26-نوفمبر-2023
غزة

إنّ أخطر ما يصيب الفنّ من شحّ إبداعي أن يكون مرآة للواقع (محمود حمص/ أ ف ب)

 

بلغ العدوان على غزّة أعلى درجات الدمويّة، وتخطّت بشاعة المشهد حدود المنطق والواقع والاحتمال، ولولا النقل الحيّ المباشر للمجازر لحَسب المتلقّي أنّ الصورة قد خضعت إلى التغيير باعتماد برمجيّات وتقنيات حديثة قصد الدعاية والمغالطة والتضخيم.

ما حدث في غزّة جعل الصورة تخرج من العدسة الفوتوغرافيّة.. وقد بلغت ذروة الضخامة قُبحًا وبشاعة ممّا يجعل الفنّان عاجزًا عن الإضافة كميًّا ونوعيًّا

لقد أحدثت هذه الصورة حرجًا للقادة والأحزاب وأصحاب القرار في العالم بأسره وهو لا ريب من المشاغل الجديرة بالعناية في مقام الحديث عن تداعيات الحرب على الدول العربيّة والغربيّة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، بيد أنّ حرجًا أخطر يمكن أن يطال عالم الجماليّات عامّة والفنون البصرية خاصّة يحتاج إلى القراءة والتفكيك.

  • الصورة الفوتوغرافيّة والخيال الفنّي

اختارت الفنون بمختلف مدارسها المعاصرة الانزياح عن الواقع، وقد اعتبر روّادها المحاكاةَ نقيصة تجعل المبدع أقرب ما يكون إلى المصوّر الفوتوغرافيّ، فلا فضل له حينئذ غير التسجيل والتقييد، وإنّ أخطر ما يصيب الفنّ من شحّ إبداعي أن يكون مرآة للواقع، ذلك أنّ الخطاب المباشر الشفّاف الخالي من التكثيف والانزياح والملتصق بالتربة التي نشأ فيها هو من مهامّ الموثّق أو المؤرّخ المحمول على الموضوعيّة والدقّة والنقل الأمين الخالي من التدخّل الذاتيّ أو الانفعاليّ أو الخياليّ.

 

"من وجوه الحرج بالنسبة إلى الفنّان أن لا يكون قادرًا على وضع بصمته الذاتيّة خاصّة إذا تعلّق الأمر بصورة تخرج من الواقع.."

 

ما يُعدّ هنة في لغة المفكّر والموثقّ يعتبر فضيلة بالنسبة إلى الفنّان، لذلك مثّل الخيال الخميرة التي لا غنى للمبدع عنها ففيها يضع الأحداث وملامح الشخصيات وخصائص الأمكنة، فتخرج وقد أصابتها جرثومة التضخّم والغلوِّ، وفي ذلك إثارة وطرافة وهي جوهر الإبداع.

المبالغة في العمل الفنيّ لا تُعالج وفق معايير الصدق والكذب إنّما يقع تثمينها واعتبارها آية من آيات الخَلقِ والتفرّد في الشعر والسينما والرسم ومختلف الأنشطة الإبداعيّة.

ونحن نشاهد كلّ الأطفال في غزة في مرمى الدبابات الإسرائيليّة تعيث فيهم تقتيلًا حيثما حلّوا، فهل من حاجة إلى فنّ التهويل والتضخيم؟

ومن وجوه الحرج بالنسبة إلى الفنّان أن لا يكون قادرًا على وضع بصمته الذاتيّة خاصّة إذا تعلّق الأمر بصورة تخرج من الواقع وقد بلغت منتهى ما يحلم به المبدع أو يتخيّله إن في مواضع القبح والنذالة والجبن أو في مقامات الجمال والهمّة والحماسة.

