مقال رأي
يحكى أن سائق قطار رأى في منامه أنه يقود قطاره إلى وجهة مجهولة. قطار يسلك كل الطرق البرية والبحرية ويرافقه ركاب معصومي الأعين لا يعرفون عن الرحلة سوى ما يسمعونه من هاتف يحدثهم بالوصف الشاعري عن وجهة بعيدة ينسون من خلالها حياة الشقاء والفقر والظلم وينعمون بعدها بالرخاء والثراء والعدل.
لم يكن قائد القطار مرتاحًا كثيرًا لحالة العربات المتقادمة ببلور نوافذها المكسورة ودورات مياهها المفقودة فكان يجبر مساعده على النزول في كل محطة من أجل إصلاح العربات فدرجة تذمر الركاب بدأت تتصاعد من قيظ الحر وشدة الرياح وتسرب الحشرات.
كان المساعد يرى غير ما يراه قائده فكان ينزل المسافرين في كل محطة ويعلمهم بوصولهم إلى وجهتهم الموعودة. وفي كل محطة يكلف أحد معاونيه بالتخلص من العربات الهرمة المتهاوية، بينما كان القائد مستبشرًا بخفة قطاره الذي ارتفعت سرعته وقلت مطالب ركابه وحدة تذمرهم، لكنه لم يكن يعرف أن عددًا هامًا منهم قد نزل في المحطات السابقة ولم يبق منهم إلا النفر القليل، لذلك واصل يروي لهم تفاصيل العيش في الأرض الموعودة حيث لا تطؤها قدم واحد منهم إلا بعد التأكد من انفصاله عن ماضيه ويتنازل عن انتمائه إلى العائلة والقرية والمدينة وأن يتبنى دستور الأرض الموعودة.
كان القائد يقود قطاره تحت الماء وفي السحاب وبين الجبال وعندما اقترب من نهاية الرحلة، تعالت أصوات من داخل العربات تطلب النجدة.. عندها استفاق القائد على صوت قطار قادم من الوجهة المقابلة.
هكذا هو قطار تونس في مرحلة الاستثناء التي انطلقت منذ 25 جويلية/يوليو 2021، يذهب إلى جمهورية جديدة ويمر بمحطات النازلون فيها كثر والصاعدون على متنه قلة بينما يحافظ المسافرون معصومي الأعين على مكانهم في العربات الهرمة، وتحاول الحكومة عبر التخلص من العربات عبر بيعها أو كرائها توفير ثمن البنزين مع إلزام المسافرين بوجبة واحدة فيما يعدهم القائد بموائد غنية ونوم هنيء.
يقود سعيّد قطار تغيير قواعد اللعبة السياسية في تونس لكن مشروعه يبدو غير واضح للكثير من التونسيين
فهل يجب أن نخاف من تحقيق أحلامنا؟ نعم.. وفي هذه الحالة قطعاً "نعم". أن نحلم ولكن أن نتسلح أيضًا بالمعرفة الكافية ونهيئ الظروف اللازمة لتحقيق ذلك الحلم، الشيء الذي يبدو غير واضح في مشروع الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي يقود قطار تغيير قواعد اللعبة السياسية في تونس انطلاقًا من الاستشارة الإلكترونية التي شارك فيها أكثر من 500 ألف تونسي فقط، وصولاً إلى الإعداد إلى استفتاء الخامس والعشرين من جويلية المقبل الذي يتناسب مع مرور سنة على إعلان سعيّد إجراءاته الاستثنائية، وصولًا إلى الانتخابات التشريعية في الشتاء القادم.
وفي الطريق، تشتغل اللجان الاستشارية على دستور جديد و"إصلاحات اقتصادية واجتماعية" قاطعها الاتحاد العام التونسي للشغل وأحزاب المعارضة وهو ما يضع البلاد أمام تحدي شرعية ما يذهب فيه الرئيس ومشروعية نتائج مساره. فكيف يمكن صياغة دستور جديد لا يمثل الطيف الغالب من الشعب التونسي والحال أن الاستشارة التي تمثل قاعدة البناء الدستوري الجديد قد فشلت في استقطاب التونسيين على مستوى الأرقام على الأقل ولم تنشر نتائجها التأليفية إلى حد الآن، فكيف يمكن البناء على اللاشيء.
