26-مارس-2020

تداعيات وباء "كورونا" على الصحة والاقتصاد والمجتمع والحريات خطيرة مرعبة (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

مقال رأي

 

صدرت في تونس عن السلطة التنفيذية خلال شهر مارس/ آذار 2020 قرارات تدرجت شيئًا فشيئًا في الحدّ من الحركة والاختلاط بين المواطنين خاصّة في الأماكن العامّة لمواجهة فيروس "كورونا"، ففي يوم 13 من هذا الشهر ألغى إلياس الفخفاخ رئيس الحكومة كلّ التظاهرات والتجمعات والمعارض وأمر بتعليق أداء صلاة الجماعة بما في ذلك صلاة الجمعة والصلوات الخمس بالمسجد. وبعد ثلاثة أيام أعلن الفخفاخ عن حزمة أخرى من الإجراءات أهمّها غلق كلّ الحدود البريّة والبحرية، وأفضى الأمر في الأخير إلى فرض قيس سعيّد رئيس الجمهورية الحظر الصحّي الشامل على كامل تراب الجمهورية، فتمّ في سبيل ذلك الاستنجاد بالجيش لمعاضدة مجهودات قوات الأمن.

اقرأ/ي أيضًا: عراك السلطة في زمن الكورونا

من ترتيب الميداليات إلى ترتيب مرضى كورونا وقتلاها

تداعيات وباء "كورونا" على الصحة والاقتصاد والمجتمع والحريات خطيرة مرعبة،  لكنّ الظاهر أنّ فئة كبيرة من التونسيين ما زالت تواجه هذه المحنة في غير جزع ولا اكتئاب، هذا السلوك لا يرجع فقط إلى الاستخفاف وعدم الاكتراث إنما يعود كذلك إلى التعزّي بأحوال الأمم الأخرى، فعدد الخاضعين للحظر الصحي بلغ في العالم ثلاثة مليارات وعدد المصابين في إيطاليا على سبيل المثال تخطّى السبعين ألفا، ومجموع الوفيات في هذه الدولة الشقيقة فاق إلى حدود الأربعاء 25 مارس/ آذار 7500.

تداعيات وباء "كورونا" على الصحة والاقتصاد والمجتمع والحريات خطيرة مرعبة،  لكنّ الظاهر أنّ فئة كبيرة من التونسيين ما زالت تواجه هذه المحنة في غير جزع ولا اكتئاب

الصين الأولى، إيطاليا الثانية، الثانية الثالثة، ثم الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا إلخ، هذا الترتيب لا يرصد عدد الجوائز والميداليات في بعض الرياضات لا سيما الألعاب الأولمبية، إنما يحصى الأرقام المتسارعة لأعداد مرضى كورونا وقتلاها، هذا السلوك اليومي الذي انساق وراءه الغالبية بصرف النظر عن المقاصد الإعلامية والاعتبارية يوحي رغم الجهود العلمية بأنّ البشرية قد بدأت تقع في منحدر يتجه نحو قاع اليأس والتسليم والقنوط، وهي أخطر المحظورات وأسوأ المحاذير النفسية التي ينبغي تجنبها، فسائر المنافذ والحلول ومسالك السلامة والنجاة موكولة إلى الأمل والتمسك بإرادة الحياة التي تتشكل بحثا علميا وحذرا سلوكيا ودعاء إيمانيا، وتتجسد بأساليب أخرى تختلف حسب العقائد والثقافات.

كلنا في الهمّ " كورونا"

فعلًا، لقد حصل ضرب من التطبيع مع الأرقام المتزايدة لمرضى كورونا وقتلاها، قد نجد لهذه الحالة تفسيرًا تترجمه بعض الأمثال والحكم والعناوين من قبيل، "اغزر (انظر) لغيرك واستراح"، "لولا كثرة الباكين حولي لقتلت نفسي" كلّنا في الهمّ كورونا، هذه العبارات تكشف عن الخلفية الذهنية والنفسية لسلوك عامّة التونسيين الذين حافظوا على الهدوء والسكينة، بل فيهم من لم يكفّ عن التهكم والمزاح رغم الانتشار الوبائي الذي يداهمنا والتزايد المطّرد لعدد المصابين بفيروس كورنا، فقد تخطّى المجموع يوم الأربعاء 25 مارس/ آذار 173 إصابة.

اقرأ/ي أيضًا: العلاقات الدولية والكورونا

مقابل هذه "الغفلة الشعبية" التي تحتاج إلى مزيد التمعق في أسبابها وأصولها، نلاحظ قلقًا نخبويًا تشكل في أذهان المتحزبين والناشطين والسياسيين والمثقفين والحقوقيين، وقد اقترن هذا القلق في الأيام الأخيرة بالآفاق الاقتصادية ومسالك الدعم وأشكال التبرع وحدوده وخاصّة بالأداء الأمني في أيام الحظر ومسألة التفويض التي طرحتها الحكومة على مجلس النواب.

الوضع الوبائي والتفويض الاستثنائي

لو قرأ قارئ متعجلّ تلك السلسلة من الإجراءات الوقائية في غير سياقها الوبائي لتهيّأ له أنّنا في دولة قد تنكرت لكلّ القيم التي ناضل من أجلها التونسيون طيلة عقود، إذ تعطلت جلّ الأنشطة والمرافق الثقافية والدينية والخدماتية، لقد قطعت تلك الإجراءات صلة الرحم، ففرّقت بين الابن وأبيه وبين الزوج وزوجته وبين الأم وابنها، من يخطر له هذا في دولة الثورة والحرية والديمقراطية والقانون والمؤسسات؟

لو قرأ قارئ متعجلّ تلك السلسلة من الإجراءات الوقائية في غير سياقها الوبائي لتهيّأ له أنّنا في دولة قد تنكرت لكلّ القيم التي ناضل من أجلها التونسيون طيلة عقود

لا شكّ أنّ الفخفاخ وقيس سعيد قد أعرضا من خلال تلك القرارات عن عدد من فصول دستور 2014 خاصّة الفصلين 6 و24 ، فالأول يؤكّد على أنّ "الدولة كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية"، والثاني جاء فيه "لكلّ مواطن الحرية في اختيار مقرّ إقامته وفي التنقل داخل الوطن وله الحقّ في مغادرته".

