14-يناير-2019

اضطراب الشخصية المثالية لدى الأم يؤدي لإرهاق الطفل واهتزاز الثقة بنفسه (Getty)

 

"أيّها الكمال ما أدناك وما أقصاك، وما أمرّك وأحلاك! أيّها الكمال لا تحصِ عليّ عثراتي، أيّها الكمال ليكن شوقي إليك شفيعا بي لديك"، هكذا قال ناسك الشخروب ميخائيل نعيمة مخاطبًا الكمال فيه. ومن منّا لا يطمح للكمال؟ ومن منّا لا يحاسب نفسه صباحًا مساءً لأنه لم يبلغ من المثاليّة شيئًا.


"المثاليون" هم أشخاص يعانون بصمت وذنبهم الوحيد سعيهم الدائم نحو الكمال. لطالما كانت أم هادي، 35 سنة، من المثاليين تشعر بالقلق الدائم حيال القيام بالأمور بشكل صحيح. وهذا الاهتمام بالتفاصيل جعل من المسألة هاجسًا لها، فأبسط المهام تستغرق فيها الكثير من الوقت لأنها لا تتسامح مع ارتكاب الأخطاء. هذا المزاج كان له تداعيات على حياتها المهنية وحياتها الزوجية وحتى على ابنها هادي ذو السبع سنوات. 

الشخصية المثالية المرضية هي شخصية تطمح للمثالية لكنها مهوسة ببلوغ النتائج وتقييماتها النقديّة مبالغ فيها وتحس بمركّب نقص كبير

لكن للقارئ أن يتساءل: "لكننا جميعًا نطمح للمثاليّة ونعتبر أنفسنا غالبًا مقصّرين تجاه أزواجنا أو أبنائنا، فكيف للمثاليّة أن تكون عائقًا في العمليّة التربوية؟"، تساؤل يجعلنا نغوص في عالم "الشخصيّة المثاليّة".

هناك ما يسمى في الطب النفسي باضطراب الشخصية المثالية، وهذا ما يوضحه الأخصائي في علم نفس النمو والتربية مروان النويري لـ"الترا تونس" مشيرًا أن البحث في علم الشخصيّات بدأ منذ منتصف القرن الماضي وأن سمات الشخصيات تتحدّد من خلال سلوكيات البشر.

وعن المثاليّة، يقول محدثنا:" يريد أصحاب هذه الشخصيّات بلوغ الكمال وذلك من خلال وضع معايير عالية للأداء والانتاجيّة كما يحددون سقفًا عاليًا من النتائج ويلزمون أنفسهم بطريقة متواصلة لبلوغ الأهداف ودائما ما يكون مبتغى توقعاتهم عاليًا".

اقرأ/ي أيضًا: من الكابتن ماجد إلى "الأيباد": كيف أصبح الطفل وحيدًا؟

وقد كثر الجدل حول هذا النمط من الشخصيات ووقع تقسيمها الى شخصيّة عاديّة وأخرى مرضيّة أو إلى شخصيّة متكيّفة وغير متكيّفة.

وعن الشخصية العاديّة، يبيّن محدثنا أن رغبتها نحو الكمال تفرض عليها أن تصل لمبتغاها بطريقة متوازنة ومتكيّفة مع واقعها وتشعر براحة نفسيّة عند بلوغها وتحقيقها ما سطّرته من خطط وأهداف.

أما الشخصية المرضيّة فلها مشكلة مع الذات وهي مهوسة ببلوغ النتائج، وتقييماتها النقديّة مبالغ فيها وتحس بمركّب نقص كبير وغالبًا ما تجلد ذاتها ولا ترضى عن نفسها مهما حققت من إنجازات.

وحسب الاخصائي النفسي، فهذا النوع من الشخصيات يخاف من تقييمات الغير لهم، ولهم دافع مستمر لسد النقص الذي يحسّون به بطرق تكون أحيانا تعجيزيّة، ومن هنا يصبح سقف مطالبها عاليًا جدًا لا يتماشى مع القدرات أو الواقع. كما تكون هذه شخصيّة غير متكيّفة مع محيطها لذلك تجد صعوبات كثيرة في علاقاتها الاجتماعيّة أو في حياتها الأسريّة، وقد تصل بهذه الحالة إلى مشاكل نفسيّة معقّدة منها التوتّر الدائم والاكتئاب.

