مقال رأي
يبدو السؤال غير مكتمل لعدم إتمام الرابطة السببية بين الوجوب والغاية، فهل التوحيد هو شرط ضرورة مثلًا لمواجهة سلطة الشعبوية والتأسيس لحكم الفرد الواحد؟ والضمنية، في هذا الجانب، أن معارضة غير موحّدة غير قادرة على المواجهة وفرض تغيير موازين القوى. تصاعد الحديث عن توحيد المعارضة في تونس بتصاعد نسق الأزمة السياسية، التي بقدر ما كشفت هشاشة أداء السلطة، بيّنت أيضًا تشتّت المعارضة.
تصاعد الحديث عن توحيد المعارضة في تونس وذلك بتصاعد نسق الأزمة السياسية، التي بقدر ما كشفت هشاشة أداء السلطة، بيّنت أيضًا تشتّت المعارضة
إلقاء نظرة بين مشهد الأقطاب الحزبية الرئيسية قبل الانقلاب واليوم، أي بعد عام ونصف، يبيّن نفس التركيبة: قطب يضم الإسلاميين وحلفائهم قبل الانقلاب، وقطب الأحزاب الاجتماعية وقطب الحزب الدستوري الحر. لا اختراقات نوعية وجذرية، بل تعمّق الشرخ بين هذه الأقطاب في علاقة بتحميل المسؤوليات في أسباب الوضع الراهن. هل أصبح الحديث عن التوحيد ضربًا من العبث؟ ربما.
المسألة بحاجة للتدقيق، لا يقتضي التوحيد بذاته وحدة مؤسساتية هيكلية بقدر ما يقتضي وحدة الهدف أولًا والعمل ثانيًا، وحقيقة، تشترك جميع الأقطاب الحزبية بالبلاد اليوم في هدف إسقاط السلطة بالوسائل الشرعية باعتبارها سلطة انقلاب وهي بذلك تكتسب صفة المعارضة، وهو اشتراك اعتمل في الأشهر الأخيرة بعد سابق رهان بعض الأحزاب على الانقلاب قبل أن تتبيّن أن قيس سعيّد هو رجل بصدد تأسيس نظام حكم فرد الواحد وهو غير مهتمّ ببساطة بقائمة مسانديه أو معارضيه.
لا يقتضي التوحيد بذاته وحدة مؤسساتية هيكلية بقدر ما يقتضي وحدة الهدف أولًا والعمل ثانيًا، وحقيقة، تشترك جميع الأقطاب الحزبية بالبلاد اليوم في هدف إسقاط السلطة بالوسائل الشرعية
وأما بخصوص الخطة للإسقاط، فالبيّن أن لكل حزب تقدير بحسب اختلاف تقديره لأسباب الأزمة بذاتها وأيضًا اختلاف المشاريع السياسية. في هذا الجانب، يجب أن نقرّ أن الاختلاف الحاصل هو طبيعة حيوية في المشهد الحزبي، ومن التنطّع المبالغة في محاولة تجاوزه بروح حماسية طفولية كما تدعو بعض الأصوات.
تختلف السياقات لكن من المهم العودة للتاريخ. حينما اندلعت الثورة المجيدة ضد نظام بن علي، كانت المعارضة السياسية تشهد أزمة تشتت، والتشتت هو الطبيعة، وذلك بعد فشل تحول منصّة 18 أكتوبر لجبهة سياسية موحدة، وربما اختصارًا أن اختلاف مواقف أحزاب المعارضة الرئيسية من الانتخابات الرئاسية عام 2009، وثم اختلاف التقدير في تحديد الأولويات فور هروب بن علي، يبيّن أن حديث الوحدة ليس أحيانًا إلا ضربًا من الأحلام الوردية.
الاختلاف الحاصل بين المعارضة في تونس هو طبيعة حيوية في المشهد الحزبي، ومن التنطّع المبالغة في محاولة تجاوزه بروح حماسية طفولية كما تدعو بعض الأصوات
ربما السياق مختلف جملة وتفصيلًا، ولكن لا بأس من التذكير أيضًا أن إعلان استقلال البلد قبل نحو سبعين عامًا تزامن مع شرخ عميق داخل الحركة الوطنية الذي أدى لشرخ مجتمعي لازالت آثاره حيّة، كيفما كشفته ملفات العدالة الانتقالية بعد الثورة. المحصّلة أنه لا رابط سببي بين وحدة المعارضة وتحقيق المنجز ضد السلطة.
طبعًا هذا التقدير لا يعني معاداة لجهود التوحيد، قطعًا، بل تبقى الحاجة الحيوية لتقريب وجهات النظر وتعزيز سبل العمل المشترك. ويظل إذابة الجليد وقطع الحاجز النفسي بين القيادات السياسية المعارضة ضرورة اليوم، ليس بغاية تيسير إسقاط سلطة الانقلاب، وإن كان هذا المبتغى المستبعد الآن، بل لاحقًا لتيسير إدارة المرحلة السياسية المقبلة، بعنوان أخذ العبر وعدم إعادة أخطاء الماضي. فالمشكل اليوم ليس في عدم وحدة المعارضة خطابًا وخططًا للعمل، بل في عدم قدرة قادتها على الجلوس على طاولة الحوار. وهذه المعضلة.
المشكل اليوم ليس في عدم وحدة المعارضة في تونس خطابًا وخططًا للعمل، بل في عدم قدرة قادتها على الجلوس على طاولة الحوار وهذه المعضلة
حملت تجربة السنوات العشر جروحًا بين الأحزاب المنخرطة في المسار الديمقراطي وبين قادتها، فلم تكن الأزمة السياسية قبل الانقلاب إلا أزمة أحزاب، وهو ما جعل صورة الحزب ضعيفة الثقة لدى الجمهور العام، وبما سهّل انقضاض المشروع الرئاسي الشعبوي عليها عبر الاستيلاء على السلطة، وهو المشروع الذي قام في أحد عناوينه على معاداة الأحزاب بذاتها.
معالجة الجروح بين الأحزاب الديمقراطية هي ضرورة ديمقراطية من أجل التوافق على أرضية الحد الأدنى. تجربة 18 أكتوبر مثلًا وإن لم تؤدي لوحدة خطة مواجهة النظام الاستبدادي فإنها ربطت الجسور بين الأحزاب واخترقت القطيعة، كما أنها أطلقت حوارات مجتمعية حول مسائل الهوية التي يسّرت التوافقات الدستورية بعد الثورة.
الأحزاب المعنية بالمهمة الديمقراطية معنية بالجلوس اليوم لدراسة إخفاقات العشرية الماضية وأخذ الدروس والمراجعة، هذه خطوة ضرورية لتيسير التوافقات لتأمين المرحلة السياسية القادمة
تحت هذا السقف، الأحزاب المعنية بالمهمة الديمقراطية معنية بالجلوس اليوم لدراسة إخفاقات العشرية الماضية وأخذ الدروس والمراجعة. هذه خطوة ضرورية لتيسير التوافقات لتأمين المرحلة السياسية بعد إسقاط السلطة الحالية اليوم أو غدًا. بالنهاية. هل نحن بحاجة لتوحيد المعارضة الآن؟ لا، ليس ضرورة شرطية، ولكننا بحاجة، في المقابل، لمعارضة تجلس على طاولة واحدة وتتحاور فيما بينها.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"