منذ سنة 2006 وإلى حدود 2008 تاريخ صدور القانون المتعلق بالتعليم العالي والأمر الحكومي المتعلق بضبط الإطار العام لنظام الدراسة وشروط التحصيل على الشهادة الوطنية، اختارت تونس تمشيًا جديدًا في سياستها المتعلقة بالتعليم العالي والبحث العلمي بالتخلي عن نظام الأستاذية والمرحلة الثالثة والدكتوراه لصالح نظام الإجازة والماجستير والدكتوراه المعروف اختصارًا بـ"إمد". وقد صدرت لاحقًا القوانين الأساسية بالرائد الرسمي ومن ثمة النصوص الترتيبية والمناشير.
وقد فسر الخبراء وقتها الاختيارات الجديدة تفسيرات تقنية ملخصها أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى مجاراة للدول المتقدمة خاصة وأن تونس تراهن على التعليم العالي المتطور، وبأن جل الجامعات في العالم تعتمد نظام "إمد". لكن تبين فيما بعد أن الأمر يحمل مخاتلة سياسية للشعب لأن البلاد لم تكن مستعدة لهذا التحوّل الجذري والهيكلي، فلا البنية التحتية، ولا الموارد البشرية، ولا الاقتصاد الوطني على استعداد لهكذا تغيير.
انخرطت تونس في نظام "إمد" دون بوصلة وتحت ضغط الجهات الدولية المانحة مما انعكس سلبًا على التكوين والشهائد الجامعية
وقد حاولت حينها كل من نقابة التعليم العالي المنضوية تحت الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس التنبيه لخطورة ما يحدث في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي ودعوة النظام للتريث والذهاب للنقاش والحوار حول هذا الموضوع المصيري الذي يخص التونسيين.
ولكن يبدو أن السيف قد سبق العذل وانخرطت تونس في نظام "إمد" دون بوصلة وتحت ضغط الجهات الدولية المانحة مما انعكس سلبًا على التكوين والشهائد، فتراجع ترتيب الجامعات والكليات والمعاهد التونسية بشكل لافت ومخيف، كما أصبحت الجامعات التونسية تدفع بالمتخرجين إلى سوق البطالة لأن عديد الاختصاصات لا تتلاءم مع سوق الشغل المحلية والإقليمية.
مستجدّات التوجيه الجامعي
ويُسترجع الحديث حول أزمة خيارات الدولة في التعليم العالي كل سنة دائمًا بمناسبة التوجيه الجامعي. وقد أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عن جديدها بالنسبة للسنة الجامعية 2020/2019 والمتمثل أساسًا في التمييز الإيجابي للجهات الداخلية، 14 ولاية، بتخصيص 500 مقعدًا للناجحين الجدد خاصة بالشعب الأكثر استقطابًا.
كما ستُجرى دورتان للتوجيه يشارك فيهما الناجحون في الدورة الرئيسية ودورة المراقبة معًا مع إمكانية إعادة التوجيه وحصول الطلبة الجدد على كلمة العبور لأول مرة عبر الإرساليات القصيرة بدل الحصول عليها في ظرف سري كان يُسلّم في السابق من معاهدهم الأصلية.
أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عن تميير إيجابي للجهات الداخلية بتخصيص 500 مقعد للناجحين الجدد في الشعب الأكثر استقطابًا
وتمّ أيضًا الترفيع في ضوارب اللغات حسب الصيغة الإجمالية، وجعل دليل التوجيه الجامعي تفاعليًا عبر الموقع الإكتروني الخاص بالتوجيه، فضلًا على حصول الناجحين على نسخ ورقية من الدليل وإجراء ثلاث فترات للأيام الإعلامية الخاصة بالتوجيه الجامعي، أولى بالشمال بمدينة العلوم بالعاصمة (من 18 إلى 20 جويلية/يوليو) والثانية بالوسط بقصر العلوم بالمنستير (15 و16 جويلية/يوليو) وثالثة بمدينة قابس بالمعهد العالي للغات (22 و23 جويلية/يوليو).
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل تحقق هذه الحزمة من المستجدات والتنقيحات والتغييرات التي طرأت على التوجيه الجامعي أحلام ألاف الطلبة الجدد ومن ورائهم مجتمع لا تزال همته متعلقة بالدراسة وثقته عالية في الشهادة الجامعية؟
يرتبط التوجيه الجامعي بالتوجيه في المراحل التعليمية السابقة وأساسًا في المرحلة الثانوية حيث ترتبط المسالك الدراسية بالخيارات التنموية
نجح في بكالوريا 2019 أكثر من 50 ألف مترشح من جملة نحو 132 ألف تلميذ أي بنسبة نجاح 45.62 في المائة وهو رقم قد يؤثر سلبًا على عملية التوجيه في جميع مراحلها، مع العلم أن 27 ألف من الناجحين ينتمون إلى شعبة الأداب ما قد يؤكد عدم التناغم بين سوق الشغل والجامعة.
