لم يكُفّ التوّنسيّون عن إظهار تفاعلهم مع الأوضاع المتقلّبة في القطر الليبيّ منذ حوالي تسع سنوات، اتّخذ التفاعل في البدء منحى المساندة المطلقة للاحتجاجات السلميّة التي اندلعت في فيفري/ شباط 2011 ضدّ النظام المستبدّ، ظلّت المساندة قائمة قولًا وتحفيزًا ودعمًا وإغاثة، وما إن ظهرت بوادر التدخّل الأجنبيّ حتّى بدأت المساندة تفقد جذوتها وعنفوانها وطهارتها، فدبّ فيها الشكّ والتردّد.
لم يستسغ عدد كبير من المتمسّكين بالثورة السلميّة القصف الجويّ الذي شنته قوات الحلف الأطلسي بإيعاز من الأمم المتّحدة، في مارس/آذار 2011، لا شكّ أنّ تلك الضربات قد ساهمت في الثأر لمن طالتهم أيادي القمع والتعذيب والاغتصاب وإسقاط نظام الاستبداد، وترجيح كفّة "الثوّار"، غير أنّ هذا المسار الذي تشابك فيه الحافز الداخليّ مع العوامل الخارجيّة قد مثّل في تونس واحدًا من أسباب التباين والانقسام في تقييم الثورة الليبيّة.
عدنان منصر: بعض سوء التقدير في عرض الشأن الليبي يعود إلى عدّة أسباب منها طبيعة الأحداث باعتبارها متسارعة ومتداخلة ومعقّدة وفجئيّة أحيانًا، إذ يجد الدارس نفسه إزاء فرضيّات تُسابق الوقائع لا تكاد تدركها
اقرأ/ي أيضًا: مع دق طبول الحرب.. أي دور تونسي في الميدان الليبي؟
اللافت في الأمر أنّ هذا التباين يتراجع، وقد يختفي أحيانًا، لكنّه سرعان ما يعود أشدّ وأقوى كلّما تراءت للتونسيين مؤشّرات التدخّل الأجنبيّ، الغريب في كلّ ذلك أنّ سقوط عشرات القتلى والجرحى بسبب الحرب الأهليّة يبدو أثره في نفوس التونسيين وأذهانهم وجدالاتهم أدنى من إعلان هذه الجهة أو تلك عزمها على التدخّل في الشأن الليبي الداخليّ.
هذا ما يُفسّر موجة السخط تجاه اللواء المتقاعد خليفة حفتر حينما استنجد بمرتزقة من التشاد والسودان وروسيا، وهو سخط لا يقلّ حدّة عمّا أبداه شقّ آخر من التونسيين ضدّ رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السّراج الذي استنجد بتركيا ودول أخرى لدعم موقفه السياسيّ والعسكريّ.
مقابل هذا الرفض للتدخّل الأجنبيّ يدعو غالبيّة التونسيين سلطتهم التنفيذيّة حكومة ورئاسة إلى السعي الجادّ إلى مساعدة الليبيين على تخطّي محنتهم، فما يباح لتونس لا يباح لغيرها، فليس بين الأشقّاء حجاب ولا حساب، هذا الإجماع لا يخلو من اختلاف في المقاصد ووجهات النظر، وهو ما يحثّ على التساؤل عن "السياسة الممكنة للدولة التونسيّة تجاه الوضع في ليبيا"، وقد مثّل هذا التساؤل عنوانًا لندوة نظّمها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات بتونس بالاشتراك مع مركز الدراسات الاستراتيجيّة حول المغرب العربيّ وذلك يوم 27 ديسمبر/ كانون الأوّل 2019.
الوضع الليبي والصراع الداخليّ في تونس
نحا العديد من التونسيين الخائضين في الشأن الليبيّ منحى سجاليًا متوتّرًا بدا فيه التوظيف الحزبيّ والإيديولوجيّ مفضوحًا، ولأنّ الأمر خطير ودقيق دعا طارق الكحلاوي، الأكاديمي والمدير الأسبق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجيّة، إلى التعقّل والموضوعيّة وحثَّ على الاستئناس بالمقاربات العلميّة العميقة، فالقضايا الجوهريّة المصيريّة لا تحتمل التهافت والإثارة والسطحيّة.
