أكسبتنا منصات التواصل الاجتماعي عادة قميئة، باتت تمثّل نوعًا من الأعراض الجانبية لاستخدامها والتمتّع بمزاياها، ألا وهي عادة ركوب موجة "الترندات" والتفاعل السريع اللحظي مع الأحداث، بما يجعل من أغلب المواقف والآراء، انفعالية، عاطفية، لا مجال فيها للتفكير والتدبير.
مثّل فيديو احتوى على مجموعة من الأطفال بصدد أداء أغنية "راب" ويرقصون ملوّحين بأسلحة بيضاء من سيوف وسكاكين ومديات، صدمة للكثيرين في تونس
"الترند" الذي برز على السطح مؤخرًا كان مجرّد أغنية "راب" في الظاهر، لكنّها كقمّة جبل الجليد الذي يُخفي أكثر مما يُظهر، سرى الفيديو سريان النار في الهشيم عبر السوشال ميديا، وأجبر مؤسسات الدولة على التدخّل لاتخاذ إجراءات سريعة وعاجلة.
هذا الفيديو الذي مثّل صدمة للكثيرين، احتوى على مجموعة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم تقريبًا بين 8 و10 سنوات، بصدد أداء أغنية "راب" ويرقصون ملوّحين بأسلحة بيضاء من سيوف وسكاكين ومديات. إنّ المتقبّل التونسي وإن كان يتوقّع هذه المشاهد بعض الشيء من طرف مغنّي "راب" أكبر سنًّا -بغضّ النظر عن موافقته على ذلك من عدمها- لم يستسغ بسهولة ما عدّه "جريمة تُرتكب في حق الطفولة" بعد هذا الفيديو.
صدقي الشيخ (أخصائي نفسي) لـ"الترا تونس": أعتقد أنّ هؤلاء الأطفال يردّدون كلامًا لا يفهمونه، وربما تم تأليفه من قبل بالغين، قاموا بالتصوير والمونتاج والتسجيل أيضًا
دفعتنا هذه الحادثة إلى التساؤل عن دور أغاني "الراب" في التأثير على الأطفال، خاصة مع ما تتضمّنه غالبًا من "عنف" مبثوث داخلها سواء كان لفظيًا أو مشهديًا، فهل ينصلح حال الطفولة، والحال أنّ الكبار أنفسهم "مطبّعون" مع العنف؟ هل يستوي الظل والعود أعوج؟
تواصل "الترا تونس" مع الأخصائي النفسي والكاتب العام للجمعية التونسية لعلم النفس، صدقي الشيخ، الذي أكّد أنّ المشاهد في هذا الفيديو كانت صادمة، وأنّ كلمات الأغنية غير مناسبة لسنّهم، مرجحًا ألّا يكون هؤلاء الأطفال هم أصحاب الكلمات، وقال: "لا أعتقد أن كلمات الأغنية كتبها هؤلاء الأطفال، فهم غير قادرين بعد على تأليف غناء موزون بتلك الطريقة، وربما تم تأليفه من قبل بالغين، صمموا موسيقى الأغنية أيضًا، وقاموا بالتصوير والمونتاج والتسجيل.. وبالتالي أعتقد أنّ هؤلاء الأطفال يردّدون كلامًا لا يفهمونه، كلّه نقمة على الوضع الاقتصادي والاجتماعي" وفقه.
صدقي الشيخ (أخصائي نفسي) لـ"الترا تونس": التنشئة الاجتماعية للطفل في بيئة اجتماعية تنتشر فيها سلوكيات العنف بكثرة، ينتج عنه تطبيع مع هذا السلوك
وبسؤاله عن دافع هؤلاء الأطفال إلى تقليد مشاهد منتشرة في البيئة التي ترعرعوا فيها وغير مقبولة اجتماعيًا، قال الشيخ إنّها "التنشئة الاجتماعية"، فذاك الطفل نشأ في بيئة اجتماعية تنتشر فيها هذه السلوكيات بكثرة، وبالتالي هناك تطبيع حاصل مع العنف، وهو يرونه متفشيًا في عائلاتهم من إخوة وآباء وأمهات عبر كلام يحتوي على الكثير من العنف.