في طريق قطار سعيّد، تشتغل اللجان الاستشارية على دستور جديد وقد قاطعها الاتحاد وأحزاب المعارضة وهو ما يضع البلاد أمام تحدي شرعية ما يذهب فيه الرئيس ومشروعية نتائج مساره
المسار الذي يهدف، وفق الرئيس سعيّد إلى تحقيق ديمقراطية حقيقية، لم يستكمل أدواته الديمقراطية فقد اعتمد على المرور بقوة عندما لم يعترف سعيّد بفشل استشارته وعندما فرض طريقة للحوار اقتصرت على مسانديه وتعالت على القوى السياسية والمدنية التي تطالب بحوار كلاسيكي يخرج بحلول توافقية لمواصلة طريق ما بعد الخامس والعشرين من جويلية، وسيفرز دستورًا جديدًا يواجه برفض سياسي وانقسام مجتمعي سيما وأنه بدأ يعيد نقاشًا حول هوية الدولة استنزف جهدًا كبيرًا من القوى المدنية في الماضي القريب.
في الأثناء، يمر الرئيس التونسي الذي يجمع السلطتين التنفيذية والتشريعية، إلى السيطرة على السلطة القضائية من خلال تنقيحه لمرسوم أصدره سابقًا لتعديل تركيبة المجلس الأعلى للقضاء عبر السماح لنفسه بإعفاء القضاة وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام معركة وجود، وبين الهياكل القضائية التي توحدت للدفاع عن 57 قاضيًا تم إعفاؤهم وأعلنت الإضراب في كافة المحاكم، وهو ما سيقوض الرقابة القضائية على الاستفتاء على الدستور الجديد وربما يفتح المجال لخرق الإجراءات وحتى تزوير النتائج.
المسار الذي يهدف، وفق الرئيس سعيّد إلى تحقيق ديمقراطية حقيقية، لم يستكمل أدواته الديمقراطية فقد اعتمد على المرور بقوة
إن تمسك سعيّد بالذهاب في طريقه متجاهلاً الحتمية السياسية والقانونية واحترام الإجراءات يوسع من جبهة الرفض التي وإن لم تتوحد على هدف واحد وانقسمت بين الرافض والمقاطع والمهادن إلا أنه قد يواجه حتمية اقتصادية واجتماعية وهو الملف الذي تكلف به حكومة نجلاء بودن التي تقود القطار الذي يختفي وراء قطار سعيّد، الحكومة التي أعدت برنامج "إصلاحات" عرضته في وقت تتوجه فيه الأنظار إلى المعركة بين الرئيس والقضاة.
قد يبدو الأمر بمثابة لعبة أدوار، فعندما يطل قطار الرئيس يختفي قطار الحكومة والعكس صحيح، لكن القطاران يسيران على سكتين متوازيتين، متى سيلتقيان وأي خطر لتقاطعها أم أن لقائديهما خطة واضحة لتجنب الصدام للوصول إلى بر الأمان، وهل هناك طرف ثالث يهمه بلوغ أحدهما على الأقل إلى نهاية الطريق؟
حكومة نجلاء بودن تقود القطار الذي يختفي وراء قطار سعيّد بحيث يبدو الأمر بمثابة لعبة أدوار، القطاران يسيران على سكتين متوازيتين، متى سيلتقيان وأي خطر لتقاطعها؟
تبدو حكومة نجلاء بودن أكثر وضوحًا في اختيار هدفها المصيري وهو توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي من أجل ضمان تعبئة موارد مالية لتنفيذ "إصلاحات" في المالية العمومية وإنعاش الاقتصاد التونسي ورغم أن سعيّد يظهر في خطبه محافظة وفي كثير من الأحيان تناقضًا مع الحكومة إلا أنه لن يجد حلاً آخر إلا الذهاب في خياراتها التقشفية بل سيكون له دور أساسي وفعال في تمرير "الإصلاحات"، التي تهدف إلى رفع الدعم عن المواد الأساسية والتقليص من عجز الميزانية والحد من تضخم كتلة أجور الموظفين العموميين.
