قصة الإنسان مع الماء هي رديف قصته مع الحياة والوجود بكل تعقيداتها وبساطتها ووضوحها وغموضها ومتغيراتها، فلا استقرار ولا عيش ولا مجتمع من دون ماء. إنها القصة الأزلية المتوارثة!
الماء همّ يومي للبشرية قاطبة، من الإنسان البسيط في ريف قصيّ إلى استراتيجيات الدول بخصوص التصرف في المياه، إلى السياسات الدولية بخصوص المياه وشبكات المنظمات والجمعيات عالمية.
الفسقيات هي منشآت مائية (تقنية هيدروليكية) لتجميع مياه الأمطار التي تبقى مخزّنة على مدار الموسم
ولأن الماء هو إكسير الحياة، تماهيًا مع الآية القرآنية "وجعلنا من الماء كل شيء حيّ"، فإنه قد تشتعل حروب لا هوادة فيها جرّاء عين ماء أو نصيب من صبيب نهر أو بحيرة.. وقد تُعقد الصفقات المائية بين الشعوب من أجل شربة ماء وقد تفنى مدن فقط لأن الماء هجرها. لذلك، فإن تدبّر أمر الماء من قبل البشرية هو فعل حياة بالمعنى الشعري للكلمة.
وحكايات الماء في تونس قديمة قدم الإنسان على أرضها، لقد كان الماء هاجسًا قويًا من هواجس الأجداد عندما لم تكن الدولة الحديثة موجودة بعد لتؤمن شبكة للمياه الصالحة للشّرب. لقد كانوا حريصين كل الحرص على تأمين مياههم بأنفسهم، ولكل جهة في تونس خصوصية في ذلك، وقد يختلف الشمال عن الجنوب في تأمين المياه طيلة المواسم، وهناك العديد من الحكم التي مازالت سارية منذ آلاف السنين إلى اليوم بخصوص البحث والتزوّد والاقتصاد والتصرّف في المياه.
وقبل وجود السدود، توخى التونسيون طرقًا شتى من أجل السيطرة على مياه الأمطار الموسمية واستعمالها استعمالات عديدة منها ما هو يومي أو فلاحي أو صناعي.. ومن أشهر هذه التقنيات نجد الأحواض المائية الكبرى قرب المدن، حيث تعتبر "فسقية الأغالبة" بالقيروان، المعلم المائي الأشهر على الإطلاق في العالم الإسلامي، وقد أمر ببنائها أبو إبراهيم بن الأغلب في القرن التاسع الميلادي، وقام بصيانتها وأحسن استغلالها في تزويد مدينة القيروان بالماء من بعده زيادة الله الثالث. وفسقية الباي وفسقية الشعري بمدينة صفاقس.
وفي الجنوب التونسي، تلك الجغرافيا الفسيحة المفتوحة على خد كبير من وجه الصحراء الإفريقية الكبرى، والذي تعد طبقاته المائية عميقة وغير سطحية، فإن الأجداد الأمازيغ والعرب تدبروا أمر مائهم منذ قرون طويلة وخاصة أولئك الذين طلّقوا الترحال وخيّروا الاستقرار في الأراضي الصحراوية ذات المناخ الجاف أو على ضفاف وخلجان السواحل الجنوب شرقية التونسية في اتجاه السواحل الليبية (الجرف). فإلى جانب حفر الآبار، نجدهم ابتدعوا ما يعرف بالمواجل (جمع ماجل) أو الفسقيات (جمع فسقية) وهي منشآت مائية أو بالأحرى هي تقنية هيدروليكية لتجميع مياه الأمطار التي تبقى مخزّنة على مدار الموسم. وتقريبًا، كل مدن الجنوب التونسي تستعمل هذه التقنية وتحافظ عليها كموروث ثقافي حياتي من أجل السيطرة على شح المياه.