وشدّد المختص في علم النفس على أنّ الطفل يخزّن في لاوعيه هذا العنف الذي يستقيه من محيطه، فتكبر شخصيته مشوّهة بهذه المؤثرات الخارجية التي يطغى عليها العنف، وقال: "يصبح الطفل في هذه البيئة أرضًا خصبة لردّ العنف، فهو لا يقوم سوى بردّ الفعل على ما تمت تربيته عليه، وسيتمظهر ذلك في أغان مبتذلة أو أفعال إجرامية فيها خرق للقانون، وسيظهر ذلك خاصة في سن المراهقة التي هي سن انفجار كل ما خزّنه الطفل في مرحلة الطفولة" على حد تعبيره.
أخصائي نفسي لـ"الترا تونس": الطفل يخزّن في لاوعيه العنف الذي يستقيه من محيطه، فتكبر شخصيته مشوّهة بهذه المؤثرات الخارجية ويفجرها في شكل أفعال إجرامية في مراهقته
وأشار صدقي الشيخ، إلى أنّه يبدو أنّ هناك موافقة جماعية من قبل محيط هؤلاء الأطفال على هذا الفيديو، يستشف منه أنّ هذه الممارسات مقبولة في الوسط الاجتماعي لهم، وأنه غير مخلّ بالآداب أو أي شيء، ملاحظًا أنّ هناك استمتاعًا من قبل هؤلاء الأطفال بهذه العملية لأنها تشبع رغباتهم في أن يكونوا محط اهتمام وأن يقع تصويرهم.
أغاني "راب" البالغين" وتأثيرها على الأطفال
يوضّح المختص في علم النفس أنّ الصغار هم مرآة الكبار، فإذا صلح الكبار، فسيخرج جيل صالح من الأطفال ، لكن إذا كان الخلل في الكبار، فيجب ألا ننتظر من الأطفال أمرًا مختلفًا، ففاقد الشيء لا يعطيه، "وإذا كان الولي لا يقوم بدوره كما يجب فإنّنا لا ننتظر نتيجة كبرى من عملنا كأخصائيين مع الأطفال، إذ هنا علاقة تكامل بين المتدخل التربوي بشكل عام والولي والأخصائي النفسي".
هذا الفيديو دفع بوزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن إلى التدخّل، والإذن لمصالحها المعنيّة بالتنسيق مع الإدارة الفرعية للوقاية الاجتماعية بإدارة الشرطة العدلية لتحديد مكان تصوير الفيديو والجهة المنفذة وهوية الأطفال.
أخصائي نفسي لـ"الترا تونس": إذا كان الخلل في الكبار، فيجب ألا ننتظر من الأطفال أمرًا مختلفًا، فالصغار هم مرآة الكبار
وقد أكدت الوزارة في بلاغها، أنه سيتمّ فور استيفاء الإجراءات الجارية بالتنسيق مع المصالح الأمنية والسلطة القضائيّة، التعهد بوضعيات الأطفال المشاركين في تجسيد الأغنية واتخاذ الإجراءات الجزائية اللازمة ضدّ كل من يثبت إدانته في استغلال وضعيات الأطفال أو التقصير البيّن في حماية مصلحتهم الفضلى طبقًا لأحكام مجلة حماية الطفل.
كما أهابت الوزارة بالأولياء بالاضطلاع بدورهم كاملًا في مرافقة أبنائهم ومراقبتهم ورعايتهم والسهر على متابعة وضعياتهم ووقايتهم من السلوكات المحفوفة بالمخاطر، مذكّرة بواجب الامتناع عن نشر الفيديوهات والصور التي يكون موضوعها الأطفال القصّر واحترام الأحكام القانونيّة المنظمّة للتعاطي مع صورة الطفل وحماية حقوقه.