حديثنا عن الطرف الثالث وأقصد هنا الدولي، هذا المكوّن الذي تتقاطع فيه الولايات المتحدة وأوروبا وصندوق النقد الدولي والذي يملك القدرة على تعديل بوصلة الطريق. يدرك هذا الطرف جيدًا أن حالة عدم الاستقرار التي عرفتها تونس خلال السنوات الماضية منع بشكل مباشر الذهاب في إصلاحات اقتصادية ويعي أيضًا أن سعيّد هو الشخصية القوية الوحيدة القادرة على ضمان تمريرها حتى وإن أبدت في كل مرة تحفظاتها على السلوك السياسي للرئيس وخاصة تفرده بالقرار، وهو نوع من النفاق الذي تمارسه القوى الدولية تجاه أي تغيير بقوة الأمر الواقع في بلدان الجنوب.
يدرك الطرف الدولي أن سعيّد هو الشخصية القوية الوحيدة القادرة على ضمان تمرير ما يعرف بالإصلاحات الاقتصادية حتى وإن أبدى في كل مرة تحفظاته على السلوك السياسي للرئيس وخاصة تفرده بالقرار
إن وصول قطاري الرئيس والحكومة إلى المحطة النهائية يفترض أن لا يتقاطعا في محطات معينة ومنها إمكانية تردي الوضع الاجتماعي بسبب ارتفاع مؤشرات التضخم التي بلغت أعلى مستوياتها في شهر ماي/أيار الماضي ب7.8 بالمائة، وإمكانية تواصل نسق ارتفاع الأسعار لظروف موضوعية تتعلق بالحرب في أوكرانيا ومخلفات جائحة كورونا ولعوامل ذاتية تتعلق بأزمة هيكلية يعانيها الاقتصاد التونسي الذي لا يزال يشتغل بآليات قديمة تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي أو يزيد.
وما يقوي فرضية اقتراب هذا التقاطع هو اتساع الهوة بين السلطة التنفيذية والاتحاد العام التونسي للشغل سواء في علاقة بالمسار السياسي أو بالمسار الاقتصادي، فقد كان الاتحاد تاريخيًا عامل استقرار اجتماعي كلما نجحت السلطة في احتوائه فهو الوحيد في الساحة الآن الذي يملك القدرة على التعبئة وما دعوته إلى الإضراب العام في 16 جوان/يونيو الجاري إلا مؤشر على إمكانية صدام قد يوقف أو يعطل أو يربك مسار القطار الذي يخفي آخر.
إن الضبابية الناتجة عن انتشار غبار المعارك الجانبية يضع السلطة التنفيذية في تونس بقطاريها المتعجلين في المرور بقوة أمام تحدي الاصطدام
إن الضبابية الناتجة عن انتشار غبار المعارك الجانبية يضع السلطة التنفيذية في تونس بقطاريها المتعجلين في المرور بقوة أمام تحدي الاصطدام إما عند تقاطع السكك أو بفعل حواجز قد توضع على الطريق أو عند احتجاج المسافرين نتيجة شعورهم بخطر معيّن أو دخول الطرف الثالث ليشوّش على بوصلة القائد ليضطره إلى التوقف، كلها سيناريوهات متوقعة وبالنتيجة إما أن يصل إلى المحطة قطاران دون عناء أو أن يصل واحد منهما ويتعطل الآخر أو أن يتعطلا كليهما بسبب فقدان السيطرة على جهاز القيادة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"