23-مارس-2023
دراسة كبار السن

ثمّة من ظلت تكتنفهم رغبة دخول الجامعة فقرروا خوض غمار التجربة بعد الخمسين (صورة توضيحية/ Getty)

 

يبقى التعلّم هاجسًا من هواجس حسن البقاء لدى الإنسان أينما كان وأفقًا من آفاقه الأبدية التي يرنو لها دائمًا وأبدًا وشكلًا متجددًا من أشكال الإقامة على الأرض، وفتحًا مبينًا لا يلين بالجهد المنحوت والصقل في جدارن العلم والمعرفة. فالتعلّم والتّمدرس ركيزة أساسية لمجتمع متطوّر، خاصة ونحن نعلم علم اليقين أن البشرية تخرج لتوّها من زمن الأسطورة مثخنة الجراح وتعيش الآن وهنا زمن العلم ولا صنو غيره. لقد صار التعلّم أملًا وحقًا أساسيًا من حقوق الإنسان تجري به القوانين داخل المجتمعات وتنظمه وتيسّر حضوره.

وكثيرة هي المجتمعات التي ترفع شعار "طلب العلم من المهد إلى اللّحد" فلا موانع بعينها تقف أمام الرغبة في التعلم مدى الحياة، وقد ذهبت العديد منها إلى تقنين تلك الرّغبة فأصبح اكتساب المهارات والتكوين والدخول إلى الجامعات لا يحده حدّ.

ثمة أناس ظلت تكتنفهم رغبة جامحة في دخول الجامعة وقد حالت بعض العراقيل الاجتماعية أو النفسية دون ذلك، فدخلوها بعد الخمسين وأرضوا رغباتهم الكامنة

وفي تونس تطوّرت القوانين الخاصة بالتعليم طيلة القرنين الماضيين إلى درجة أصبح معها الراغب في التعلم ودخول المدارس والجامعات لا يعوقه عمر أو مال أو عمل، فالقانون يسمح لأي مواطن تونسي بأن يسجل في مرحلة من مراحل التعليم بالمجان ومواصلة الدراسة إلى حين نيل الشهادة. 

لكن ثمة أناس بعينهم ظلت تكتنفهم رغبة جامحة في دخول الجامعة وقد أعاقتهم بعض العراقيل الاجتماعية أو النفسية عن الالتحاق بها، فدخلوها بعد الخمسين وأرضوا رغباتهم الكامنة وجنحوا في سماوات حلموا بها قديمًا.

 

صورة
ثمّة من ظلت تكتنفهم رغبة دخول الجامعة فقرروا خوض غمار التجربة بعد الخمسين (Getty)

 

  • المستجوبون ممن دخلوا الجامعة في الخمسين:كسرت أحلامنا في الشباب لكننا انتصرنا في النهاية  

لطفي الجريدي، يبلغ من العمر 55 سنة، مرسّم بدرجة الماجستير بكلية الحقوق يروي قصته مع التعليم لـ"الترا تونس" بكثير من الفخر والاعتزاز قائلًا: "الدراسة تاج أضعه فوق رأسي"، مضيفًا أن المرء لا يحق له أخلاقيًا أن يفاخر بماله أو جاهه أو سلطته، وإنما بالعلم والمعرفة فقط بعيدًا عن التباهي المَرَضي حتى يكون مثالًا لغيره. 

ويروي لطفي الجريدي أنه خلال تسعينات القرن الماضي كان يدرس بالتعليم الثانوي وعندما وصل للسنة السابعة (البكالوريا) قرر فجأة الانقطاع النهائي عن الدراسة رغم تميّزه وإلحاح أساتذته بالعزوف عن ذلك، مؤكدًا أن حالة نفسية فجئية ألمّت به نتيجة فشل قصة حب جعلته محبطًا. 

لطفي الجريدي (55 سنة): عدت للدراسة بعد الخمسين وتحصلت على شهادة البكالوريا ودخلت الجامعة وتحصلت على الإجازة في الحقوق وها أنا اليوم بتّ أرنو إلى مناظرة المحاماة

يقول إنه قصد آنذاك ليبيا مع مجموعة من الشباب قصد البحث عن فرصة عمل، وهناك اشتغل في عدة مجالات وبعد سنوات عاد إلى تونس وأنشأ شركة صغيرة في مجال المقاولات وأنشأ أسرة وانشغل بالحياة، مستدركًا أنه لم ينسَ الدراسة إذ بقيت عالقة في ذهنه كالوشم فقرر العودة من بعيد، وسجل بأحد المعاهد الخاصة وأحاط نفسه بأساتذة أكفّاء. أخفق في دورة أولى لكنه نجح في السنة التي تلتها ونال بكالوريا آداب ودخل كلية الحقوق في سن الخمسين. 

