09-نوفمبر-2023
محكمة قضاء قضاة تونس إضراب الاتحاد الأوروبي للنقابات

هناك تبعات لبث مناخات الخوف في صفوف القضاة على وقع محنة القضاء التونسي منذ 25 جويلية 2021 (ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي 

 

إثر اعتراف إدارة دونالد ترامب بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني، تقاطعت دعوات كلّ من الهيئة الوطنية للمحامين، وجمعية القضاة التونسيين ونقابة القضاة لإعلان إضراب احتجاجي بجميع المحاكم التونسية يوم 8 ديسمبر/ كانون الثاني 2017. تقاطع لا يعكس فقط توافقًا حول مسألة مبدئية وجامعة، بقدر ما يعكس، أساسًا، قابلية تنسيق الأنشطة بين هياكل المحاماة والقضاء لضمان نجاح الشكل الاحتجاجي. فلا يمكن تحديدًا إنجاح أي إضراب بالمحاكم إلا بالتنسيق بين المحامين والقضاة باعتبارهما محرّكا جهاز العدالة. 

إنجاح أي إضراب بالمحاكم لدعم فلسطين أو أي قضية أخرى لا يمكن إلا بالتنسيق بين المحامين والقضاة تحديدًا باعتبارهما محرّكا جهاز العدالة

للأسف، يظهر هذا التنسيق غائبًا، على مستوى الهياكل، في سياق الأنشطة المتخذة رفضًا للعدوان الصهيوني على غزة إثر "طوفان الأقصى". بيد أن الأخطر هو معاينة تبعات بث مناخات الخوف في صفوف القضاة على وقع المحنة التي يعرفها القضاء منذ 25 جويلية/ يوليو 2021.

بادرت جمعية القضاة التونسيين إلى إعلان "يوم غضب عام بكافة المحاكم التونسية تعلّق فيه الجلسات وتنفّذ فيه وقفات احتجاجية بالزي القضائي" بتاريخ 20 أكتوبر/ تشرين الأول المنقضي، بما يعني عمليًا إضرابًا بالمحاكم. على أنه في اليوم الموعود، سرعان ما تمت معاينة فشل يوم الغضب في تونس العاصمة على وجه الخصوص، عبر انعقاد الأغلبية الساحقة من الجلسات بالمحاكم. 

يظهر التنسيق بين المحامين والقضاة غائبًا للأسف، على مستوى الهياكل، في سياق الأنشطة المتخذة رفضًا للعدوان الصهيوني على غزة

وفي الوقفة أمام قصر العدالة بالعاصمة، شارك عدد محدود جدًا من القضاة، جلّهم من المنتمين أصلًا للجمعية، ومما لا يزيد عددهم إجمالًا عن أصابع اليدين إلا بقليل. بل ظهر عددهم أقلّ حتى من عدد القضاة المشاركين في الوقفة الاحتجاجية بمحكمة الاستئناف بصفاقس. أسباب فشل يوم غضب جمعية القضاة لا يعكس فتورًا بين القضاة في دعم القضية الفلسطينية قطعًا، بقدر ما يعود لأسباب تتعلّق بحالة الهشاشة والانقسام في أوساط القضاة بعد وضع السلطة التنفيذية يدها على القضاء عبر إفراغ ضمانات استقلاليته.

في البداية، يبدو أن الجمعية لم تحسن التقدير بإعلانها تعليق الجلسات قبل يومين فقط من التاريخ المحدد، بما حال دون استنفاذ المجهود اللازم للتحشيد سواء في محاكم العاصمة أو المحاكم الداخلية. كما كان من الممكن السعي للتنسيق مع هياكل المحامين لإعلان مشترك ليوم الغضب بما يؤمّن شروط نجاحه، ليكون يوم غضب للعدالة بمختلف مكوّناتها.

أسباب فشل يوم غضب جمعية القضاة لا يعكس فتورًا بين القضاة في دعم القضية الفلسطينية قطعًا، بل يعود لأسباب تتعلّق بحالة الهشاشة والانقسام في أوساط القضاة بعد وضع السلطة التنفيذية يدها على القضاء في تونس

 كما يُطرح السؤال على اختيار تعليق الجلسات كشكل احتجاجي: أدى تتالي الإضرابات طيلة السنوات الماضية وبما تؤديه من حالة إرباك في المرفق القضائي وإضرار للمتقاضين والمهنيين، لانتشار القناعة بين عموم القضاة والمحامين بضرورة عقلنة الإضراب، خاصة في سياق تضامني وليس مطلبي كصورة الحال. وما يعزّز هذا التوجه هو أن هيئة المحامين في يوم الغضب الذي أعلنته بدورتها اكتفت بتكليف ممثلين عن الفروع الجهوية للحضور بدل زملائهم لتأمين الجلسات، دون تعليقها.

