29-نوفمبر-2023
استقلالية القضاء في تونس

استقلالية القضاء في تونس وعدم التدخل فيه هي مجرّد شعارات يرفعها الرئيس قيس سعيّد (Getty)

مقال رأي 

 

دائمًا ما يؤكد رئيس الدولة قيس سعيّد، في تصريحاته، عدم تدخّله مطلقًا في القضاء وأنه يؤمن باستقلاليته، ولكن أفعاله ومراسيمه تناقضه مطلقًا. رئيس الدولة ليس فقط يتدخّل في القضاء، تشريعًا وواقعًا، بل هو يسيطر عليه. يصبح بالتبعية الحديث عن استقلالية للقضاء ضربًا من العبث. وزيرة العدل ليلى جفال تدير مشهد التدخل في القضاء، بما يذكّرنا بوزير العدل زمن بن علي البشير التكاري. الزمن يعيد نفسه والضحية هو القضاء المستقل.

عدم التدخل في القضاء هو مجرّد شعار يرفعه الرئيس، الذي كان قد صرّح أن القضاء المستقلّ خير من ألف دستور، وهو للمفارقة من ألّف لوحده، وفي الغرف المظلمة، دستورًا نسف ضمانات استقلالية القضاء، وظيفية كانت أو هيكلية،  بل أسّس لتكريس قضاء التبعية. 

دائمًا ما يؤكد الرئيس قيس سعيّد في تصريحاته عدم تدخّله مطلقًا في القضاء وأنه يؤمن باستقلاليته لكنّ أفعاله ومراسيمه تناقضه مطلقًا.. هو ليس فقط يتدخّل في القضاء تشريعًا وواقعًا بل هو يسيطر عليه

من أين بدأ وضع رئيس الدولة يده على القضاء؟ النوايا كانت مبيّنة منذ يوم 25 جويلية/يوليو 2021 حينما أعلن الرئيس نفسه "رئيسًا للنيابة العمومية" وهو منصب غير موجود في التنظيم القضائي التونسي. قرار عارضه وقتها المجلس الأعلى للقضاء وتراجع عنه رئيس الدولة ظاهريًا، لكنّه عمل على تكريسه واقعيًا خلال الأشهر الموالية للانقلاب عبر طلبه عن طريق وزيرة العدل من النيابة إثارة التتبعات على معنى الفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية، وهو فصل غير دستوري كما أكدت لجنة مراجعة المجلّة بالوزارة نفسها، باعتباره يتعارض مع مبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. وكان يُفترض إلغاء هذا الفصل في إطار التنزيل التشريعي لدستور 2014.

"بلدوزر" رئيس الدولة استمرّ بحلّ المجلس الأعلى للقضاء وتعويضه بآخر مؤقت ومعيّن كتولّي الرئيس بنفسه تسمية عدد من أعضائه. لم يكن حلّ المجلس إلا إعلانًا صريحًا عن مضيّ الرئيس في وضع اليد على القضاء بإبعاد المجلس الذي عمل، بعد إعلان التدابير الاستثنائية، على الدفاع عن استقلالية القضاء وعن صلاحياته.

عدم التدخل في القضاء هو مجرّد شعار يرفعه الرئيس الذي كان قد صرّح أن القضاء المستقلّ خير من ألف دستور، وهو للمفارقة من ألّف لوحده دستورًا نسف ضمانات استقلالية القضاء، بل أسّس لتكريس قضاء التبعية

 واللحظة الفارقة أيضًا في مسلسل التدخل في القضاء هي إعفاء رئيس الدولة لـ57 قاضيًا في جوان/يونيو 2022 خارج إطار المرسوم الذي كتبه بنفسه قبل أشهر وقتها، وفي غياب مطلق لأدنى الضمانات القانونية كمبدأ المواجهة وحق الدفاع. قائمة شملت عشرات القضاة ممّن عُرفوا ببسالتهم في الدفاع عن استقلاليتهم مهنتهم بصوت عال، في مقدّمتهم رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر. واستهدفت القائمة بالخصوص القضاة الذين استبسلوا في التصدّي لمحاولة السلطة التنفيذية التأثير على قراراتهم القضائية. فلم يكن من قبيل الصدفة تركّز الإعفاءات على قضاة النيابة العمومية والتحقيق على وجه الخصوص. 