لم تجد هذه القرارات صدًا أو اعتراضًا بل ثمّة من رآها متأخرة، فقد اقتنع الجميع أنّ الظرف الوبائي شأنه شأن الضرورات في الفقه الشرعي، فالوضعية الصحية الحالية العامة مفزعة خطيرة تبيح للسلطة التنفيذية عددا من المحظورات المدنية، وتدفعها دفعًا إلى اتخاذ تلك الإجراءات التي تصادر الحريات، ذلك أنّ ضمان حياة البشر وسلامتهم يرقى إلى مترتبة المبدأ الجوهري الذي ينبغي أن تنسجم معه مختلف الاختيارات والتشريعات والقوانين.

وما كانت السلطة التنفيذية لتتجرأ على تلك الخطوات لولا هذه المحنة المتفردة الخارقة، فلو حدث هذا التوجه في المقامات العادية لهبت القوى المدنية في حركة نضالية واسعة حماية لمكتسبات "ثورة الحرية والكرامة"، لكن للضرورة أحكام.

هل تحدّ الصلاحيات الاستثنائية من الرقابة المدنية؟

رغم الصك على ما يحاكي البياض، ورغم هذه المحظورات المدنية والتشريعية  التي أباحتها الفترة الوبائية، ظلت العيون صاحية ترقب كلّ انحراف أو تعسف في استعمال الصلاحيات الاستثنائية التي نالتها السلطة التنفيذية وحظيت بها حكومة الفخفاخ، هذا ما يفسر موقفين حملا بعض الحيطة والتوجس.

الأوّل تمثل في تردد بعض الكتل والعديد من النواب في تمكين رئيس الحكومة من تفويض يبيح له إصدار مراسيم طبقا للفقرة الثانية من الفصل 70 من الدستور، وكان مجلس الوزراء قد وجه يوم الإثنين 23 مارس/آذار مشروعًا يتصل بهذا المقصد لمناقشته في مجلس النواب.

الموقف الثاني المتوجس من سوء استغلال "التفويض الوبائي" عبرت عنه الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، فقد أصدرت بيانًا مساء الثلاثاء 24 مار/ آذار 2020 نبهت فيه إلى خطورة الاعتداءات المادية واللفظية الصادرة عن بعض الأعوان تجاه عدد من المواطنين ممّن لم يلتزم بمقتضيات الحظر.

إن المتطرفين في التمسك بالعقل والحداثة سبيلًا أوحد للنجاة هم أبعد ما يكونون عن الحداثة وأجهل ما يكونون بما بعد الحداثة

هذه المعطيات القانونية والأمنية والصحية تساهم في تعقيد الوضع العام وإرباكه وتحدث ثلاثة ألوان جديدة من الحرج غير المسبوق، الأول حقوقي، والثاني سياسي، والثالث يتعلق بثنائية العقل والإيمان.

أمّا الأول فمداره على صعوبة التوفيق بين التفويض لرئاسة الحكومة وأجهزتها التنفيذية من جهة وضمان كرامة المواطن وحرمة جسده وماله وعرضه من جهة ثانية، ماذا لو حصلت تجاوزات في ظلّ هذا الحظر؟ كيف السبيل إلى أداء فعل الرقابة والحال أنّ المجتمع المدنيّ في وضعية أقرب إلى العطالة بسبب إجراءات الحظر والخوف من العدوى؟ ما يخشاه المواطن هو التحوّل من التفريط في حرية التنقل والاجتماع إلى التفريط في حقوق أخرى كابد من أجل بلوغها.

الحرج الثاني يرتبط بالتوفيق بين السلامة والحقيقة، فالحظر الصحّي ساهم إلى حدّ مّا في تقييد حركة الإعلاميين، فأصبح الرهان قائمًا على تلقي الأخبار من مصادر رسمية صحيّة وأمنية، فتراجعت لأسباب وقائية عمليات المعاينة والمشاهدة والتحقّق والاستقصاء ، وقد كانت هذه الخطوات من المسالك الإعلامية الأكثر دقة وموضوعية.

الحرج الثالث يتصل بالتأليف بين الديني والعلمي، فلا شكّ أنّ التفكير العقلاني والبحث العلمي هما حبل النجاة من هذه المحنة الوبائية، لكن بأيّ منطق يستخف بعض مدعي الحداثة من اللجوء إلى الدعاء والاستغفار، ألا يتعارض موقفهم هذا مع أبجديات الصحة والشفاء، ألا يعتبر الإيمان مصدرًا من مصادر المناعة؟ ذلك أنّ الثقة في قوةٍ مُفارِقةٍ مهما كانت الديانة سماوية أو وضعية يساعد المريض على التعافي؟ ما المانع من الاستنجاد بالإيمان والخيال والأحلام وحتى الأوهام ما دامت تعاضد الجهد الطبي، الحق أقول إن المتطرفين في التمسك بالعقل والحداثة سبيلًا أوحد للنجاة هم أبعد ما يكونون عن الحداثة وأجهل ما يكونون بما بعد الحداثة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قد تغيّرنا "كورونا" إلى الأبد..

عن المستهترين بقواعد التوقي من "كورونا"