  • حينما يصبح الخيال والمجازُ حقيقة مرئيّة

ما حدث في غزّة جعل الصورة تخرج من العدسة الفوتوغرافيّة وهي في بعدها الواقعيّ الخام وقد بلغت ذروة الضخامة قُبحًا وبشاعة ممّا يجعل الفنّان عاجزًا عن الإضافة كميًّا ونوعيًّا، إنّها محنة فريدة استثنائيّة يواجهها المبدع في هذا الزمن، فلو اقتصرت الآلة الحربيّة للمحتلّ على قتل مجموعة محدودة من الأطفال والنساء لجادت أقلام الرسام وألوانه بلوحة تَشي على سبيل المبالغة بأنّ الصهاينة يستهدفون النسل والمستقل، كأن يجعل صورة شهيد أو شهيدين تغطّي ساحة المدرسة معتمدًا مهارة التصّرف في الأحجام والألوان، فيتهيّأ للناظر عبر التخييل أنّ كلّ من في المؤسسة قد طاله الاغتيال.

 

لقد كسرت شناعة المشهد الدمويّ في غزة حدود الإيحاء والترميز

 

وقد يعمد المصوّر على سبيل التهويل إلى الاستئناس بملامح "محمّد الدرة" وتعميمها على وجوه أترابه من الأطفال ليوحي أنّ استهداف هذا الطفل بين ذراعي أبيه هو بمثابة استهداف لكلّ أطفال فلسطين، أمّا ونحن نشاهد كلّ الأطفال -أي نعم كلّهم- في مرمى الدبابات الإسرائيليّة تعيث فيهم تقتيلًا حيثما حلّوا، فهل من حاجة إلى فنّ التهويل والتضخيم؟ أمّا ونحن نشاهد التقتيل المباشر الحيّ الواقعيّ من خلال آلاف القنابل التي تنزل بلا هوادة على المدارس والمستشفيات ودور العبادة ومن خلال التصويب المباشر في جماجم الرّضع وأجساد الشيوخ والنساء والصبايا فقد حقّ القول إنّ كلمات الإبادة والفناء والزوال والتلاشي والمجازر والفواجع قد خرجت من باب الاستعمال المجازي والإيحائيّ لتتجسّد واقعيًّا حرفيًّا حسيًّا بصريًّا.

الحرج في النقل والتعبير لا يصيب الشعراء والرسّامين فقط إنّما يطال المفكّرين والنقّاد، فـ"كلّما اتّسعت الرؤيةُ ضاقت العبارة"

  • الصورة تفي بالحاجة.. كفّوا عن التعليق!

نعبّر عن الواقع الطبيعيّ بلغة تخضع إلى الضوابط الصوتيّة والتركيّبية والأنظمة الدلاليّة المعهودة فضلًا عن التسلّح بالموضوعيّة والمنهجيّة المناسبة، لكن حينما نواجه مشهدًا غريبًا متفرّدًا نستدعي الاستعارات والمجازات والتشبيهات، وحينما يدرك المشهد درجة خارقة عجائبيّة نعترف بعجز اللغة عن وظيفتها الإبلاغيّة الدنيا، فهي ظاهرة فيزيائيّة تحكمها شروط النسبيّة فلا قدرة لمستعملها على محاكاة المشاهد المفارقة للحقيقة والواقع والمألوف، وتأكيدًا لهذه المحنة اللسانيّة التعبيريّة يقول أحد المتصوّفة "كلّما اتّسعت الرؤيةُ ضاقت العبارة".

 

قصائد الحرب في حاجة إلى قراءة جديدة تبيح لنا الحدّ من التأويلات التي ترجع هول المشاهد إلى خصوصيّة التهويل والتخييل في الفنّ عامّة

 

ويقول أبو تمّام الشاعر العربيّ معبّرًا عن عجز اللغة عن تصوير بعض المشاهد الحربيّة في فتح عموريّة من قبل الخليفة المعتصم في القرن الثالث للهجرة:

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به *** نظم من الشعر أو نظر من الخطب

الأعمال البطوليّة الخارقة التي أنجزها مقاتلو القسّام والأفعال الإجراميّة الهابطة التي ارتكبتها طائرات العدوّ هي في الجملة مشاهد متباينة تباينًا شديدًا تباين الشرّ والظلم والقبح من جهة، والخير والعدل والجمال من جهة مقابلة، تباين العنف الحقّ والعنف الباطل، عنف الغطرسة والاحتلال وعنف المقاومة والصمود، لكن الجامع بينهما هو الخروج عن المألوف والتنكّر للواقع والتنكّب عن المنطق وحدود الاحتمال.

