20-ديسمبر-2023
الطفل التونسي وغياب إستراتيجيات العمل الثقافي

الطفل التونسي في منطقة النسيان الثقافي أو العراء الثقافي (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

مقال رأي

 

أن نكثر من الأنشطة الثقافية والفنية والترفيهية الموجهة للطفل في تونس مع بداية كل عطلة مدرسية أو في أيام الأعياد والمناسبات الدينية، لا يعني بالضرورة أننا إزاء إستراتيجية وطنية منشغلة فعلًا بتدبّر حكيم وتفكير متين بهذه الشريحة العمرية التي تمثّل المستقبل بالمفهوم السوسيولوجي للكلمة، فتنحت في كيانها وتبني معها زوارق ورقية للأحلام الصغيرة وتطلقها على شطآن الوطن فتُبنى الأمجاد صروحًا صروحًا بلون الهمم وترفع الرايات لتلامس السماء وتكتمل بالكون كلّه حتى نكون نحن نشبه أنفسنا رغم تقاطعنا مع الثقافات الأخرى.

كثرة الأنشطة الثقافية والترفيهية الموجهة للطفل في تونس مع بداية كل عطلة مدرسية، لا يعني بالضرورة أننا إزاء إستراتيجية وطنية منشغلة فعلًا بشريحة الأطفال في تونس

مع انطلاقة كل عطلة مدرسية تنزل وزارات بكامل ثقلها المؤسساتي واللّوجستي إلى ساحة الوقت فتعدّ البرامج والتظاهرات الثقافية والفنية والإبداعية الموجهة للطفل وتخصص لها ميزانيات طائلة من المال العمومي وتُطلق بالمناسبة حملات اتصالية ضخمة من أجل الترويج لتلك الأحداث.. كما تنشط جمعيات ومنظمات المجتمع المدني الثقافي والفني والترفيهي والتربوي مثل الكشافة التونسية والمصائف والجولات والشبان والعلم واتحاد الكتاب التونسيين.. كما تنشط شركات تجارية خاصة لها علاقة بتلك التظاهرات الثقافية، فتتحوّل بذلك أيام العطلة إلى موسم أو سوق ثقافية مزدحمة يصعب فهم دروبها ومسالكها وباعتها ونوع بضاعتها. نعم، إنها "زردة" يحكمها الغيب في الكثير من جوانبها.

وتعتبر الدولة التونسية هي الفاعل الأكبر في هذه السوق الثقافية الموسمية التي تستهدف الطفل التونسي فنجد "وزارة الشؤون الثقافية" باعتبارها الوزارة القاطرة للحياة الثقافية ومختلف شؤونها في تونس، منتشرة بجميع مؤسساتها المركزية والجهوية تقدّم البرامج والتظاهرات الثقافية الموجهة للطفل والتي يلامس أغلبها قطاعات إبداعية تبدو لواضعيها أنها رئيسية مثل مسرح العرائس وورشات المطالعة والرسم والرقص والرحلات الترفيهية.. في حين أنّ أغلبها يُقدَّم بطرق ووسائل كلاسيكية لا تراعي التطورات التكنولوجية والرقمية المنبثقة عن الثورة الاتصالية.

أغلب التظاهرات الثقافية الموجهة للطفل في تونس تُقدَّم بطرق ووسائل كلاسيكية لا تراعي التطورات التكنولوجية والرقمية المنبثقة عن الثورة الاتصالية

وبدرجة أقل، نجد وزارات أخرى على غرار وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السنّ ووزارة التربية ووزارة الشباب والرياضة ووزارة السياحة ووزارة البيئة والشركات العمومية الكبرى.. كلها تقدم المادة الثقافية نفسها وفي التوقيت نفسه، مما يؤدي إلى نوع من الزحمة في السوق المذكورة.

عندما تغيب الاستراتيجية الوطنية التي تهتم بالثقافة الموجهة للطفل على مدار السنة والتي تشتغل بكل هدوء وتؤدة على تطلعات هذه الشريحة المجتمعية الهامة بالرجوع إلى الدراسات العلمية والعودة إلى كتابات المختصين في الشؤون التربوية والاجتماعية والثقافية والفنية والإبداعية المهتمة بالطفل ومكانته في المجتمع التونسي، تحدث تلك الزحمة التي نشاهدها عادة خلال أيام العطل، كما يحصل الارتجال والتسرّع والتّشابه في الأنشطة والبرامج، مما يربك الطفل نفسه كما يجعل العائلة في حيرة من أمرها من التخمة البرامجية في حيز زمني وجيز. 

