مقال رأي
تواترت خلال الأيام الماضية عمليات إيقاف عدد من الشخصيات البارزة في المشهد التونسي فيما عُرف إعلاميًا بقضية "التآمر على أمن الدولة". وفي حين يؤكد محامو المتهمين براءة موكّليهم وخلوّ الملف من أي مستندات قانونية يقع بموجبها تبرير عملية الإيقاف، تستمر النيابة العمومية في سبات من الصمت غير المعهود.
الغريب فيما طوّق الإيقافات الأخيرة هو أن حيثياتها نُشرت على منصات التواصل قبل تنفيذها، كما أن بطاقات الإيداع خرجت للفضاء العام قبل أن يستكمل قضاة التحقيق الاستنطاق، وهو ما يثير التساؤل عن كيفية علم "المدونين" بمثل هذه التفاصيل
الغريب في هذه القضية أن الإيقافات كانت قد نُشرت على منصات التواصل الاجتماعي قبل تنفيذها بساعات. كما أن بطاقات إيداعها خرجت للفضاء العام قبل أن يستكمل قضاة التحقيق عملية الاستنطاق، وهو ما يثير التساؤل عن كيفية علم "المدونين" بتفاصيل الإيقاف والإيداع قبل محامي الموقوفين.
إن المنطق يفرض علينا في هذه الحالة احتمالين أحدهما أن يكون لهؤلاء المدونين "قدرة تنجيم" لا تخطئ، والثاني هو أن قرارات الإيقاف والإيداع جاءت بناء على خلفيات سياسية واتخذتها دوائر الحكم مسبقًا وغلفتها بقرار ممهور بتوقيع القضاة لإضفاء صبغة قانونية. أما عن الاحتمال الأول فهو مستحيل لنهاية زمن المعجزات، وهو ما يجعل الاحتمال الثاني أقرب للعقل.
ولم يتوقف دور هؤلاء المدونين الداعمين لمسار الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ الـ25 من جويلية/يوليو 2021، عند نشر تفاصيل "القرارات السياسية" بل تجاوزه إلى عملية تحشيد وتحويل وجهة الرأي العام نحو هذه القضية ونشر معلومات تمس عواطف التونسيين وتغيّب عقولهم. فقد نشرت إحدى المدونات المعروفة بقربها من النظام معلومات تؤكد من خلالها أن عمليات الإيقاف تمت بناء على وجود مخطط مكتوب للرفع في الأسعار، غير أن هذه المدونة تناست أن أحد أهم أسباب الترفيع في الأسعار سياسة حكومية ناتجة عن قرار رفع الدعم وتوجيهه.
لم يتوقف دور عدد من المدونين الداعمين لمسار الرئيس عند نشر تفاصيل "القرارات السياسية" بل تجاوزه إلى عملية تحشيد وتحويل وجهة الرأي العام ونشر معلومات تمس عواطف التونسيين مثل ربط الإيقافات بوجود مخطط للرفع في الأسعار
ومع بسيكولجيا التونسيّ في المجال السياسي التي تقوم على الاندفاع العاطفي وتصديق الأحاديث المستفزة للعواطف، تمكنت هذه المدونة من توطين هذه الرواية في المخيلة الشعبية وهو ما قد يجعل الجهاز القضائي يعمل تحت ضغط رهيب من الوسط الشعبي الذي اتخذ حكمًا بإعدام هؤلاء المتهمين وسجنهم مدى الحياة ولن يرضى عن دون ذلك. الأمر الذي ربما سيسهل على دائرة الحكم طمس أي آثار للطابع الحقوقي والسياسي للقضية.
ما يمكن ملاحظته أيضًا من خلال سيل الصفحات الداعمة للمسار حملات التشفي التي نزعت للأسف الطابع الإنساني للمواطن وحولته إلى آلة تشتغل بالدم. كذلك الدعوات المتتالية التي يصدرها بعض المدونين للانتقام المباشر من معارضي الرئيس عبر نشر عنوانهم للعموم وتحويلهم إلى أهداف مستباحة باسم المشروعية والوطن والذود عن حرمة الوطن أمام من يصفونهم بـ"الخونة وعملاء السفارات الأجنبية".
من الملاحظ أن هناك دعوات يصدرها بعض المدونين للانتقام المباشر من معارضي الرئيس عبر نشر عنوانهم للعموم وتحويلهم إلى أهداف مستباحة باسم المشروعية والذود عن حرمة الوطن أمام "الخونة والعملاء"
هذا الخطاب المتعفن برائحة الكراهية والدعوة للتقاتل لن تكون له سوى نتيجة واحدة على المجتمع التونسي وهي الاحتراب المتواصل الذي يمكن أن يدخل البلاد في دوامة عنف دموية ستأتي على الأخضر واليابس.
والواضح من خلال إصرار هؤلاء المدونين على هذا الخطاب أن الكراهية هي خيار من خيارات الحكم بمنطق "فرّق تسدّ". ومع تغاضي أجهزة الدولة عن هذه الجرائم التي لا تختلف كثيرًا عن قضية أمن الدولة، أصبحت الدولة جزءًا من الصراع ومتحمسة له بعد أن كانت أداة تحكيمية قادرة على استيعاب الاختلاف.
خلاصة الحديث أن الأحكام ضد المعارضين الموقوفين قد صدرت مسبقًا، لكنها هذه المرة لم تخرج من أروقة المحاكم المخولة للنظر في القضية وفق الفصول القانونية المضبوطة، بل خرجت من الفضاء العام الذي تحول إلى جهاز قضائي عشوائي والذي يصدر أحكامًا متقلبة ومزاجية.
الأحكام ضد المعارضين الموقوفين قد صدرت مسبقًا، لكنها هذه المرة لم تخرج من أروقة المحاكم المخولة للنظر في القضية وفق الفصول القانونية المضبوطة بل خرجت من الفضاء العام الذي تحول إلى جهاز قضائي عشوائي
وسيبقى القاضي الذي سينظر في الملف تحت التهديد الدائم، فأي حكم سيصدر بمخالفة الحكم الشعبي السابق وتبرئة المتهمين سيجعله عرضة لأن يتحول إلى "شريك لهم" كما صرح بذلك الرئيس التونسي قيس سعيّد في أحد خطاباته.
إن الملف التونسي الذي كان ملفًا اقتصاديًا اجتماعيًا لحظة الـ25 من جويلية/يوليو 2021 تحول منذ 22 سبتمبر/أيلول من العام ذاته، تاريخ إصدار الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 الذي تحوّز بموجبه على كل السلطات بالبلاد، إلى ملف سياسي. وهاهو اليوم يتحول إلى ملف حقوقي تتوالى فيه البيانات من المنظمات الدولية والحكومات الغربية تنديدًا بممارسات خالها الجميع انقضت مع عهد قد ولّى بلا رجعة.. لكن يبدو أن الباب ظلّ مواربًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"