أيام قليلة بعد عيد الفطر، بدأت المدن السياحية التونسية تستقبل وفودًا من السياح الأجانب، وترى مظاهر ذلك في المنتجعات السياحية الكبرى في سوسة وياسمين الحمامات وتونس وجربة، وكان لتلك الوفود الوقع الحسن على التجار ومزودي الخدمات والتنشيط السياحي مما يُعتقد منه أن الموسم الحالي سيكون استثنائيًا رغم الصعوبات الاقتصادية والمالية التي تعيشها تونس.
تفاؤل بشأن الموسم السياحي الجديد من قبل أبناء القطاع، بالنظر إلى ارتفاع نسبة الحجوزات مقارنة بالسنوات المرجعية عالية النجاح مثل سنة 2019
مدينة سوسة تشهد بدورها وفود سياح فرنسيين وبريطانيين وألمانيين وجزائريين خاصّة، وهذا ما دفع نحو حركة تجارية نشيطة لدى الحرفيين والموانئ الترفيهية وبعض الفضاءات التجارية الخاصة، ولعلّ من بين المنافع الواقعة عند بداية هذا الموسم، اندماج السائح خارج محيط النزل وانطلاقه نحو اكتشاف فضاءات جديدة آمنة، وتشبع حبّه لاكتشاف البلد وخصوصياته التاريخية والأثرية والاجتماعية والاقتصادية.
المتعهدون في قطاع السياحة من أصحاب النزل ووكالات الأسفار وقطاع النقل الجوي والبحري خاصّة، أطلقوا أرقامًا ومؤشرات متفائلة بشأن الموسم الجديد وذلك بالنظر إلى ارتفاع نسبة الحجوزات مقارنة بالسنوات المرجعية عالية النجاح مثل سنة 2019.
غير أن التخوفات لا تزال قائمة بالنظر إلى الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي الذي تعيشه تونس خاصّة بعد الحرب الأوكرانية الروسية وتأثيرها المباشر على الموازنة العامة إضافة إلى الوضع السياسي المتقلّب وغير المستقرّ منذ أكثر من سنتين عقب فترة انتشار وباء فيروس كورونا.
الشارع التونسي ينظر إلى السياحة بعين التفاؤل، غير أن التضخم المالي وغلاء الأسعار وفقدان بعض المواد الأساسية وتراجع مداخيل المؤسسات الاقتصادية والصعوبات المالية لعدة قطاعات حيوية تدفع نحو القلق والتساؤل حول مدى نجاعة الانتعاشة السياحية في رتق الهوّة.
الصعوبات المالية لعدة قطاعات حيوية تدفع نحو القلق والتساؤل حول مدى نجاعة الانتعاشة السياحية في مجابهة التضخم المالي وغلاء الأسعار
منير البنزرتي بائع الأواني الفخارية في المدينة العتيقة يعتبر أن ما يذاع من إقبال وفود متزايدة من السياح هذا الموسم أمر جيّد، "غير أنه لا يمكن لنا اليوم كحرفيين الاستثمار بمبالغ مالية ضخمة نظرًا للصعوبات الاقتصادية التي نعاني منها ولذلك سنجاري هذه الموجة الإيجابية بالقدر الممكن" وفقه.
في حين اعتبر "مراد" وهو صاحب مطعم سياحي، أن ارتفاع كلفة المواد الغذائية وغلاء الأسعار يجبرنا على الترفيع في سعر الوجبات وبالتالي لا يمكن ضمان قدرة الوافد الأجنبي على الإقبال علينا فهو يخيّر الاستهلاك داخل النزل ويسعى إلى التقشف مثله مثل المواطن التونسي.
بائع أوان فخارية لـ"الترا تونس": مؤشرات ارتفاع عدد السياح جيّدة، لكن لا يمكن لنا اليوم كحرفيين الاستثمار بمبالغ مالية ضخمة نظرًا للصعوبات الاقتصادية التي نعاني منها
قطاع النقل السياحي بدوره لم يكن مستعدًا بالقدر الكافي لاستقبال وفود متزايدة من السياح، ودليل ذلك اهتراء الأسطول مما دفع عديد الوكالات إلى كراء حافلاتها ووضعها تحت ذمة نقل العملة في المصانع بالمناطق الصناعية والأقطاب الاقتصادية، في حين أن التزود بأسطول جديد لم يكن بالقدر الكافي نظرًا للصعوبات المالية التي يمرون بها.
غير أن وكالات الأسفار العالمية الكبرى أبدت استعدادها التام لإنجاح الموسم السياحي التونسي، ففي تصريح خصّ به "الترا تونس" يقول أنس سنان ممثل شركة الأسفار والسياحة العالمية "توي" أن "الوكالة ستسجل أكثر من 50 ألف مقعد إضافي على متن رحلاتها نحو تونس وسيكون العدد الأفضل من ذوي الجنسية البريطانية".