وقد اعتبر المختص في علم النفس، أنّ الإجراءات التي اتُخذت مؤقتة، واستعجالية، وأنّ السلطة تحركت تحت تأثير الصدمة، قائلًا: "على المدى المتوسط والبعيد، لا تمثّل هذه الإجراءات حلًا، وبالتالي يجب أن تتجند كل الوزارات للقيام ببرنامج إصلاحي كبير، لا يهمّش إصلاح مؤسسة الزواج بصفة خاصة، وضرورة التأهيل النفسي لها، وفق تقديره.
الباحثة في علم الاجتماع نسرين بن بلقاسم، تحدّثت لـ"الترا تونس" بدورها عن رؤية اختصاصها لهذه الظاهرة، فأكدت أنّ أغاني "الراب" هي ثقافة جديدة في الفنّ والتعبير يستعملها خاصة شباب الأحياء الشعبية للتعبير عن الوضعية الصعبة التي يعيشونها سواء من الفقر والتهميش والبطالة، لكنّ طريقة التعبير هذه في تونس بعدت كل البعد عن هذا الهدف، ومع ارتفاع عدد أغاني الراب في تونس، بدأت فقدت قيمتها ورسالتها، وفق تقديرها.
أوضحت بن بلقاسم أنّ هذه الأغاني عمومًا قد تحوّلت إلى وسيلة ليعنّف الأشخاص عبرها بعضهم البعض لفظيًا، في إشارة لثقافة ما يُعرف بالـ"Clash" أو ما كان معروفًا في السابق في صفوف الشعراء بالهجاء، كغرض من الأغراض الشعرية العديدة، وأشارت إلى أنّ هذا الصنف من الغناء حاد عن وظيفته بعد أن خرج من الأحياء الشعبية ليوصل مشاكلها وأوضاعها الاجتماعية الصعبة، وإحساسها بالخصاصة.. معتبرة أنّ "مغني الراب باعتباره نابعًا بشكل عام من الأوساط الشعبية، لا تتوفر لديه الإمكانيات الضخمة للقيام بكليب احترافي، فيعتمد على 'أولاد الحومة' (أبناء الحيّ) الذين يساعدونه في التصوير في المنطقة نفسها"، لافتة إلى أنّ مغني الراب عمومًا لا يغني خارج حيّه كي تصل رسالته بشكل أفضل.
نسرين بن بلقاسم (باحثة في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": لم يكن الفيديو ليأخذ صدى لو كان هؤلاء الأطفال نفسهم صوروا فيديو وهو يقومون بعمل نبيل آخر
وفكّكت الباحثة هذا الفيديو بمشرط علم الاجتماع، فارتأت أنّ هؤلاء الأطفال الذين كانوا حاملين لأسلحة بيضاء، عمدوا إلى خلق ما يُعرف بالـ"Buzz" أو الضجّة لاستنتاجهم أنّهم بهذا يحقّقون القيمة والشهرة، فقالت إنّ خلق هذه الضجّة ربما كان متعمدًا، باعتبار أنّ القيام بشيء غريب وخارج عن المألوف هو السبيل كي ينال الفرد حظوة في الإعلام ويصبح حديث الرأي العام، وفق التصوّر الغالب.
وعرّجت الباحثة على أنّ "أناسًا أصبحوا يحضرون في البلاتوهات التلفزية والإذاعية بسبب شجارهم مع أشخاص آخرين.. فكان تصرفهم العنيف هم سبب استدعائهم للإعلام" وفقها، ملاحظة أنّ الثقافة الإعلامية تغيرت مع تطور منصات التواصل الاجتماعي، باتجاه العنف، وقالت: "لم يكن الفيديو ليأخذ صدى لو كان هؤلاء الأطفال نفسهم صوروا فيديو وهو يقومون بعمل نبيل آخر، وقد أصبجنا اليوم لا نقيّم الناس حسب كفاءتهم العلمية وتصرفاتهم النبيلة والجيدة بل تغيرت القيم والثقافة في تونس".