المهدي المبروك: العقل الليبيّ من شأنه أن يساهم في ترشيد الخطاب التونسيّ والحدّ ممّا قد يشوبه من خلط أو غموض
في نفس السياق دعا المهدي المبروك، وزير الثقافة الأسبق ومدير المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات - فرع تونس، إلى الاستفادة من الخبراء الليبيين، فهم أقدر على عرض مشاغل بلادهم وتحليلها وتفصيل القول فيها، فالعقل الليبيّ من شأنه أن يساهم في ترشيد الخطاب التونسيّ والحدّ ممّا قد يشوبه من خلط أو غموض. وقد عبّر عن هذه النقطة بمنتهى الصراحة أميّة الصّديق ممثّل مركز "الحوار الإنسانيّ" قائلًا "إنّ مستوى المعرفة التونسيّة بالشأن الليبيّ ما عدا بعض الاستثناءات متدنّ جدّا"، ولم يُخف أميّة امتعاضه من اعتماد الأوضاع الليبيّة مطيّة لتصفية الحسابات بين الأطراف المتصارعة في تونس، فجلّ هذه المواقف على حدّ تعبيره "تحرّكها خلافات داخليّة".
ولئن كشف أميّة عن هذا المشهد في أسف وانفعال، فقد عبّر عنه الباحث عبد الله عثمان بأسلوب تحليليّ منهجيّ في سياق تِبْيانه للعقبات التي تحدّ من الدور التونسيّ في الأوضاع الليبيّة ذاكرًا المعطّلات السياسيّة التي تتمثّل خاصّة في الخلافات بين الأحزاب ممّا يحول دون الاتفاق حول السبل الأمثل لدعم القضيّة الليبيّة.
من جهة أخرى، أرجع مدير مركز الدراسات الاستراتيجيّة حول المغرب العربيّ عدنان منصر بعض التخبّط وسوء التقدير في عرض الشأن الليبي ومناقشته إلى عدّة أسباب منها طبيعة الأحداث، فهي متسارعة متداخلة معقّدة فجئيّة أحيانًا، إذ يجد الدارس نفسه إزاء أفكار وفرضيّات تُسابق الوقائع فلا تكاد تدركها، وهو ما يجعل بعض القراءات تفقد الروح العلميّة، ذلك أن المنهج العلميّ يأبى التسرّع والعُجالة في إصدار الأحكام ويقتضي التقصّي والتأنيّ والمراجعة والتقليب.
اقرأ/ي أيضًا: الأطفال التونسيون العالقون في ليبيا.. مواطنون مع وقف التنفيذ
قيس سعيّد والثورة والقانون الدولي
عدّد عبد الله عثمان المحفّزات التي تجعل الليبيين متطّلعين إلى الدور التونسيّ الإيجابيّ، منها رغبتهم في مواجهة "نمط احتكار الحلول"، فقد ظلّ الغرب منذ سنوات قِبلة العرب والأفارقة لفضّ النزاعات، وعاب عثمان "الديلوماسيّة الانطوائيّة" التي سلكتها تونس مع القضيّة الليبيّة في بعض المراحل ، واعتبر أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد يملك شروط المبادرة، فهو الشخصيّة السياسيّة التي تحظى بإجماع كلّ التونسيين، وهو قادر بفضل هذه المنزلة الشعبيّة والاعتباريّة على دفع الحكومة المقبلة إلى تبنّي مواقف جادّة وعمليّة في خدمة القضيّة الليبيّة، فلا يحق لتونس بأيّ حال من الأحوال أن تتراخى وتلجأ إلى الانطواء في التعامل مع الشأن الليبي.
عادل كندير (أستاذ القانون الدولي): يمكن لتونس في مجلس الأمن المساهمة في خدمة القضيّة الليبيّة كأن تلحّ على التمسّك بقرارات مجلس الأمن وتحميل حفتر مسؤوليّة إفشال خريطة الطريق السياسيّة
هذا الموقف لا يختلف عن رأي الكحلاوي الذي اعتبر "تونس في قلب الشأن الليبي، فهي ليست مُخيرة في ذلك". وقد عبّر الأمين البوعزيزي الباحث والأكاديميّ عن نفس الفكرة قائلًا "إنّ الملف الليبي هو قضيّة تونسيّة فالعلاقة بين القطرين متجذّرة تاريخيًا وثقافيًا".