ويقول أنس سنان: "وضعت الشركة 16 طائرة تابعة لأسطولها على ذمّة رحلات أسبوعية نحو الوجهة التونسية انطلاقًا من المطارات البريطانية، وكذلك 7 طائرات لنقل السياح البلجيكيين إلى تونس وذلك بداية من بداية الشهر (2 ماي/ أيار)، إلى جانب برمجة 12 ناقلة بحرية سياحية".
صاحب مطعم سياحي: غلاء الأسعار يجبرنا على الترفيع في سعر الوجبات وبالتالي لا يمكن ضمان قدرة الوافد الأجنبي على الإقبال علينا فهو يخيّر الاستهلاك داخل النزل
ويذكر أنه قد رست صباح الخميس 20 أفريل/ نيسان 2023 بميناء حلق الوادي، أول باخرة سياحية نحو الوجهة التونسية هذه السنة معلنة بذلك انطلاق موسم الرحلات السياحية البحرية وعلى متنها قرابة 5500 سائحًا وقرابة 1700 من طاقم الباخرة من جنسيات مختلفة أغلبها فرنسية وإيطالية وإسبانية وهي قادمة من برشلونة وستتجه إلى بلارمو وفق وكالة تونس إفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية).
ومن المنتظر أن "تشهد تونس قدوم 44 رحلة سياحية بحرية أخرى إلى غاية موفى شهر أكتوبر/ تشرين الأول القادم وهو ما سيساهم في مزيد انتعاش القطاع السياحي".
آخر الإحصاءات تشير إلى "ارتفاع العائدات السياحية بنسبة 11.6% خلال الـ10 أيام الأولى من 2023 مقارنة بـ2019" وفق المعهد الوطني للإحصاء.
وقد أشار بيان للبنك المركزي التونسي الأخير إلى أن "تحويلات التونسيين في الخارج ارتفعت منذ بداية العام الحالي وإلى غاية 20 أفريل/ نيسان الجاري إلى 2339.6 مليون دينار مقابل 2180.6 مليون دينار تم تسجيلها في نفس الفترة من سنة 2022 في حين ناهزت قيمة عائدات السياحة 1180.6 مليون دينار".
من المنتظر أن تشهد تونس قدوم 44 رحلة سياحية بحرية أخرى إلى غاية موفى شهر أكتوبر 2023
ومثلت، على هذا الأساس، إجمالي خدمة الدين 75.3% من مجموع عائدات تحويلات التونسيين في الخارج وقطاع السياحة. وبلغت حسب المعطيات الإحصائية نسبة الفائدة بالسوق النقدية 8.00 بالمائة في حين تواصل تراجع الدينار أمام الأورو بنسبة 2.88%.
وأدى التحسن الطفيف في إيرادات السياحة وتحويلات الجالية وهي أهم مصادر العملة الأجنبية إلى استقرار احتياطي النقد الخارجي الذي ناهز بحساب أيام التوريد 95 يوم توريد بما يعادل 22.2 مليار دينار وذلك بالتوازي مع تنامي الضغوطات على السيولة النقدية لدى البنوك التي تشهد نقصًا بـ 15.7 مليار دينار مقابل نقص بنحو 9.8 مليار دينار يوم 20 أفريل/ نيسان 2022.
رضا الشكندالي لـ"الترا تونس": مؤشرات الحجوزات تقول إن القطاع السياحي سيكون متميزًا هذه الصائفة وهو ما سيساهم في تنامي مخزون الدولة من العملة الصعبة
وفي هذا الصدد يقول أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي لـ"الترا تونس": "كل قطاع يدر على تونس مبالغ من العملة الصعبة يكون مهمًا جدًا كمؤشر إيجابي على مردودية الاقتصاد التونسي، وهذه الإشارة إلى تحسن المداخيل السياحية صورة جيدة، والمؤشرات على مستوى الحجوزات وارتفاع عدد الوافدين على جربة تقول إن القطاع السياحي سيكون متميزًا هذه الصائفة وهو ما سيساهم في تنامي مخزون الدولة من العملة الصعبة لأن التراجع يهدد الدينار التونسي والذي يؤدي إلى تضخم مالي كبير".
ويقول الشكندالي: "من الأفضل أن يكون لنا طاقة تشغيلية موسمية أفضل من لا شيء ولو أن نسبة الاندماج التشغيلي على مستوى القطاع السياحي ضعيفة جدًا، فهي لا تستقطب اليد العاملة من أصحاب الشهادات العليا (النسبة الأكبر من البطالة)، ولذلك وجب العمل على طاقة تشغيلية في القطاع السياحي بطريقة هيكلية ومنظمة وشاملة لتعطي ديمومة".