المجتمع التونسي يعيش حالة عنف كبرى؟
تصرّ المختصة في علم الاجتماع على اعتبار المجتمع التونسي يعيش حالة عنف كبرى، معدّدة حالات القتل والعنف التي تحصيها مؤسسات الدولة والتي يندّد بها المجتمع المدني التونسي بشكل دوري، فأشارت إلى أنّ "الطفولة في تونس في خطر وهذا ليس وليد الحاضر، بل وليد تراكمات انقطاع فئة كبيرة منهم عن الدراسة، وهجرة بعضهم غير النظامية، وتسوّل بعضهم الآخر، وممارسة جزء منهم السلب عن طريق العنف"، وتساءلت: "أين كانت السلطة أمام كل هذه الظواهر التي تمسّ الطفولة؟".
باحثة في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": الطفولة في تونس في خطر وهذا وليد تراكمات انقطاع فئة كبيرة منهم عن الدراسة، وهجرة بعضهم غير النظامية، وتسوّل بعضهم الآخر، وممارسة جزء منهم السلب عن طريق العنف وغير ذلك من الظواهر
وأوضحت في السياق نفسه، أنّ التدخل من مؤسسات الدولة يحدث متأخرًا للغاية أو يكون منعدمًا في بعض الأحيان، مشدّدة على أنّ العائلة فقدت دورها في التنشئة الاجتماعية وكذلك المدرسة، وأنّ الطفولة هُمّشت مع غياب الإحاطة بالأطفال الذي أصبحوا يخضعون لتربية منصات التواصل والشارع بعد أن غاب دور العائلة والدولة، كما تطرّقت إلى مشكل توفير العائلة لأطفالها الهواتف الذكية والإنترنت دون أن تقوم في المقابل بدورها في المراقبة، ما انجرّ عنه من انتحار أطفال جرّاء الألعاب الإلكترونية على سبيل المثال.
الطفولة في تونس تعرف تهميشًا
تهميش الطفولة نابع بالأساس من أنّ الطفل يعيش بلا مراقبة تقريبًا.. يعيش حرية مطلقة دون أن تقع الإحاطة به في أي مؤسسة، وفق نسرين بن بلقاسم. الطفل يستهلك العنف من المشاهد التي يختزنها داخل أسرته والبرامج الإعلامية ومن وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية والمدرسة والشارع، فهو يستهلك كلّ هذا العنف ويعيد إنتاجه، والسؤال الأساسي هنا هو هل يمكن لوم هؤلاء الأطفال في الفيديو؟
باحثة في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": الطفولة هُمّشت مع غياب الإحاطة بالأطفال الذي أصبحوا يخضعون لتربية منصات التواصل والشارع بعد أن غاب دور العائلة والدولة
تجيب الباحثة بقولها: "لا يمكن لوم هؤلاء الأطفال والعنف قد اخترق كل المؤسسات، لا أظن ذلك، الأطفال هم ضحايا المجتمع وسياسات الدولة والعائلة والبرامج الإعلامية والتعليمية.. إنهم نتيجة خلل مجتمعي على جميع المؤسسات، ولا يمكن لوم الأطفال باعتبارهم نتيجة هذا الخلل".
تضيف نسرين بن بلقاسم: "أصبحنا مطبّعين مع العنف الذي استشرى بشكل كبير في المجتمع، وانقلبت الموازين في تونس فأصبح الطفل يرى أن قيمته ليست بما يحققه من تحصيل علمي وتفوق مدرسي، بل بما ينتجه من عنف، فأصبحت القيمة تتشكّل بتلك الطريقة" وفق تعبيرها.
إنّ الظلّ لا يستقيم قطعًا والعود أعوج، وحال الأطفال من حال كبارهم، وإذا كان ربّ البيت بالدفّ يضرب، فلا تلومنّ أهل الدار على الرقص، ومن هنا وجب الاستنتاج أنّ تسرّب العنف إلى الأطفال في تونس، هي ظاهرة ستدفع ثمنها باهظًا الأجيال القادمة ما لم يقع تدارك ذلك عاجلًا غير آجل.