ولئن عرض الكحلاوي والبوعزيزي رأييهما في عبارات موجزة مكثّفة دلاليًا ورمزيًا، فقد فصّل السفير التونسي السابق في ليبيا محمّد جنيفان هذه النقطة مركّزًا على دور الحاضنة الشعبيّة في دفع مسارات التعاون بين القطرين، وذكّر بحوادث عديدة كشفت عن مشهد فريد بدا فيها الشعبان الليبي والتونسي متّصفان بالنضج والحكمة والحرص على حسن الجوار في حين كان الزعيمان بورقيبة والقذافي أميل إلى التوتّر والخصام وصناعة الفتن والضغائن.
في سياق التأكيد على أهميّة الدور التونسيّ، ذكّر سامي سالم الأطرش، رئيس المكتب السياسي للتجمع الوطني الليبي، بما وصفه الحافز الثوريّ، فالالتزام بهذا الخطّ يدفع التونسيين دفعًا إلى دعم الطرف الذي يتناغم مع مبادئهم وقيمهم الأساسيّة التي تمّ تكريسها منذ سنة 2011 وهي الانتصار للحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان وسيادة القانون.
ولئن راهن الأطرش على المنزلة الثوريّة للبلاد التونسيّة فقد بنى عادل كندير أستاذ القانون الدوليّ رؤيته على تصوّر تشريعيّ، فتونس تملك، حسب رأيه، أحد مفاتيح الشرعيّة الدوليّة، فهي عضو في مجلس الأمن وبإمكانها المساهمة في خدمة القضيّة الليبيّة، كأن تلحّ على التمسّك بقرارات مجلس الأمن وتحميل حفتر مسؤوليّة إفشال خريطة الطريق السياسيّة التي تمّ التنصيص على إنجازها من قبل الأمم المتحدة، وهو الذي لجأ إلى العمل العسكريّ قبل حوالي عشرة أيّام من بلوغ الحلّ السّلميّ.
انتهت الندوة العلمية إلى خلاصة مفادها أن السياسة التونسيّة في صلة بالشأن الليبي تقتضي بلا شكّ الحكمة و التروّي والرشاد لكنّها في كلّ الأحوال لا تحتمل الانطواء والحياد
في المقابل، عدّ السفير السابق الهادي بن نصر المراهنة على دور تونس في الأمم المتحدة فيه بعض الوجاهة، لكنّه محدود جدًا بسبب عدّة عقبات، منها افتقار تونس إلى ورقة ضغط قويّة منسجمة متناغمة واضحة المعالم، فهي تمثّل الدول العربيّة التي بدت بسبب مشاكلها الداخليّة والخلافات بينها مصدر تشتيت للقوى الليبيّة، فالاتحاد المغاربيّ حسب رأيه في سبات والجامعة العربيّة باتت معطّلة والجزائر تواجه فترة تحوّل، كلّ هذه الأوضاع وغيرها تحثنا على أن لا نكلّف تونس إلّا وسعها.
ختامًا يمكن الاهتداء إلى نتيجتين هامّتين هما خلاصة ندوة "السياسة الممكنة للدولة التونسيّة تجاه الوضع في ليبيا، الأولى مفادها أنّ الدور التونسيّ في علاقة بالأوضاع الليبيّة لا تحدّده كما يدّعي البعض المصالح الاقتصاديّة والمنافع الماديّة ولا تحرّكه المخاوف الأمنيّة فحسب إنّما هو سليل عناصر عديدة متشابكة منها الجوانب الثقافيّة والتاريخيّة الموغلة في القدم فضلا النزعة الثوريّة التي سرت في النفوس والأذهان وسارت على الألسن فأصبحت تمثّل مرجعا لا غنى عنه في اتّخاذ المواقف والقرارات.
فيما تتمثل النتيجة الثانية في أنّ السياسة التونسيّة في صلة بالشأن الليبي تقتضي بلا شكّ الحكمة و التروّي والرشاد لكنّها في كلّ الأحوال لا تحتمل الانطواء والحياد.
اقرأ/ي أيضًا: