26-أكتوبر-2019

يعيش النادي الإفريقي منذ فترة على وقع أزمة مالية خانقة (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

لست من المتابعين الأوفياء لكرة القدم، لكنني في المقابل كنت من المولعين بالحكايا الجانبية لهذا العرض الخرافي العالمي، رحلة الساحر مارادونا من الأرجنتين إلى قمة المجد وعلاقاته مع قوى التحرر في العالم، وسر تسديدة زيدان  ضد بايرن ليفركوزن ولماذا تتميز تصويبات اللاعب دافيد بيكهام بالدقة الكبيرة دون غيرها، وقصص أخرى عالمية.

اقرأ/ي أيضًا: حصائر السمار في نابل.. حرفة تواجه الاندثار رغم رواج المنتوج

أما في تونس فإن سؤالًا واحدًا يتعلق بالنادي الإفريقي كان يفرض نفسه، لماذا في كل مرة ورغم النتائج الهزيلة التي يحققها الفريق تجد المدرجات تعج بالجماهير؟ كان هذا السؤال جوهر الخلاف بيني وبين صديق لي يدعى شريف من عشاق النادي. كنت دائمًا أدافع عن فكرة أنه على جماهير النادي أن تعاقب لاعبيه من خلال مقاطعة مبارياته، على الأقل كنوع من التحذير لللاعبين حتى يحسنوا من مستواهم. وكان شريف دائمًا يردّ بالقول إن "جماهير النادي الإفريقي من فرط حبها للفريق لا تستطيع القيام بهذه الخطوة، هناك أشخاص لم يفوتوا مباراة واحدة للإفريقي منذ سنوات".

يعيش النادي الإفريقي منذ فترة على وقع أزمة مالية خانقة بدأت تشتد منذ أشهر. يقول البعض إن حجم الديون المتخدة بذمة النادي تقارب 19 مليون دينار

يعيش النادي منذ فترة على وقع أزمة مالية خانقة بدأت تشتد منذ أشهر. يقول البعض إن حجم الديون المتخدة بذمة النادي تقارب 19 مليون دينار مرفقة بآجال محددة للدفع. وفي حال تجاوز إدارة النادي لهذه الآجال ستتم معاقبته. وفي هذا الإطار، بدأت دعوات خافتة من بعض محبي النادي إلى المساهمة في خلاص ديون الفريق. بدأت هذه  الدعوات تأخذ صدى في مواقع التواصل الاجتماعي  فتأسست صفحات تدعو جماهير النادي الافريقي إلى المساعدة من أجل خلاص ديون النادي.

لم تكن الجماهير تحتاج إلى من يقنعها ولكن انعدام الثقة بينها وبين الإدارة الحالية كان يلجم هذا الاستعداد. لتجاوز الإشكال، تم تأسيس حساب بنكي في أحد البنوك العمومية لتلقي المساعدات بإشراف الجامعة حسب أحد رؤساء خلايا المساعدات.

يقول جهاد بالشيخ أحد أحباء النادي لـ"ألترا تونس" إن القصة بدأت باتفاقية بين الجامعة والنادي لفتح حساب جار في البنك الفلاحي تحت إشراف الجامعة تجنبًا لأي خوف جماهيري، مضيفًا "في البداية كانت المساعدات حكرًا على رجال الأعمال المساندين للنادي ثم تحولت لعموم الجماهير".

عبد السلام المازني (أحد كبار أحباء النادي الإفريقي) لـ"ألترا تونس": لا يمكنك أن تترك والدتك مريضة دون مساعدة، النادي الإفريقي بمثابة الأم

قصص كثيرة تحدثت عنها جماهير النادي الإفريقي حول تضحيات الأحباء من أجل فريقهم، فهناك من قدم راتبه الشهري للنادي وآخر ضرير تحمل معاناة التنقل من أجل تقديم مبلغ مالي، رجال ونساء، لاعبون قدامى، إضافة إلى الأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم العشر سنوات، قدموا مبالغ مالية وإن كانت صغيرة إلا أنها تعتبر ثروة في قلوب هؤلاء الأطفال.

اقرأ/ي أيضًا: "رجال الكبّار" في تونس.. رحلة الآلام لقطف ثمار النبتة الجبلية

لإنجاز هذا المقال، تنقل "ألترا تونس" إلى إحدى المقاهي المملوكة لأحد اللاعبين القدامى للنادي الإفريقي، وجدنا المقهى يعج بالأحباء، قدموا من أماكن مختلفة للنقاش والتنسيق والتخطيط من أجل جمع أكبر عدد ممكن من الأموال ولتحفيز الأحباء على المساعدة.