وشدد الشكندالي على "ضرورة التسريع في تنفيذ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بعد التصريحات الإيجابية لمدير إدارة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ووسط آسيا في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور وكذلك المضي في إصلاح قطاع الفسفاط وغير ذلك".
رضا الشكندالي لـ"الترا تونس": نسبة الاندماج التشغيلي على مستوى القطاع السياحي ضعيفة جدًا، فهي لا تستقطب اليد العاملة من أصحاب الشهادات العليا
ويذكر أن جهاد أزعور قال في تصريح صحفي مساء الخميس 4 ماي/ أيار إن ''الصندوق على وشك الانتهاء من ترتيب مالي من شأنه أن يسمح لتونس الحصول على حزمة إنقاذ بقيمة 1.9 مليار دولار''.
وأضاف أزعور أنّ ''التقدم في المفاوضات يتوقف على الدعم الإضافي الذي قد يقدمه حلفاء تونس، وتنفيذ الحكومة للإجراءات المطلوبة للحصول على السيولة''.
من جهة أخرى وفي الشأن المحلي لعدة مناطق سياحية تونسية، أبدى المتدخلون في القطاع السياحي من جامعة النزل ووكالات الأسفار تخوفهم من عدم جاهزية البنية التحتية وتعطل العديد من المشاريع مثل الطريق السياحية القنطاوي بحمام سوسة واهتراء البنية التحتية من طرقات وفضاءات ترفيهية ومعالجة النقاط السوداء البيئية على غرار تهيئة الشواطئ وتنظيفها واستصلاح محطات التطهير في المناطق السياحية والقضاء على البناءات الفوضوية في الملك العمومي البحري والتصدي لظاهرة الاستغلال غير القانوني من طرف الخواص للشواطئ، وهي مسائل قائمة في كل موسم سياحي وتشتد كلما ارتفع مؤشر الحجوزات.
مدير عام شركة دراسات وتنمية سوسة الشمالية لـ"الترا تونس": عجزت الشركة مؤخرًا عن الإيفاء بتعهداتها إزاء منظوريها من صناديق اجتماعية ومزودين
ولعل الصعوبات المادية التي تعيشها شركات سياحية عمومية (تساهم الدولة في رأسمالها) على غرار شركة الدراسات وتنمية سوسة الشمالية المستغلة لمنتجع القنطاوي، تؤثر سلبًا على مردودية القطاع السياحي خاصة وأن التراكمات المالية تستدعي إعادة هيكلة شاملة لمثل هذه المؤسسات.
وفي تصريح خص به "الترا تونس"، يقول عبد القادر سلتان مدير عام شركة دراسات وتنمية سوسة الشمالية: "نقترح إعادة هيكلة شاملة للشركة من خلال إحداث استثمارات عقارية جديدة وتسريح 53 عاملًا في اختصاصات لم تعد مطلوبة باعتبار أن كتلة الأجور كبيرة (بصدد الدراسة)، وقد عجزت في الشركة في الفترة الأخيرة عن الإيفاء بتعهداتها إزاء منظوريها من صناديق اجتماعية ومزودين، والمداخيل لم تعد كافية لسداد المصاريف المقدرة بـ7 مليون دينار سنويًا في حين أن مداخيل ملاعب الغولف والميناء الترفيهي لا تتجاوز 4.5 مليون دينار وبالتالي صارت الشركة في عجز هيكلي".
مدير عام شركة دراسات وتنمية سوسة الشمالية لـ"الترا تونس": المداخيل لم تعد كافية لسداد المصاريف المقدرة بـ7 مليون دينار سنويًا ونقترح تسريح 53 عاملًا لضخامة كتلة الأجور
ولتجاوز الأزمة "تسعى الشركة المتمركزة بالقنطاوي منذ 1973 إلى توفير قدرة تمويلية في شكل قرض بقيمة 5 مليون دينار يتم تخصيص 1.5 مليون دينار منها لصيانة وتهيئة محطة ضخ المياه واقتناء معدات وتجهيزات لازمة لملعب الصولجان ومليون دينار لسداد الأقساط البنكية" وفق دراسة أعدتها الشركة وتم عرضها أمام المساهمين وسلطة الإشراف.
إن السياحة التونسية لا تزال تتقاذفها رياح الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية لذلك ظلّت رهينة تقلب الوضع الداخلي والمتغيرات العالمية حتى أضحت قطاعًا يدرّ أموالًا غير ثابتة وموارد غير مستقرة وهذا ما أفقد ثقة المواطن الذي يطمح إلى الديمومة والحفاظ على مورد قار على مدار السنة، غير أن المؤشرات الإيجابية تخلق نوعًا من الانتعاشة المطلوبة التي تمس قطاع الشركات الصغرى والمتوسطة الخدمات والحرف.