ويرتبط التوجيه الجامعي بالتوجيه في المراحل التعليمية السابقة وأساسًا في المرحلة الثانوية حيث ترتبط المسالك والشعب الدراسية بالخيارات التنموية للبلاد وبالأساس بالتوجهات الاقتصادية ذات التشغيلية العالية. لكن يبدو أن مشاريع إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي التي انطلقت منذ 2017 والتي لم تحسم إلى اليوم لم تتطرق عميقًا لفلسفة التوجيه في منظومة التعليم في تونس.
شفيق بن يوسف (مستشار في الإعلام والتوجيه): لا تنسيق بين وزارتي التعليم العالي والتربية
حمل "ألترا تونس" هذه الهواجس والتساؤلات المتعلقة بالتوجيه عمومًا والتوجيه الجامعي خصوصًا إلي المستشار في الإعلام والتوجيه بوزارة التربية شفيق ين يوسف الذي أشار، في بداية حديثه، إلى صعوبة عملية التوجيه بالنظر إلى قلة عدد المستشارين والذين لا يتجاوز عددهم 150 مستشارًا في مختلف المندوبيات الجهوية للتربية في تونس.
وأضاف أن هذه الصعوبة تدفع نحو تدني درجة الوعي بأهمية التوجيه الذي يتم بطرق عشوائية في المعاهد وهو ما يؤثر سلبًا على اختيارات التلميذ فتأتي النتائج كارثية أحيانًا، وفق قوله.
شفيق بن يوسف (مستشار في الإعلام والتوجيه): لا يوجد إلا 150 مستشارًا في تونس ما يصعّب عملية المساعدة على التوجيه
وأشار إلى أن آلاف الناجحين سنويًا في الباكلوريا يرتقون عبر آلية الإسعاف لسوء اختيار الشعبة التي تتلاءم مع إمكانياتهم، ثم يصطدمون بعقبة التوجيه الجامعي فيجدون أنفسهم في اختصاصات لا يرغبون فيها لتكون النهاية مأساوية أحيانًا وتضيع أحلام الشباب وتتعمق البطالة.
وأوضح المختص في الإعلام والتوجيه أن الأيام الإعلامية الخاصة بالتوجيه الجامعي والتي تقام بعد التصريح بالنتائج النهائية للباكالوريا "لا تفي بالحاجة" مرجعًا ذلك للحضور القليل للناجحين لأسباب عديدة منها بعد المسافة.
وأكد ضرورة تنظيم مثل هذه الأيام طيلة السنة بالقرب من التلميذ والولي داعيًا لتنظيم زيارات مختصة للتلاميذ للفضاءات الجامعية. كما شدد محدثنا، وبهدف النهوض بالتوجيه، على لزوم إنشاء مكاتب قارة للإعلام والتوجيه في كل معهد على غرار فرنسا، مهمتها مرافقة التلاميذ والاجتماع بالأساتذة والأولياء.
وبين المستشار شفيق بن يوسف لـ"ألترا تونس" أن وزارة التعليم العالي لا تنسق بتاتًا مع وزارة التربية في مسألة التوجيه الجامعي، مستدلًا بوجود 130 إجازة هذه السنة تغطي ما يقارب 400 اختصاصًا، قامت وزارة التعليم العالي بإزالة الحواجز فيها بين الإجازة الأساسية والإجازة التطبيقية وتوحيد الشهادة الوطنية دون الجلوس والتشاور مع وزارة التربية.
وقال إن المستشارين في الإعلام والتوجيه علموا بهذا التغيير عبر وسائل الإعلام، معتبرًا أن توحيد مسار الشهادتين سيؤدي إلى "اكتظاظ أمام بوابة الماجستير" ما يعني انكسارات جديدة لأحلام الطلبة على حد تعبيره.
شفيق بن يوسف: لم نعلم بقيام وزارة التعليم العالي بتوحيد الشهادة الوطنية في عدة اختصاصات إلا عبر الإعلام لغياب التنسيق مع وزارة التربية
وختم محدثنا بالتأكيد أن السياسة التعليمية في تونس بمختلف مراحلها تتطلب إصلاحات جوهرية وتنسيقًا مكثفًا مع الخبراء مع توخي المأسسة ومنظومة مترابطة ومتكاملة، مشددًا على أن التوجيه الجامعي يظل مرتبطًا بالخيارات التنموية والاستراتيجية قائلًا "حان الوقت لبعث مؤسسة تُعني بهذه المسألة حتى نتجنب الارتجال والتسرع".
بالنهاية، يظلّ التوجيه الجامعي حلقة هامة في منظومة التعليم وفي المجتمع بأسره لارتباطه بأحلام الشباب وهواجس الوطن، لكن لم تهب بعد رياح الإصلاح العميق في هذا الملف الذي لازال يُدار بنفس الأساليب البالية في مكاتب الوزارات، فيما مازال الطالب الجديد يختار مصيره العلمي بوسائل تقليدية واستشارات عائلية وسط حيرة تستبد به بعد زوال غشاوة الفرح بالنجاح.