تستعمل كل مدن الجنوب التونسي تقريبًا، الفسقيات، وتحافظ عليها كموروث ثقافي حياتي من أجل مجابهة شح المياه
على أنّ مدينة جرجيس التابعة لولاية مدنين بالجنوب الشرقي، والتي تبعد حوالي 530 كلم عن العاصمة تونس، تتميز بالفسقيات المنزلية والفلاحية ذات الطراز الخاص. ولمزيد التعرف على هذا النمط المعيشي في مجال السقاية، اتصل "الترا تونس" بالحاج الصادق العبادي البالغ من العمر 75 سنة، أصيل منطقة "المؤانسة" بجرجيس، والذي أفادنا بأن إنشاء الفسقية المنزلية هو تقليد قديم لدى أهل "زرزيس" (النطق الأصلي والمحبذ لدى أبناء جرجيس لاسم مدينتهم)، فالمنزل لا يكون منزلًا إذا خلا من الفسقية التي تعدّ خزانًا رئيسيًا لمياه الأمطار، وفقه.
وأضاف العبادي بأن تحديد مكان الفسقية على قطعة الأرض المعدة للبناء، هو الفعل الأول قبل الشروع في عمليات البناء، ويقوم بذلك مختص ويسمى "السطا" بمعيّة صاحب المنزل، وأوضح أنه شاهد على بناء عشرات الفسقيات بمنازل عائلته الكبرى، مفيدًا أن الفسقية تُشعر مالكها بالأمان، فقط لأنه يملك كمية من الماء تفي بحاجياته لموسم أو أكثر.
الصادق العبادي (75 سنة) لـ"الترا تونس": لا يكاد يخلو منزل في جرجيس من الفسقية التي تعدّ خزانًا رئيسيًا لمياه الأمطار، وبناؤها إجباري بمقتضى القانون
وبيّن محدثنا أن بناء الفسقية ليس اختياريًا بل هو إجباري بمقتضى القانون، فالدوائر البلدية بالمدينة لا تسند رخص البناء إلا إذا تضمن مخطط المنزل مكان الفسقية، فهذه المنشأة المائية المنزلية تساعد السكان في كل الشؤون، فمياهها هي للشرب والطبخ والاغتسال والوضوء.. أما مياه شبكة الماء الصالح للشراب الذي توفره الدولة للمواطنين حسب رأيه، فإنها لغسل الملابس والأواني وتنظيف المنزل وسقي الجنائن والحدائق وذلك نظرًا للملوحة التي تشوبه وضعف تدفقه على مدار السنة.
وذكر الحاج العبادي أنه ومع بداية الخريف، يتم تنظيف و"تجيير" أسطح المنازل (مادة الجير هي مادة طبيعية بيضاء ومعقمة يطلى بها السطح وجنباته) وتفقد المزاريب المتصلة بالفسقية وصيانة ما يجب صيانته. أما مع بداية الغيث النافع، فإن الأهالي يفرحون ويصلّون لله امتنانًا لأن الماء بالنسبة إليهم هو وجه مشرق من وجوه الحياة.
كما حدثنا الحاج الصادق العبادي عن الفسقيات الفلاحية وهي نوعان: واحدة أساسية ويبنيها الفلاح الجرجيسي وسط أرضه التي عادة ما تكون مغروسة زيتونًا وبعض المغروسات الموسمية الأخرى كالشعير أو الدرع أو التوابل، ليستعمل مياهها وقت الجفاف وعند التخييم أثناء موسم جني الزيتون والذي عادة ما يطول لأسابيع.
أما النوع الثاني من الفسقيات فيُبنى على تخوم حقل الزيتون لعابري السبيل وللعائلات الريفية التي لا تملك هذه الفسقيات، وهي حسب العبّادي عبارة عن فعل خير و"رحمة على الوالدين" على حد تعبيره.