يضيف لطفي الجريدي، في حديثه لـ"الترا تونس"، أنه هو نفسه لم يصدق ذلك واعتبر ما تحقق شرفًا وانتصارًا لذاته أولًا ودرسًا حيًّا أمام العائلة والأبناء. 

أما دخوله الجامعة بعد الخمسين فكان له إيقاع آخر في وجدانه ونكهة خاصة، وفق قوله، وأكد أن أساتذته بالجامعة تحولوا إلى أصدقاء لِما وجدوه فيه من إرادة ودافعية قوية تجاه الدراسة ونيل المعرفة وجميعهم شجّعه للمضي قدمًا في الجامعة وقضى سنوات الإجازة بنجاح، ثم قام بالترسيم بالماجستير بعد قبول ملفّه وقد بات يرنو الآن إلى مناظرة المحاماة، وفق تصريحه.

 

 

أما عماد الرزقي، الذي يعمل حاليًا موظفًا بوزارة التربية لأكثر من عقدين من الزمن والحاصل على شهادة  البكالوريا في  اختصاص آداب سنة 1991، لكنه ولأسباب اجتماعية خيّر العمل الإداري ولم يلتحق بالجامعة.

وقد شرح ذلك لـ"الترا تونس" قائلًا: "لقد توفي والدي في نفس الصائفة التي حققت فيها النجاح في البكالوريا وليلة وفاته أوصاني العائلة وأشقائي الصغار خيرًا. لم أصدق رحيله وكانت المسؤولية جسيمة وثقيلة أمامي، أنا الشاب الطامح بالذهاب إلى الجامعة، لكني في النهاية غالبت نفسي والتزمت بوصية والدي". 

عماد الرزقي (موظف متحصل على البكالوريا): مشاغل الحياة اضطرتني لمغادرة الدراسة بعد البكالوريا لكن هاجس دخول الجامعة ظلّ يراودني حتى قررت خوض غمار التجربة وها أنا اليوم مرسم في الدكتوراه حول موضوع يهم فلسفة التربية

ويضيف عماد الرزقي أنه  تدرج في عمله الإداري وشارك بنجاح في مناظرات داخلية خولت له العديد من الترقيات، كما أنه قام في نفس الوقت بواجبه تجاه مسارات إخوته الصغار بكل مسؤولية، فنجحوا ثلاثتهم وتخرجوا من الجامعة تنفيذًا لوصية والده وانخرطوا في حيوات مهنية محترمة وهم الآن يشقون عباب الحياة بثبات.

واستدرك محدث "الترا تونس" أن رغبته في الالتحاق بالجامعة لم تخبُ أبدًا وبقيت كالجرح المفتوح أو كالنار الكامنة  تحت الرماد، موضحًا أنه لمّا بلغ الخمسين من العمر ونجحت ابنته الكبرى في البكالوريا وأثناء النقاش العائلي بخصوص التوجيه الجامعي جمحت رغبته القديمة الكامنة، فقرر أن يدخل معها الجامعة. لم تصدق عائلته الأمر واعتبرته مزاحًا لكنه كان حقيقة وانتصارًا معنويًا قديمًا.

ويعتبر عماد الرزقي أن يومه الأول بالجامعة كان يومًا تاريخيًا أعاده إلى أرض الأحلام الأولى. ويضيف أنه سجل بقسم الفلسفة إحياءً لرغبة قديمة جدًا. وذكر أنه لم يلقَ من الطلبة الشباب إلا الاحترام والتبجيل بل تشكلت صداقات فيما بينهم  وتواصلٌ يومي فيما يخص الدروس. كما أطلقوا عليه كنية "عمّي الزّميل" وذلك من باب التندّر وكسر الحواجز العمرية، وفق توضيحه.

عماد الرزقي مرسم الآن بالدكتوراه ويشتغل حول موضوع يهم فلسفة التربية، وهو بذلك يعتبر أنه قد حقق ما كان يصبو إليه منذ الصغر كما أنه يرى الكثير من الإعجاب في محيط العائلة والعمل والأصدقاء.

 

 

ومن جهتها، "سوسن"، التي خيرت عدم الإفصاح عن لقبها، تحصلت على البكالوريا في التسعينات وتشتغل معلمة بالتعليم الأساسي منذ سنوات عديدة وقد بيّنت أنها لم تلتحق بالجامعة لأسباب عائلية صرفة خصوصًا بسبب زواجها المبكر من ابن عمها، ثم أنجبت أبناء وتدرجت في الوظيفة، وباتت تعتبر في عين المجتمع قد حققت كل النجاح.

