم العائلية نحو المبيتات الجامعية، فإن التسجيل بالمبيت يكون لدى بعض الطلبة الآخرين الذين يطالبون بالحق في الإيواء الجامعي حلمًا صعب المنال في ظل محدودية طاقة استيعاب المبيتات وانخفاض نسبة الإيواء التي لم تجد لها الوزارة حلًا على مدى سنوات.
ويكون إيواء الطلبة بالنسبة لبعض الجامعات سنة واحدة وسنتين لباقي الجامعات، لكن الطلبة يطالبون بالتمديد ليتمكنوا من الاستمرار في دراستهم الجامعية نظرًا لعجزهم عن التكفل بمصاريف إيجار منازل وشقق للسكن أو الالتحاق بالمبيتات الخاصة التي تضطرهم لدفع مبالغ مالية باهظة لا قدرة لهم على سدادها.