 

 

مظلمة الرئيس، في هذا الجانب، استمرّت برفضه تنفيذ قرارات رئيس المحكمة الإدارية بتوقيف النظر في قرارات الإعفاء بحق جلّهم الساحق. بل أثارت السلطة عديد القضايا الكيدية بحقّهم وبصفة بعدية لتبرير الإمعان في الدوس على القانون. هذه المظلمة بثّت مناخًا من الترهيب في صفوف القضاة الذين باتوا بين الانصياع لطلبات السلطة ورغباتها من جهة أو سيف الإعفاء وما يعنيه من قهر للقضاة وعائلاتهم. كيف يمكن للقاضي أن يتخذ قرارًا أو يصدر حكمًا في هكذا مناخ من الترهيب؟ خاصة وقد تحوّلت تفقدية وزارة العدل إلى أداة لهرسلة القضاة ممّن تراهم السلطة ليسوا أداة طيّعة. 

يظنّ الرئيس أن القضاء يجب أن يكون مستقلًا عن الجميع ما عدا شخصه باعتباره خارج دائرة الإقصاء. فهو يجب أن يحكم ويسود في كل المواضع، وهو لوحده من يقدّر مسالك العدل والإنصاف

عناوين تدخل الرئيس وحاشيته في القضاء متعدّدة، من أهمّها أيضًا تعيين السلطة التنفيذية للقضاة في المراكز القضائية السامية بما يشمل المتفقد عام دون عن الخطط المتقدّمة كالوكالة العامة ووكالة الجمهورية بتونس العاصمة. تعيينات أصدرتها وزيرة العدل في شهر ماي/أيار 2023 متجاوزة المجلس المؤقت للقضاء الذي أحالته السلطة واقعًا على الموت السريري خاصة بعد تفريغه من أعضائه في الحركة القضائية الأخيرة. وهذه الحركة هي عين التدخّل في القضاء: تثبيت للقضاة الذي عيّنتهم الوزيرة، ونقل تعسفية للقضاة المعروفين باستقلاليتهم في هندسة ممنهجة لمشهد قضاء الموالاة. فلا يتقدّم للمواقع المتقدّمة إلا من تراهم السلطة التنفيذية بعين الرضا.

مشهد التدخل في القضاء لا يكتمل بالنسبة للسلطة إلا بإثارة تتبعات قضائية ضد المدافعين عن استقلال القضاء: رئيس هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين العياشي الهمامي ورئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي. هي حالة من الهرسلة والتنكيل.

يعرف القضاء التونسي اليوم محنة كالتي عرفها زمن الاستبداد، لكنّ عجلة التاريخ لن تُنصِر إلا تيار استقلال القضاء، اليوم أو غدًا

وفي خضمّ كل هذه الوقائع، يصرّ الرئيس على أنّه "لا يتدخل في القضاء" ببساطة، والحال أنه يقود القضاء تشريعًا وواقعًا اليوم. يظنّ الرئيس أن القضاء يجب أن يكون مستقلًا عن الجميع ما عدا شخصه باعتباره خارج دائرة الإقصاء. فهو يجب أن يحكم ويسود في كل المواضع، وهو لوحده من يقدّر مسالك العدل والإنصاف. فلا تنتشر بذلك إلا المحاكمات السياسية التي تفتقد لضمانات المحاكمة العادلة وفي مقدمتها استقلالية القضاء. ولم يبقَ للرئيس، الذي كان قد توعّد بأن من سيبرِّئ المعتقلين فيما تسمّى قضية "التآمر" هو "شريك لهم"، إلا أن يتولّى القضاء بنفسه. 

وبالنهاية هو "الحاكم" الحقيقي في العمق. وهو يعارض مجددًا عمر بن الخطاب، الذي يراه مثلًا له، في رسالته إلى أبي موسى الأشعري الذي طالبه بالقضاء بالحق. في حين أن الرئيس لا يريد إلا قضاءً بحسب هواه لا الحق، وهو يرهب القضاة بدل أن ينصفهم ويحثّهم على العدل. 

بالنهاية، يعرف القضاء التونسي اليوم محنة كالتي عرفها زمن الاستبداد، لكنّ عجلة التاريخ لن تُنصِر إلا تيار استقلال القضاء، اليوم أو غدًا.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"