لقد كسرت شناعة المشهد الدمويّ في غزة حدود الإيحاء والترميز، فتداخلت الأنساق بين الواقعيّ والخياليّ وبين عالمي الغيب والشهادة وبين الحقائق والهواجس

هذا ما يجعل الحرج في النقل والتعبير لا يصيب الشعراء والرسّامين فقط إنّما يطال المفكّرين والنقّاد. للتحقّق من هذا الحرج تعالوا نقرأ بيتين آخرين من قصيدة أبي تمّام في موقعة فتح عمورية (سنة 233 هجريّا / 837 ميلاديًا)

ضـوء من الـنار والظـلماء عـاكـفة *** وظلمة من دخان في ضحى شحب

فالشمس طالعة من ذا وقد أفـلت *** والشمس واجـبة من ذا ولم تـجب

جلّ النقّاد القدامى والمعاصرين اعتبروا الشاعر قد توخّى المبالغة والغلوّ في تصوير ما حلّ بساحة الحرب، فقد تغيّر نظام الطبيعة فأصبح الليل نهارًا بفعل النيران المشتعلة وبات النهار ليلًا بسبب الغبار المتناثر الناشئ عن حركة الفرسان كرًّا وفرًّا.

اختارت الفنون بمختلف مدارسها المعاصرة الانزياح عن الواقع، وقد اعتبر روّادها المحاكاةَ نقيصة تجعل المبدع أقرب ما يكون إلى المصوّر الفوتوغرافيّ (Getty)

اطلاع نقّاد الأدب على مشاهد الدمار في غزة قد يجعل بعضهم يعيد تقييمه لتلك الصورة، فيتردّد في اعتبارها خياليّة، ألم يتحوّل الليل في غزة إلى نهار تضيئه طائرات المحتل التي يتكثّف طلوعها في الظلام فتقصف الأحياء والمؤسسات بعشوائيّة وهمجيّة فتشتعل النيران هنا وهناك؟ ألم يصبح النهار ليلًا بسبب الغبار المتناثر من العمارات التي يتمّ قصفها فإذا الجثث وأجسام الجرحى لا تُرى ساعتها إلا بالآذان من خلال أصوات الأنين والصياح والتكبير والحسبلة والحوقلة؟

قصائد الحرب في حاجة إلى قراءة جديدة تبيح لنا الحدّ من التأويلات التي ترجع هول المشاهد إلى خصوصيّة التهويل والتخييل في الفنّ عامّة، ومن القرائن الأخرى التي تحثّنا على ذلك صورة بعض الحيوانات التي تقتات من جثث تعذّر دفنها بسبب القصف والحصار في غزة، إنّها تردّد صدى أبيات شعريّة للمتنبيّ يكشف فيها أنّ النسور قد طلبت من خالقها أن يعفيها من الأنياب لأنها ما عادت في حاجة إليها وقد وهبتها الحرب أجسادًا طريّة جاهزة بلا نبض ولا حراك.

  • غزة 2073.. درس في قراءة الصورة

لقد كسرت شناعة المشهد الدمويّ في غزة حدود الإيحاء والترميز، فتداخلت الأنساق بين الواقعيّ والخياليّ وبين عالمي الغيب والشهادة وبين الحقائق والهواجس.

في سنة 2073، بعد نصف قرن من طوفان الأقصى يتملّى الأستاذ "قاسم" في صورة طفل في العاشرة من العمق قد قَبَرَ الركام جثته فلم يظهر من جسد فارقته الروح غير أسفل الساق ومقدّمة ذراعه اليمنى، وبجانب الجثّة لعبة حمراء ظلّت قائمة.

كيف نستطيع أن نقنع أجيالًا أخرى بعد عقود أنّ ما ستنقله لهم الأشرطة الوثائقيّة والصور الفوتوغرافية ليس خيالًا إنّما هو واقع تواطأت على رسمه كلّ الشرور والتناقضات والمفارقات؟