وعن طريقة بناء فسقيات جرجيس، اتصلنا بـ"السطا" محمد الحاجي، وهو أصيل مدينة قابس لكنه استقر منذ سنين في جرجيس وحرفته هي بناء هذه المنشآت المائية ذات الاستعمال المنزلي والمعروفة بـ"الفسقيات"، والذي أفادنا بأن اختيار المكان يعتبر مهمًا لأنه في علاقة بتخطيط المنزل وعادة ما يكون في جهة ظليلة. وأضاف أن المنازل الجديدة تدمج الفسقية في ديكور المنزل فتحول سطحها إلى "تيراس" أو شرفة.
الصادق العبادي (75 سنة) لـ"الترا تونس": مياه الفسقية هي للشرب والطبخ والاغتسال والوضوء.. على عكس مياه الحنفية التي نستغلها لغسل الملابس والأواني والتنظيف وسقي الحدائق
وأوضح "السطا" أن مقاييس الفسقية متعارف عليها منذ القدم، لكنها تتغير أحيانًا مع مقتضيات الهندسة العصرية، لكن يبقى القياس المثالي هو طول خمسة أمتار على أربعة أمتار من جهة العرض، مع عمق بأربعة أمتار.
أما عملية الحفر فعادة ما تكون يدويًا ويستعمل التراب المستخرج استعمالات فلاحيّة حيث يتم وضعه في "الجنان" لتعزيز تربة المغروسات هناك، وتدوم هذه المرحلة أسبوعًا أو أكثر وفق قوله.
ثم تأتي مرحلة البناء بـ"الرّشاد" والمقصود به الحجر الصلب "الصمّ" المستخرج من الأراضي الفلاحية أو المستجلب من المقاطع الحجرية القريبة من البلدة، علمًا وأن عملية البناء تكون من الأسفل إلى أعلى.
محمد الحاجي "السطا" (بناء فسقيات): يبقى المقاس المثالي للفسقية هو خمسة أمتار طول، على أربعة أمتار من جهة العرض، مع عمق بأربعة أمتار
المرحلة التي تلي ذلك يعرفها "السّطا" بـ"التجصيص" أو ما يعرف أيضًا بـ"الليقة" وذلك باستعمال الأسمنت بدل الطين الصلصالي المخلوط بالرماد الذي كان يستعمل قديمًا.
وحسب المختص في بناء الفسقيات، فإنه يتم بعد ذلك تسقيف الفسقية مع الإبقاء على كوّة يوضع فوقها رخامة (خرزة) وفي الكوّة فتحة صغيرة يتم من خلالها إخراج الماء بواسطة دلو صغير يطلق عليه "سطل" أو "ركوة".
وبعد الانتهاء من كل مراحل التشييد التي تدوم شهرًا كاملًا أو أكثر أحيانًا، أوضح "السّطا" الحاجي، أنه يتم طلي كامل الفسقية من الداخل بقشور غلال "الدّلاع" (البطيخ) وهي عادة قديمة الهدف منها هو المحافظة على برودة الماء فيما بعد.
محمد الحاجي "السطا" (بنّاء فسقيات): ثمة من يرفق الفسقية بمحرّك لاستخراج الماء من جوفها وربطه بشبكة منزلية تسهل الاستعمال
وختم محدّثنا بأنه يتم تجربة الفسقية في مرّة أولى من أجل تبيّن الشقوق وصيانتها إن وجدت، ثمّ تدخل المنشأة حيّز العمل بعد ذلك، قائلًا إنه ثمة من يرفقها بمحرّك لاستخراج الماء من جوفها وربطه بشبكة منزلية تسهل الاستعمال، أما عملية الجهر فتتم كل سنتين وفي أقصى الحالات كل ثلاث سنوات.
نظام الفسقيات في جرجيس بالجنوب الشرقي التونسي هو نظام بيئي متوارث منذ قرون، وهو نظام تحكّم في مياه الأمطار ونظام حسن استعمال، ويعدّ ملاذًا للمواطنين في ظل تفاقم شحّ المياه وسوء التصرف فيها الذي تعاني منه تونس في هذه السنوات الأخيرة.