وفي الوقت نفسه تُحمل على طرح ذاك السؤال الحارق والذي مفاده: لماذا تغيب الأنشطة والبرامج الثقافية طيلة أيام السنة؟ حتى إن بعض المؤسسات الثقافية العمومية التي تهتم بالطفل واليافع تغلق أبوابها لأسابيع طويلة بل لأشهر بعد انقضاء العطل المدرسية.  

 

 

وهذا الأمر يبدو أنه متأصل في السياسة الثقافية التونسية، فمنذ الاستقلال عن فرنسا وإلى حد اليوم، لم نشهد خطة وطنية مسترسلة وعلمية تهتم بالطفل في مجالات الثقافة والإبداع والترفيه، بل كل ما حصل هو أن الوزارات والمؤسسات المذكورة والمعنية بالأنشطة الثقافية والترفيهية والسياحية والاجتماعية تشتغل لوحدها، كل واحدة منها بمعزل عن الأخرى ولكل مؤسسة مخطّطاتها وبرامجها وتصوراتها الخاصة بها والتي تؤدي أحيانًا إلى تضارب المواعيد وتكرار الاقتراحات والأفكار وتشابه التظاهرات.

كل هذا جعل الطفل التونسي في منطقة النسيان الثقافي بالمعنى السياسي والفلسفي للكلمة، أو ما يمكن تسميته بالعراء الثقافي بالمعنى الرؤيوي للكلمة وهو ما أدى إلى انزياحات في شخصية الطفل دفعت به إلى الاغتذاء حدّ الشبع، والارتواء حدّ الثمالة من ثقافات الآخر شوهت هويته الحضارية، فالطفل التونسي اليوم يعيش يتمًا ثقافيًا من حيث لا يعلم.

كل مؤسسات الدولة المعنيّة بالطفل تقدم المادة الثقافية نفسها وفي التوقيت نفسه، مما يؤدي إلى نوع من الزحمة في هذه السوق الثقافية 

إن ما يُقدّم الآن للطفل التونسي من منتوج ثقافي وفني ورغم كثرته وتنوعه وتعدّد الأساليب الإبداعية والتقنية التي ينجز ويقدّم بها، يمكن القول حوله إنه "ذرّ رماد على العيون" خاصة إذا رأينا بأمّ أعيننا انجذاب العديد من الفاعلين الثقافيين من صناعيين وتجار ومبدعين إلى المال العمومي الثقافي الموجه إلى الطفل انجذابًا لا يقوم على المواثيق الأخلاقية وأيضًا من دون محاسبة إبداعية، وشاهدنا تلك المركزية الثقافية التي تقصي الطفل الموجود بأقاصي الريف التونسي خاصة إذا علمنا أنه يمثل أغلبية هذه الشريحة العمرية، وهو أمر يحملنا مناطق أخرى في التفكير في هذه المسألة وهي الحضور القوي للتمييز بين الأطفال الحضريين والريفيين.

لقد حان الوقت "الآن وهنا" كي نعيد ترتيب الأفكار فيما يتعلق بمسألة الثقافة الموجهة إلى الطفل التونسي وأن تخلو الدولة إلى نفسها وتجلس إلى مؤسساتها وأجهزتها وتستدعى كل الخبراء والمختصين في الطفولة وشؤونها وكل المجتمع المدني المختص والمهتم والمبدعين والكتاب والفنانين والموسيقيين.. وأن يُطلَق العنان لإنقاذ الطفولة التونسية من خلال وضع خطط قصيرة المدى وأخرى بعيدة المدى فيما يتعلق بالثقافة الموجهة إلى الطفل وضرورة ارتباطها بحضارة وتاريخ هذا الوطن.

ما يُقدّم الآن للطفل التونسي من منتوج ثقافي وفني ورغم كثرته وتنوعه وتعدّد أساليبه، يمكن القول حوله إنه "ذرّ رماد على العيون"

ويجب أن تكون هذه الخطط متماسكة ولها أهداف قيمية أخلاقية وأخرى تربوية وذوقية، تنطلق من المدارس وصولًا إلى الفضاءات العمومية مثل دور الثقافة والمكتبات ونوادي الأطفال ودور السينما والساحات العامة. وأن يكون تنفيذ الخطط المذكورة موزعة ومنتشرة على مدار السنة محدثة نوعًا من التوازن الذي نراه مفقودًا الآن. 

العمل الثقافي الموجه إلى الطفل هو بمثابة الطاقة التي لا تغير حياة الإنسان فحسب، بل هي تؤسس إلى مجتمع متأصل في موروثه الحضاري ومتماسك الأركان في ظل عالم متغير، لأن الثقافة هي تحصين للأفراد كما المجموعات من كل العواصف القادمة من أقاصي العالم. يجب أن يكون للطفل صوته الخاص.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"