مروان النويري (إخصائي نفسي): الشخصية المثالية المضطربة غير متكيّفة مع محيطها لذلك تجد صعوبات في علاقاتها الاجتماعيّة أو الأسريّة

وهذه الحالة تلاصق أمّ هادي تقريبًا على امتداد يومها ممّا كان له تأثير سلبي على هادي الذي يتشنّج بدوره عندما لا ينجح في شيء ما في المرة الأولى. وتشرح لنا والدته أنه يتم تثبيطه بسهولة ويقول أحيانًا عديدة إنه "ليس جيدًا". وحتى في آخر مصافحة لها مع معلّمته، قالت إنه يفتقر إلى الثقة بالنفس.

أدركت أم هادي أنها لم تعد مسألة بسيطة في عمل الأشياء، بل هي مثاليتها الزائدة وارتفاع سقف تطلّعاتها تجاه ابنها مما أثّر على توازنه النفسي وأدائه الدراسي.

وبهذا الخصوص، تحدّثنا إلى الاخصّائي النفسي كريم اليعقوبي الذّي أفاد "الترا تونس" أن الثقافة الوالدية من المفاهيم المتداخلة والمترابطة التي يصعب عزلها عن النسق النظري، قائلًا: "إن الوالدية المثالية تعتبر تتويج لنسق علائقي تشكل وتبلور من خلال مجموعة من التفاعلات العاطفية التي شكلت منظومة قيمية وسلوكات يمكن حصرها في مجموعة من التوجهات والمواقف".

وأضاف اليعقوبي أن تحليل الوالدية المثالية من منظور نفسي يستدعي فهمًا للرابط الأساسي الذي يجمعنا بالعالم وهي العلاقة أو الرابط بين الأم والطفل. ويقول إن الأب يدخل متأخرًا بعض الشيء في المنظومة التفاعلية للطفل ليصبح النسق العلائقي مرتبط بثلاثي أساسي يؤثر جليًا في بناء الشخصية، لذلك سيقع الاقتصار، في عرضه لنا، على المثالية لدى الأم لأنها الأكثر تأثير على بناء الشخصية من خلال "الرابط الخاص" (le lien spécifique) وطبيعة العلاقة مع بقية أفراد العائلة، وفق قوله.

لا توجد أم مثاليّة

"لا توجد أم مثالية بل أم تتجه نحو المثالية أو ترغب في الوصول إلى حالة من المثالية" هذا ما أكّده الاخصّائي النفسي وقال إنه بالرغم من محاولاتها الجادة سوف لن تقدر على الوصول لتحقيق أهدافها كما ترغب في ذلك وسوف تشعر دومًا بالإحباط والفشل.

فالأم المثالية تريد أن تشكل العالم من حولها من خلال رؤيتها الخاصة وتضع معايير في أغلبها تتجاوز المستوى المطلوب من أبنائها، كما تغيب عنها القدرة على تمثّل حاجيات الآخر، وبالتالي القدرة على النظر من زاوية مختلفة عن زاويتها. وهذا لا يعني أنها أم لا تبالي أو لا تحب أبناءها لكن كل سلوكياتها متأتية من رغبة جامحة في تقديم خدمات ذات جودة عالية وتوفير أكثر ما يمكن من الظروف الملائمة للوصول إلى الأهداف المرجوة.

الأم المصابة باضطراب الشخصية المثالية ترهق ابنها من كثرة الحرص على بلوغ الأهداف المرسومة من جانبها (Getty)

وما يرهق الأبناء في علاقتهم بالأم المثالية هو كثرة الإلحاح والحرص على بلوغ الأهداف المرسومة من جانبها إلى أن يفقد الطفل الرغبة في الإقناع أو التواصل التفاعلي فيصبح متقبلًا بدرجة أولى، وكائنًا غير قادر على التفكير وعلى أخذ القرار السليم وبالتالي اهتزاز الثقة بالنفس، هذا ما يمنعه من خوض تجارب من شأنها أن تثري معارفه لتجعله أكثر فاعلية في محيطه ويتمتع بالشعور بالاستقلالية.