بَيْدَ أنها تعتبرها "نجاحات منقوصة" لأنها لم تلتحق بالجامعة في الاختصاص الذي تاقت إليه منذ سنة البكالوريا عندما كان أستاذ الفلسفة يحدثهم عن "مدرسة علم النفس التحليلي" وكيف نشأت تلك المدرسة مع سيغموند فرويد، وهو اختصاص "علم النفس".

معلمة تعليم أساسي: تحصلت على البكالوريا منذ التسعينات لكنني ظللت أرنو لدخول الجامعة وهو ما حصل فعلًا في الخمسين من عمري.. وأنا اليوم بصدد إعداد ملف التقاعد المبكر من التدريس لفتح عيادة في علم نفس الأطفال

وتضيف محدثتنا أنها "بعد أن كبر الأبناء وخفّت المسؤوليات، قررت الالتحاق بالجامعة، فتقدمت بمطلب في الغرض إلى رئاسة الجامعة بتونس وتم قبول مطلبها والتحقت بقسم علم النفس بكلية 9 أفريل 1938 بتونس وصادف أن كانت سنتها الأولى في الخمسين من عمرها. 

وفي وصفها للمشاعر التي ألمّت بها يومها، تقول سوسن إنها كانت من أجمل ما عاشت لما فيها من نقاء ومحبة للعلم ورغبة في تحقيق حلم جميل مؤجل.

أما عن تجربة الدراسة فتؤكد سوسن أنها كانت رائعة وجدّ مفيدة ومُثرية لحياتها. وقد استثمرت خلالها كل تجربتها في تدريس الأطفال. وعند تخير التخصصات انتقت لها اختصاص علم نفس الأطفال، ونالت الإجازة والماجستير المهني وأصبحت "أخصائية نفسية"، وهي الآن بصدد إعداد ملف للتقاعد المبكّر والتخلي عن وظيفة التدريس والاستعداد لفتح عيادة اختصاص، وهكذا تكون قد لحقت بما فاتها.

 

  • مختص في علم النفس: الذهاب إلى الجامعة بعد الخمسين هو درس للمحبطين 

طرحنا موضوع الرغبة في الالتحاق بالجامعة ولو بعد الخمسين على المختص في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية، نوفل بوصرّة، فقال إن الإنسان يحيا بعدد الأحلام التي يتخيرها منذ التنشئة الأولى، ثمّ يعيد ترتيبها لاحقًا حسب التمشي الاجتماعي والاقتصادي للفرد داخل بيئته ومجتمعه. 

مختص في علم النفس: دخول الجامعة في الخمسين من العمر أو ما بعدها هو شكل من أشكال الترميم للذات وهو نوع من رد الاعتبار إليها أمام المجتمع الذي ألفها في صورة قديمة متهالكة ومتظاهرة بالوضوح

ويشير الأستاذ المختص في علم النفس إلى أن بعض تلك الأحلام تتعطل في الأثناء جرّاء حوادث عديدة وخاصة النفسية منها، فما يحدث عادة هو إما النّسف النهائي للحلم أو تأجيله إلى لحظة زمنية مواتية، وهو تمامًا ما حدث مع أصحاب الشهادات في هذا التقرير. 

وأوضح المختص أن الدخول إلى الجامعة في الخمسين من العمر أو ما بعدها هو شكل من أشكال الترميم للذات من قبل صاحبها بعد أن تكون قد تعرضت لحادث ما، وفي نفس الوقت هو إعادة توضيح لصورة غائمة أو نوع من رد الاعتبار إليها أمام المجتمع الذي ألفها في صورة قديمة متهالكة ومتظاهرة بالوضوح، لافتًا إلى أنه عادة ما يرافق هؤلاء طيلة حياتهم حالة من عدم الشعور بالرضاء عن النفس. 

وختم الأستاذ نوفل بوصرة تدخله بأن "هؤلاء اللذين قصدوا الجامعة بعد الخمسين يقدمون درسًا معنويًا نموذجيًا للمحبطين، لصلابتهم أمام الحوادث والعواصف التي قد تصيب النفس والمسار الاجتماعي لشخص ما"، حسب تصوّره. 

يبقى الذهاب إلى الجامعة في كل المراحل العمرية ما بعد الحصول على البكالوريا حلمًا من أحلام الإنسان أينما كان ومهما كان سنّه، وهو ما اعتبرته المجتمعات الجديدة والمتشبعة بالحضارة الإنسانية حقًّا أساسيًا من حقوق الإنسان لا بد من صيانته وتطويره لانعكاسه النفسي والنفعي على الفرد كما المجتمع.