بيد أن سوء تقدير اختيار شكل الاحتجاج من الجمعية، لا يفسّر لوحده فشل الإضراب. أدى مناخ ترهيب القضاة بسبب القبضة السياسية وأدواتها العقابية لتراجع قياسي في انخراطهم في الأنشطة الجماعية. انتشرت حالة من الهشاشة النفسية واليأس وعدم الثقة من فاعلية الانخراط في الشأن القضائي العام خاصة بما قد يحمله من متاعب في السياق الحالي. 

تواجه جمعية القضاة، في هذا الجانب، حصارًا وهرسلة من السلطة: رئيسها محلّ تتبع جزائي وتأديبي على خلفية نشاط نقابي، ومنتمين ومقرّبين منها شملتهم نقل تعسّفية في الحركة القضائية الأخيرة. تصاعدت بالتبعية مخاوف في أوساط قضاة من أن مشاركتهم في نشاط عامّ للجمعية، وإن كان في قضية جامعة كالقضية الفلسطينية، يجعلهم محطّ أنظار وزارة العدل وأداتها التفقدية العامة بوصفهم "مناوئين".

من جهتها، اختارت الهيئة الوطنية للمحامين، تنظيم يوم غضب في المحاكم في إطار أنشطة اللجنة الوطنية لدعم المقاومة المكوّنة من منظمات وطنية في مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إضافة لهيئة المحامين مع غياب أي هيكل تمثيلي للقضاة وتحديدًا جمعية القضاء التي طالما انخرطت في الأنشطة الجماعية للمجتمع المدني بتونس.

تصاعدت مخاوف في أوساط قضاة من أن مشاركتهم في نشاط عامّ لجمعية القضاة، وإن كان في قضية جامعة كالقضية الفلسطينية، يجعلهم محطّ أنظار وزارة العدل وأداتها التفقدية العامة بوصفهم "مناوئين"

ولم يتضمن يوم الغضب تعليقًا للجلسات بل تأمينها عبر تكليف رؤساء الفروع الجهوية للتنسيق مع رؤساء المحاكم والوكلاء العامين ووكلاء الجمهورية لطلب التأخير في جميع الملفات مع تكليف محاميين اثنين أو ثلاثة لنيابة زملائهم وتقديم طلباتهم الشكلية والتقارير بالنسبة للمسائل والقضايا المتأكدة. وكان بيّنًا نجاح تنظيم يوم الغضب باعتبار أنه لم يؤد لتعليق الجلسات بل تأمينها، وهو خيار يوازن بين المصالح مقارنة بالإضراب. كما جرى تنظيمه ضمن أنشطة جبهة تقودها منظمات وطنية، وهو ما ضمن تحشيدًا واسعًا في الوقفة الاحتجاجية بقصر العدالة.

المناخات المنتشرة في العدالة على ضوء الاختلاف الجذري في التعاطي مع السلطة السياسية بين من اختار مواجهتها ومن اختار مهادنتها، هي التي أدت لانقطاع التواصل، وجعل التنسيق في الأنشطة ولو في قضية جامعة ليس ميسرًا

نقابة القضاة التونسيين، من جانبها، ظلّت صامتة ولم تبادر بإصدار موقف إسنادًا لغزة إلا بعد أسبوعين من العدوان الصهيوني. تأخر يعكس بدوره حالة الخمول اللاحقة بنشاط النقابة التي انخرطت في ركاب السلطة السياسية مبيّضة انحرافاتها ووضع يدها على القضاء. وعلى خلاف الجمعية والهيئة، لم تدعُ النقابة بالخصوص للمشاركة في أي نشاط جماعي وإن كان وقفة احتجاجية، بما يعكس خيارها في تفادي أي أنشطة جماعية وتحشيدية ولو كانت في علاقة بقضية جامعة لا تتعلق بملفات العدالة في تونس. فالنقابة جُرّت جرًا للمشاركة في إضراب القضاة في جوان/ يونيو 2022 احتجاجًا على مظلمة القضاة المعفيين، ثم انكفأت وانخرطت في التطبيع ثم المشاركة في وضع السلطة يدها على القضاء. ولم يكن موقفها من الحركة القضائية الأخيرة إلا تأكيدًا لذلك. هو تحثيث بالنهاية نحو إغلاق الفضاء العام الاحتجاجي على القضاة.

كان المؤمل هو انخراط مختلف الهياكل المهنية والتمثيلية للقضاة والمحامين في يوم غضب مشترك في المحاكم التونسية باعتبار أن وحدة القضية تفترض وحدة النشاط الاحتجاجي على النحو المسجّل سابقًا. لكن من البيّن أن المناخات المنتشرة في العدالة على ضوء الاختلاف الجذري في التعاطي مع السلطة السياسية بين من اختار مواجهتها دفاعًا عن استقلالية القضاء ومن اختار مهادنتها طمعًا في مكسب أو خشية من عقوبة، هي المناخات السائدة التي أدت لانقطاع في التواصل. بما يجعل من التنسيق في الأنشطة ولو في قضية جامعة ليس ميسرًا. إنّ عدوان السلطة السياسية على القضاء في تونس حمل آثارًا ثقيلة، مازالت ستبيّن الأيام تبعاتها.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"