وما يزيد الطين بلة، حسب الأستاذ كريم اليعقوبي في حديثه لـ"الترا تونس"، هو تجاوب الطفل مع طموحات الأم والامتثال لأوامرها فيتلقى وابلًا من التقييمات الايجابية والتعابير العاطفية الإيجابية التي تجعله يشعر بالارتياح وقتيًا لأن المطلوب منه يتجاوز قدراته وطموحاته، وفي الآن نفسه يصبح غير قادر على التراجع إلى الوراء فيصبح الخطأ من جانب الطفل بمثابة الحرمان العاطفي. وستمرّ الأم بدورها إلى المرحلة الموالية في إطار استراتيجيات استباقية لضمان استمرارية النتائج.

أنا غير قادر، أنا فاشل، أنا لا أستطيع!

يشرح الاخصائي النفسي كريم اليعقوبي أيضًا أنّه تطور الوضعية التفاعلية، التي تتسم بالقلق والتوتر الدائم، قد تنجّر عنها عوارض نفسية وجسدية ثم سلوكية تنبئ بخطورة الوضع منها الاضطرابات السلوكية لدى الأطفال واضطرابات الأكل والنوم وصعوبات التواصل خارج إطار الأهداف المرسومة، مع أوجاع على مستوى الرأس أو البطن، وتقيء، وتعرق، وإسهال وأيضًا ارتفاع لضغط الدم مستمر خاصة قبل إنجاز المطلوب.

كريم اليعقوبي (إخصائي نفسي): الأطفال الذين يعانون من محيط مثالي تغيب عندهم في أغلب الأحيان الدافعية لأنه مكلف على المستوى النفسي فيشعرون بالإحباط 

يقول الاخصائي النفسي: "نجد الطفل في حالة تأهب قصوى أمام الصعوبات مما ينجر عنه ضغط نفسي عالي وخوف دام من الفشل مما يرهقه ويجعله يوجه كل طاقاته في معالجة الحالة النفسية وليس لإنجاز المطلوب فتكون النتيجة عادة الفشل. أمًا على المستوى الذهني تسيطر على الطفل أو الطفلة أفكار تؤدي بهم عادة إلى الفشل غير المفهوم بالرغم من العمل الجاد والتمتع بقدرات ذهنية متميزة مثل "أنا غير قادر على فعل كذا" و"أنا سأفشل" و"أنا نسيت كل شيء" كنوع من الهروب إلى الأمام من الخطر الداهم. وعند الفشل، سنجد الطفل يردد عادة عبارات من نوع "أنا فاشل، أنا بهيم..." فتصبح قيمته مرتبطة بالنجاحات في الدراسة أو الرياضة أو الموسيقى... وليست له أي تمثلات خاصة به وثابتة".

ويواصل محدثنا قائلًا: "ثم في مرحلة ثانية تتحول الإشكاليات لتمس من جوهر الموضوع فتتدنى النتائج المدرسية وتعم الفوضى سلوك الطفل وتتعمق أزمة الأم إلى أن تفقد كل ثوابتها النفسية بدرجة أولى ثم  تفقد القدرة على التحكم في محيطها مما يؤدي في بعض الأحيان إلى الانهيار".

محيط عائلي "مثالي" يساوي طفل عاجز

يؤدي المحيط العائلي "المثالي" في أغلب الوضعيات، إلى إعادة التجربة مع الآخرين ويصبح الطفل أو الطفلة هو الكهل الذي يعيد إنتاج نمط حياة مثالية مرهقة، كما تؤدي إلى اهتزاز الثقة بالنفس للطفل وتغييب القدرة على اتخاذ القرار السليم والقدرة على الاستقلالية ناتج عن شعور مستمر بالدونية والعجز، هكذا يؤكد محدثنا الإخصائي النفسي كريم اليعقوبي.

