02-يونيو-2018

ينشأ الطفل التونسي على وقع هويّات تؤدّي به إلى عدم الاستقرار في شخصيته (صورة أرشيفية/ تييري تونال/Corbis)

نعم.. الطفل في تونس يتيم ثقافيًا. ولا آباء له. فأينما ولّى وجهه لا يجد شيئًا. قد تبدو هذه الكلمات متشائمة وموجعة لكن إذا تأملنا المشهد المجتمعيّ مليًّا نقف على مرارة الحقيقة، فالطفل سواء يسكن الريف أو المدينة لا حظّ له في الثقافة والفنون، لا مراجع رمزية كبرى يتشبّه بها الطفل التونسي أو ينشد إلى منجزها. وتقريبًا كل المؤسسات المجتمعيّة والتي يمكن حصرها في العائلة والمدرسة والقانون لا تنهض بالدور الثقافي المنوط بعهدتها تجاه الطفل.

اقرأ/ي أيضًا: بائع الورد الصغير.. طفل يبيع الحب ويشتري "الموت"

هذا الدور قد يبدو بسيطًا، لكنه مركزي حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو فهو يصنع الإنسان بمواصفات قد تختلف من مجتمع إلى آخر، لأن لكل مجتمع أهدافه وخصوصياته الثقافية والتزاماته مع التاريخ. طفلنا التونسي عندما يفتح التلفزيون الوطني لا يجد نصيبًا من صور الكارتون سوى المدبلجات الكورية واليابانية. أما برامج التنشيط والتثقيف والترفيه فتكاد تكون غائبة تمامًا وإن وجدت فهي عرضية وترتبط بموسم وتنتهي سريعًا وعادة ما يقف على إنجازها غير المختصين.

يلجأ الطفل التونسي إلى تلفزيونات أخرى عربية أو أوروبية فيجد نفسه أمام مادّة تختلف مع مكونات هويته وحضارته وتاريخه وعاداته وتقاليده

وهنا يلجأ الطفل إلى تلفزيونات أخرى عربية أو أوروبية فيجد نفسه أمام مادّة تختلف مع مكونات هويته وحضارته وتاريخه وعاداته وتقاليده. فينشأ الطفل على وقع هويّات تؤدّي به إلى عدم الاستقرار في شخصيته وعلماء النفس أكدوا في نقطة التوازن الداخلي ضرورة أن ينهل الطفل أساسًا من ثقافته ورصيده الحضاري وينفتح بمقدار على الثقافات الأخرى. هذا عكس ما يحصل لدينا فالطفل تائه في ثقافات أخرى أبعدته تمامًا على جوانب مكوّنة لهويته وتحديدا خصوصياته الثقافية.

عالم كتاب الطفل في تونس يعيش زمن الفوضى فلا الدولة بأجهزتها وقوانينها قادرة على حماية الطفل من محتويات الكتب المروّجة الآن في المكتبات وفي سوق الكتب، إذ يسمح كل شخص في تونس لنفسه بأن يكتب للطفل ويؤلف القصص والرّوايات والمسرح والحكي. في حين أنها عملية صعبة ومعقدة وتتطلب مؤهلات تغيب الآن عن الفاعلين في هذا المجال وحتى دور النشر المعروفة والشهيرة ليس لديها لجان قراءة مختصة في أدب الطفل. عالم كتاب الطفل تطغى عليه التجارة و"البزنس" أمام صمت مريب لاتحاد الكتّاب التونسيين ووزارة الثقافة واتحاد الناشرين.

عالم كتاب الطفل تطغى عليه التجارة و"البزنس" أمام صمت مريب لاتحاد الكتّاب التونسيين ووزارة الثقافة واتحاد الناشرين

اقرأ/ي أيضًا: الاستغلال الاقتصادي.. آفة الطفولة في تونس

مسرح الطفل هو الآخر ورغم التشجيعات السّخية التي تقدمها وزارة الشؤون الثقافية للشركات المختصة في مسرح الطفل وللجمعيات والفرق المسرحية يبقى بعيدًا كل البعد عن المنشود فالجائل ببصره في الساحة المسرحية لا يجد للطفل نصيبًا مجزيًا باستثناء بعض الأعمال المحترمة لكنها لا تستطيع إزاحة العتمة السارية، وحتى مادة التربية المسرحية التي تنهض بها وزارة التربية فهي غير معممة على كل المؤسسات التربوية ولا تعدو أن تكون سوى مادة تلقينية بسيطة ليس لها منتوج مسرحي مدرسي محترم وغير مرتبطة بالحياة الثقافية.

المسألة في اعتقادي مرتبطة بوعي المسرحيين وحسّهم الوطني الذي لا يرقى أحيانًا إلى مستوى صناعة الذوق وشدّ الأجيال الصغيرة إلى ثقافتهم وتاريخهم وحضارتهم من خلال الفعل المسرحي باعتباره أقدم فعل فنّي بشري.

الفنون التشكيلية وعالم الألوان، والتي يرى علماء النفس أنها البوتقات الأولى التي يكتشف من خلالها الطفل قدراته الفنية ليس لها الصدى الكافي في المجتمع التونسي إذ قليلة هي التظاهرات اللّونيّة الخاصة بالطفل في مؤسساتنا الثقافية. والمسؤولية هنا مشتركة بين مدارس الفنون الجميلة والحرف والتصميم ومؤسسات التعليم وخاصة التعليم الأساسي حيث التلاميذ عطشى للفراشات والألوان.

الطفل في تونس وعلى مستوى ثقافي وفني يعيش في العراء ولا يهتم به أحد فليس هناك استراتيجيا وطنية واضحة تعنى بثقافة الطفل

تعتبر فترة الطفولة المرحلة العمرية الحاسمة في زراعة القيم وبناء الذّوق العام. فمجتمع مثل المجتمع الياباني يعتبر نموذجيًا في التعامل مع هذه المرحلة العمرية فهي المرحلة الذهبية حتى تنشأ الأجيال المتعاقبة على الفنون والعادات والتقاليد اليابانية والقيم التي يريدها للمجتمع لنفسه. فإلى حدود التاسعة من العمر يدرس التلميذ الياباني موادًا من قبيل احترام الكبير، معاملة الوالدين، تقدير الطبيعة، تصفيف الأزهار، الموسيقى، المسرح، السير في الطريق، احترام الجيران، التلوين. وبالتالي يكون المجتمع الياباني على الشاكلة التي يريدها لنفسه وهكذا نفهم أن صناعة الإنسان تبدأ منذ الطفولة.

الطفل في تونس وعلى مستوى ثقافي وفني يعيش في العراء ولا يهتم به أحد فليس هناك استراتيجيا وطنية واضحة تعنى بثقافة الطفل في مستوى الوزارات المعنية والمؤسسات المستقلة والمجتمع المدني المختص وحتى إن وجدت أنشطة فهي دون تنسيق بين الأطراف المذكورة. أمّا الأحزاب السياسية الناشطة في تونس لا نجد للطفل صدى في برامجها. وعندما ينشأ الطفل على هذا اليتم الثقافي يكون عرضة في شبابه للانزياحات والانحرافات بأنواعها. فطوبى للمجتمعات التي تهتم بالطفل وتكرّس له الإمكانيات حتى تحافظ على حضورها وتقدمها وتفوقها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بسبب مقطع تعذيب الجدة لحفيدها.. حالة سخط في مواقع التواصل

تسبب الأبوان في معظمها: 16 ألف إشعار بحالات تهديد للأطفال سنة 2017