عبد السلام المازني، أحد كبار الأحباء الذين التقيناهم في المقهى، يقول إنهم بصدد جمع التمويلات من أجل الاحتفال بالذكرى 99 لتأسيس النادي، مضيفًا "لا يمكنك أن تترك والدتك مريضة دون مساعدة، النادي الإفريقي بمثابة الأم، جماهير الإفريقي قررت المساعدة لأن الحساب البنكي في أياد أمينة".

يقول محمد الأزعر، رئيس خلية بالنادي الإفريقي، في تصريح لـ"ألترا تونس"، إن ما رآه من تضامن من جماهير النادي الإفريقي تجاه فريقهم يستحق أن يوثق، مبينًا أن "هناك من باع هاتفه، هناك من اقتطع من ثمن الدواء، شاب فلسطيني الجنسية ساهم، أمنيون ساهموا، أحباء أندية أخرى ساهموا وعدد كبير من القصص الأخرى المؤثرة".

تمكنت جماهير النادي الإفريقي من جمع قرابة 1,6 مليون دينار في فترة لم تتجاوز 7 أيام. مبلغ ضخم اختلفت معه مصادر المساعدات من شباب وشيوخ ونساء ومواطنين تونسيين بالخارج وأطفال ولاعبين قدامى ورجال أعمال وشخصيات معروفة.

ما يحصل اليوم وتابعته جعلني أفكر جديًا في المعنى الفلسفي لكل هذا الحب الذي يسكن أعماق جماهير الإفريقي لناديهم، هل يستطيع الحب أن يحرك كل هذه الجماهير ويجعلها في لحظة ما تتخلى عن أبسط رفاهيتها من أجل إنقاذ ناديها من مشكلة مالية، ألم يعلمونا أن الرياضة وكرة القدم هي فقط للترفيه لكن يبدو أن لها معنًا آخر في الحديقة أ.

ما تفعله جماهير الإفريقي يلخص في جانب من جوانبه عمق الشخصية الاجتماعية للتونسي واستعداداه للتكاتف والتضامن من أجل ما يؤمن به

ماهر الغربي، أحد الفاعلين في حملة المساعدات، لم يستغرب هذه الهبة التي يقوم بها جماهير الإفريقي بل إنه انتظر جمع مبلغ أكبر. ويقول الغربي في تصريح لـ"ألترا تونس"، إن "الشيء الوحيد الذي شجع الجماهير ودفعها للمساعدة هو الشعور بالثقة من خلال الحساب الذي تم فتحه وأيضًا تاريخ النادي الذي يمتد على مائة سنة، كنت أنتظر رقمًا أكبر بالنظر إلى عدد جماهير الإفريقي التي تكون حاضرة في المباريات وبالنظر إلى جماهير الإفريقي في الجهات، الحملة لاتزال متواصلة وسنخرج الإفريقي من هذه المعضلة".

تواصل جماهير النادي الإفريقي حملتها للأسبوع الثاني على التوالي، يدفعها إلى ذلك حب وجنون وشغف بناديهم وتأكيدًا لما قيل في إحدى الأغنيات "عادي نتوفى معاك نطيح في الهول" وتعني "أمر عادي أن أموت من أجلك أو يصيبني الجنون"، وتواصل أيضًا إعطاء الدروس في الحب الممزوج بالثقة.

في المقابل، يمكن القول إن ما تفعله جماهير الإفريقي يلخص في جانب من جوانبه عمق الشخصية الاجتماعية للتونسي واستعداداه للتكاتف والتضامن من أجل ما يؤمن به. يمكن للدولة التونسية أن تتواضع وتستخلص الدرس من خلال هذه الهبة، وهي أن المواطن التونسي يحتاج إلى عنصرين رئسيين للدخول في معركة إنقاذ تونس من الديون، أولًا الانتماء، وهو شعور المواطن التونسي في أي نقطة من التراب التونسي بانتمائه إلى هذا الوطن، كما يشعر  جماهير الإفريقي بانتمائهم إلى ناديهم، وثانيًا الثقة وهي التي لا تزال غائبة منذ أكثر من ستين سنة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خالد بن جبارة.. صانع صناديق يستنطق المسامير والخشب

الاستغوار: رياضة ترفيهية أم رحلة استكشافيّة داخل الكهوف؟