ويضيف أن الأطفال الذين يعانون من محيط مثالي تغيب عندهم في أغلب الأحيان الدافعية لأنه مكلف على المستوى النفسي فيشعرون بالإحباط وتثبط عزائمهم بسهولة مع أول مواجهة، وهو ما قد يؤدي إلى شعور بعدم الرضا والاكتئاب والانعزال في بعض الأحيان.

اقرأ/ي أيضًا: حينما ننتصر إرادة التحدي.. قصة شاب يعاني "الديسلكسيا" يجتاز الباكالوريا بنجاح

حبّ لا مشروط هذا ما يحتاجه ابنك

لمعالجة وضعيات القلق والانهيار بالعائلات المثالية، يوضّح لنا كريم اليعقوبي أنه لا يكفي أن تقول للطفل "لا أبالي بالنتائج أو لا ترهق نفسك أو تخلص من الضغط وافعل كذا" لأنّ الطفل سيقول موافق لكن سيبقى بمكانه لا يتحرك.

ويؤكد أن المطلوب هو تشخيص دقيق للوضعية العائلية ابتداءً من فهم الوضعية، وتفسير العوارض وطرق تشكلها ثم وضع استراتيجة علاجية واقعية قادرة على تحسين النسق التفاعلي لكل الأطراف.

واقترح اليعقوبي على الأولياء بأن يطوّروا قدراتهم على الإصغاء لأبنائهم دون مقاطعتهم ودون تقييمات من شأنها أن تحيل بالمعني للوالدية المثالية في شكل أحكام مسبقة أو نصائح سمعها الطفل لآلاف المرات.

كريم اليعقوبي (إخصائي نفسي):  الأبحاث العلمية أثبتت أن النجاح على المستوى المهني مرتبط بدرجة أولى بالذكاء العاطفي وليس بالذكاء الذهني

يقول محدثنا في هذا الجانب: "يجب أن نحاول أن نضع أنفسنا مكان الطفل عندما نطلب منه القيام بأشياء معينة هل هو قادر على ذلك؟ هل هو محتاج لذلك؟ هل تمثل الأنشطة موضوع رغبته؟ يجب تشجيع الأطفال على الأخذ بزمام الأمور وتحمل مسؤولية خياراتهم".

ويؤكد أيضًا على أهمية عدم إعطاء أهمية قصوى للنتائج مع التمييز بين التعلم وتطوير المهارات من جهة والمعارف والنتائج المدرسية من جهة أخرى وذلك بتحويل العمل إلى متعة ورغبة في التطور وليس ما يرغب فيه الأخر.

ويقول الإخصائي النفسي لـ"الترا تونس" في هذا الإطار: "ما نستحقه فعلًا لتطوير شخصيتنا هي القدرة على عيش تجارب تمكننا من بناء معارف تجعلنا منسجمين على المستويين العاطفي والمعرفي علمًا وأن الأبحاث العلمية أثبتت أن النجاح على المستوى المهني مرتبط بدرجة أولى بالذكاء العاطفي وليس بالذكاء الذهني. ما يحتاجه الطفل حقيقة أم قادرة أن يعيش معها مشاعر الحب غير المشروط تهتم لأزماته ولرغباته حتى ولو لم يقع الاستجابة إليها". 

بالمحصّلة، إذا ما تأزمت الوضعية العائلية يحبذ في مثل هاته الوضعيات استشارة مختصين من مجالات علم النفس.

"لسنا كاملين ولم نخلق للبحث عن الكمال، خلقنا بشرًا نخطئ ونصيب ونجرّب ونتعلم" قالها لشكسبير، وهكذا يجب التوجه للأولياء الذي أعياهم حرصهم وأثقلتهم مثاليّتهم حتى جعلوا من أبنائهم كهولًا داخل أجساد أطفال، أولياء يُقال لهم: "رفقا بهم ورفقا بكم".

 

اقرأ/ي أيضًا:

حراس المدارس.. أمناء على التلاميذ أم مغتصبون؟!

بحثًا عن لعب لابنه: تونسي يخترع ألعابًا تساعد أطفال التوحد