01-يونيو-2020

الأم هي ملاك جاء لجعل الأرض مكانًا يستحق الحياة (صورة تقريبية/ getty)

مقال رأي

 

هي تلك المرأة التي لا تشبه أحدًا في تفاصيلها.. هي التي تصل الليل بالنهار كي تسهر على راحتنا وتوفر لنا كل ظروف الراحة والسعادة والدفء الذي لم تجدها دائمًا في طفولتها.. هي المرأة التي لم تطلب مني يومًا شيئًا مقابل تضحياتها سوى النجاح والتميّز.

هي المرأة لم تتقن اللغة الفرنسية إلا أنها كانت تحرص على تدريسي هذه اللغة بنفسها، هي المرأة التي لم تفقد يومًا ضحكاتها رغم كل الظروف القاسية التي مرّت عليها، إلا أنها لم تسمح لها يومًا بالنيل من قوتها وعزيمتها، فكانت دائمًا تنتصر وتقف مبتسمة في وجهها، كأنها تقول للعالم "أهذا كل ما لديك؟".

هي المرأة التي مازالت تضعني في حضنها وتجلسني على ركبتيها وأنا أتجاوز الثلاثين من العمر

اقرأ/ي أيضًا: لا للوصاية على الإذاعة الثقافية

هي أمي.. تلك التي اكتسبت منها القوة من حيث لا أدري.. كنت دائمًا، في طفولتي، أنظر إليها كآلهة خارقة لا تهاب شيئًا ولا يمكن لأي صعاب مهما بلغت شدتها أن تقف في طريقها، كنت أتمنى أن أكتسب جزءًا ولو بسيطًا من قوتها.

هي المرأة التي آثرت تحمل آلامها بنفسها ولم تفصح لنا يومًا عن ما يزعجها أو ما يقض مضجعها، ولم تسمح لنا إلا برؤيتها كامرأة قوية صلبة تقف شامخة، وهي، في مفارقة عجيبة، القادرة على العفو والصفح عن الجميع مهما كان نوع الأذية الذي تعرّضت له، فلم تحمل في قلبها يومًا بغضًا أو كرهًا لأحد، وكأنها بذلك تعالت عن الأفعال الإنسانية لترتقي إلى درجة ملائكية من التسامح والطيبة التي اعتبرتها في أحيان كثيرة في غير محلّها، بل أنها أثارت غضبي أحيانًا أخرى لأني شعرت أنها قدرتها على الغفران نوع من الضعف، وربما لم أكن أدرك حينها أن مواقفها تلك، هي القوة بعينها.

هي المرأة التي مازالت تضعني في حضنها وتجلسني على ركبتيها وأنا أتجاوز الثلاثين من العمر، كأني مازلت طفلتها المدللة التي لم تكبر يومًا والتي ما تزال تركض إليها كلّما شعرت بالتعب والاختناق. هي التي تتركني لأنام ثم تأتي لتحضنني وتنام إلى جانبي عندما تشعر بحزني، لأستيقظ صباحًا على وجهها الضحوك المبتسم.

هي التي أبعدتني رغم الظروف التي أبعدتني عنها والمسافات التي تحول بيننا، تتّصل بي كلّما شعرت في داخلها أنني أمر بوقت عصيب، وتدرك من صوتي، رغم محاولاتي الجاهدة لإظهار القوة، أن خطبًا ما يحلّ بي. هي التي كلّما شعرت بالضعف بحثت في ذاكرتي عن صلابتها التي طالما تمنيتها لنفسي، لأجدني أحمل الهاتف مسرعة بحثًا عن صوت مطمئن.

لم تحاول أمي يومًا منعي من فرض أحلامها وطموحاتها علي

اقرأ/ي أيضًا: في انتظار "سرحان"

هي المرأة نفسها التي في مرحلة من مراحل مراهقتي المتهورة، تمنيت أن لا أكبر وأصبح مثلها، لأجد نفسي المبعثرة اليوم، أشبهها إلى درجة أشعر فيها بالفخر حين يقول لي أحدهم "كم تشبهين والدتك".. أحب هذه العبارة كثيرًا، فأمي كانت ولا تزال قدوتي ومثلي الأعلى، وهي الصخرة التي أتكئ عليها والوطن الذي أرتمي في أحضانه دائمًا مهما ابتعدت.

لم تحاول أمي يومًا منعي من فرض أحلامها وطموحاتها علي، ومنحتني، منذ نعومة أظافري حرية مطلقة، فلم تكن تمنعني من الخروج مع الأصدقاء والسهر، وفي المقابل، لم تطلب شيئًا سوى الصدق وعدم الكذب. تجاوزت علاقتنا علاقة أم بابنتها، فكنا وما نزال صديقتين، رفيقتين، أخبرها كل التفاصيل التي تريد عن حياتي دون خوف أو خشية من ردة فعلها. وهي التي ساندت خياري في التوجيه الجامعي دون قيد أو شرط، ووقفت معي في وجه بعض من رفضوا توجهي من العائلة الموسعة.

ولا زلت إلى اليوم أذكر كلماتها لي "ما دمت مقتنعة بما اخترته فافعلي ذلك ولا تسمحي لأي أحد أن يوقفك.. يمكنهم الحديث كما يشاؤون ولكن في النهاية افعلي ما تريدين".

هي من علّمني تحمل مسؤولية أفعالي منذ الصغر، ومن جعلني أعتمد على نفسي كليًا دون حاجة إلى أحد، هي من لقنني معاني الصدق والوفاء والإخلاص والمحبة النقية الصافية، التي تُمنح للغير دون قيد أو شرط، وهي من يبقي إيماني بالإنسانية والإنسان حيًا.

يقولون إن الجنة تحت أقدام الأمهات.. ولكني أعتبر أن الجنة هي الأمهات.. لا أحد سيحبك مثل أمك، ولن تجد حضنًا دافئًا مثل حضنها مهما فعلت وأينما حللت. الأم هي المعنى الحقيقي للحب والمحبة، هي ملاك جاء ليجعل من هذه الأرض مكانًا يستحق الحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل أتاك حديث البكتيريا السياسية في تونس؟

واجب اليقظة لحماية الديمقراطية التونسية