قدّم المربّي الصورة إلى تلامذته فحسبوها عملًا فنيًّا قد كشف عن خيال فيّاض وذكاء فائق يتمتّع به الرسام، فثمّن الطالب الأوّل التقابل بين الألوان الداكنة ولون الحمرة الساطع المضيء، وتفطّن الثاني إلى التناظر بين مشهدين متجاورين، مشهد الفناء والقبح الذي كشفت عنه الجثّة التي غطتها الأتربة وآثار البناء المهدّم ومشهد لعبة نجت من القصف مشحونة برمزيّة الأمل والحياة بحجمها الصغير الذي يتحدّى الجاذبيّة وشكلها الدائريّ اللطيف الملهم، تنهّد الأستاذ وقال لطلبته: لا تأخذنّكم لذّة القراءة ومتعة التأويل، فتلك الصورةُ لذعةٌ حقيقيّة التقطتها عدسة مصوّر أثناء تغطية حرب إبادة شنها الصهاينة على غزّة سنة 2023 دون الاستئناس بالأضواء والألوان ولا بأي من الحيل البصريّة والمؤثّرات.

 

الصورة الفوتغرافية أبعد إيحاء من الرسم الفنّي
الصورة الفوتغرافية أبعد إيحاء من الرسم الفنّي

 

عرَضَ الأستاذ لوحة ثانية مرسومة باليد فيها مزوّد كهرباء قد تمّ تحويله من آلة الأكسيجين المخصصة للأطفال إلى دبّابة حاصرت المستشفى، فبدت هذه المفارقة القاسية آية على عبقريّة ذوقيّة يتمتّع به الرسام، فاحتاج الأستاذ مرّة أخرى إلى تصويب أفق قراءتهم وتأويلهم قائلًا إنّ الصورة هي مجرّد محاكاة تكاد تكون حرفيّة لما حصل في مستشفى الرنتيسي للأطفال وفي مجمّع الشفاء وفي المستشفى الأندونيسي شمال قطاع غزة وغيرها من المراكز الصحيّة.

 

الدبابة والرضيع
هذه الصورة هي مجرّد محاكاة تكاد تكون حرفيّة لما حصل في عدة مستشفيات ومراكز صحيّة في غزة

 

في لوحة ثالثة بدت البنت ذات السبع سنوات بوجه وضّاح وعين برّاقة تتلقّى الإسعافات الأوليّة وقد غطّت جسدها الناعم دماء اختلطت مع الأتربة فكشفت عن سواد عدواني لم يستطع أن يمحو صفاءً جهاديًّا ربّانيًا في ذاك الملمح الملائكيّ، تساءل أحد الطلبة همسًا دون أن يصدع برأيه: كم قضّى مهندسو الديكور والإضاءة ومحترفو المكياج من الوقت لبلوغ هذا المشهد الذي تحقّقت فيه "جماليّة القبح"؟ أجاب الأستاذ الجميعَ كأنّه يريد أن يرفع عنهم حرج القراءة والتأويل، تلك الصورة لم تستغرق غير لحظة زمنية لا تتعدّى مدّة النقر على زرّ واحد، زرّ الآلة الحربيّة العظيمة التي يقف وراءها كائن اجتمعت فيه كلّ ألوان الخسّة والجبن والغدر.

 

الوجه الوضاح
"هذه الصورة لم تستغرق غير لحظة زمنية لا تتعدّى مدّة النقر على زرّ واحد، زرّ الآلة الحربيّة العظيمة التي يقف وراءها كائن اجتمعت فيه كلّ ألوان الخسّة والجبن والغدر"

 

تكرّرت المواقف والتقييمات مع كلّ الصور التي تشكّل ألبوم المجازر والخذلان العربيّ والغربيّ وتناقض المواقف والتصريحات، وفي كلّ مرّة يحسبها المتلقيّ من بنات خيال الرسّام فيكتشف أنها لوحة حقيقية واقعيّة لا تزيد عن الإخبار عمّا واجهه أهل غزة الذين تمكنوا بشجاعتهم من التصدّي لغطرسة أكثر الجيوش والأنظمة تطرّفًا في التاريخ البشريّ.

حرجُ الأستاذ وهو يشرح لتلامذته يجلعنا نتساءل: كيف نستطيع أن نقنع أجيالًا أخرى بعد عقود أنّ ما ستنقله لهم الأشرطة الوثائقيّة والصور الفوتوغرافية ليس خيالًا إنّما هو واقع تواطأت على رسمه كلّ الشرور والتناقضات والمفارقات؟