27-أبريل-2023
 مظاهرة ضد الانقلاب في السودان

صورة أرشيفية من إحدى المظاهرات ضد انقلاب 25 أكتوبر 2021 في السودان (أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

 
تبدو المقارنة بعيدة لأول وهلة بين مشهد الاحتراب الدموي في السودان ومشهد الصراع السياسي المحتدم في تونس. ولعل الفارق الأساسي الأبرز بين السياقين أنّ المواجهة في السودان تدور داخل الدولة وبين أجهزتها الصلبة من خلال القتال الدائر منذ حوالي أسبوع بين مؤسسة الجيش وقوات الدعم السريع رافده منذ نظام عمر البشير وحليفه في الانقلاب على المسار السياسي في 25 أكتوبر 2022، في حين تدور المواجهة في تونس بين سلطة الأمر الواقع التي استولت على الدولة وبين الحركة الديمقراطية المصمّمة على استعادة الديمقراطيّة واستئناف مسارها. ثم إنّ اندراج المشهدين ضمن مسار الربيع العربي الذي انطلق من تونس في 2011، يسمح بالمقارنة.

ولقد لاحظنا تقاطعًا مهمًّا بين التجربتين فيما يكاد يرتقي إلى مرتبة القانون في تجارب الانتقال الديمقراطي ونعني جدلية الصراع والانقسام التي حكمت علاقة الحراك المواطني في مواجهة نظام الاستبداد في أول الثورة، وصراعَ القديم والجديد في مرحلة الانتقال، وعلاقةَ الحركة الديمقراطية ببقايا نظام الاستبداد ومؤسسات الدولة الصلبة ونزوعه إلى إعادة إنتاج نفسه بالانقلاب على الديمقراطية كلّما اجتمعت له شروطه.

 

 

  • ربيع السودان المتأخّر

في سياق الربيع العربي، مثّل السودان استثناءً مثيرًا رغم أنّ نظامه السياسي لا يخرج عن طبيعة نظام الاستبداد العربي موضوعِ ثورة الحرية والكرامة. فالفريق عمر البشير الذي صعد إلى الحكم بانقلاب عسكري سنة 89 بتدبير من الجبهة القومية الإسلامية (حسن الترابي) على حكومة الصادق المهدي المنتخبة فكان ذلك استثناء في تاريخ الحركة الإسلامية وإلحاقها ببقية العائلات الفكرية السياسية العروبية والبعثية والماركسية التي مارست الانقلاب في خمسينيات القرن الماضي وستينياته.

أرسى عمر البشير نظام استبداد استهدف كل الطيف السياسي في السودان بمن فيهم من شاركه في الانقلاب وكانت من نتائج سياساته انفصال الجنوب

أرسى البشير نظام استبداد استهدف كل الطيف السياسي في السودان بمن فيهم شركاؤه في الانقلاب. وكان من نتائج سياساته انفصال الجنوب ومنح أهم فصيل في الحركة الإسلامية "براءة اختراع" تقسيم السودان.

وإذا كان الإسلام السياسي اعتُبر في بعض الدراسات الجادّة بأنه من بين شروط بناء الديمقراطية في المجال العربي فإنه يمثل في السياق السوداني، عند هذه الدراسات نفسها، موضوعًا لثورة الحرية والكرامة. فصفة نظام البشير الإسلامية التي يلحّ خصومه على إثباتها فيه لا تغطّي على حقيقته الاستبدادية.

انطلقت ثورة الشعب السوداني المطلبية الاحتجاجية في ديسمبر/كانون الثاني 2018. وكانت فاتحة ما صار يُعرف بموجة الربيع الثانية (العراق أوت/أغسطس 2018-أكتوبر/تشرين الأول 2019، الجزائر فيفري/شباط 2019، لبنان أكتوبر/تشرين الأول 2019). 

انطلقت ثورة الشعب السوداني المطلبية الاحتجاجية في ديسمبر 2018 وكانت فاتحة ما صار يُعرف بموجة الربيع الثانية (العراق ثم الجزائر فلبنان)

وكان لـ تجمع المهنيين السودانيين" ذي الطبيعة النقابية والنزعة اليسارية دور أساسي في تحويل المطلبية الاجتماعية إلى حراك شعبي عمّ جلّ مدن السودان لأكثر من خمسة أشهر تحت عنوان "الحرية والسلام والعدالة والدولة المدنية". وتُوِّج الحراك باعتصام جماهيري مفتوح في محيط قيادة المؤسسة العسكرية أمام ارتفاع عدد ضحايا القمع العسكري والأمني إلى حوالي تسعين شهيدًا.

ومع اليوم الخامس من الاعتصام الحاشد تبنّت اللجنة الأمنية للنظام التي كان يرأسها الفريق أول عوض بن عوف النائب الأول لرئيس الجمهورية مطالب الحراك الثوري بإزاحة عمر البشير وفريقه في 11 أفريل/نيسان 2019. ويعدّ هذا انشقاقًا في صف النظام وخروج أجهزته الصلبة عليه وانحيازها للحراك الثوري.

وتشكّل على إثر هذا مجلسٌ عسكري برئاسة عوض بن عوف سرعان ما انحلّ بدعوى قرب رئيسه من نظام عمر البشير وحلّ مكانه مجلس عسكري جديد برئاسة عبد الفتاح البرهان المفتش العام للقوات المسلحة ومساعدة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو(حميدتي)، وبقي الاعتصام منعقدًا توجّسًا من العسكر.

وفعلًا فقد عمد المجلس العسكري إلى فك الاعتصام في أول جانفي/ يناير 2019 فانجرّ عنه سقوط عدد من الضحايا فاق شهداء الانتفاض المواطني في مواجهة نظام البشير. وأفضت المواجهة بين الجيش والثوار إلى مفاوضات بقيادة تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير تُوّجت بتوقيع إعلان سياسي ووثيقة دستورية تنصّ على شراكة بين الطرفين لإدارة مرحلة انتقالية بسنتين تفضي إلى انتخابات عامة. فانبنت مرحلة الوضع الانتقالي على مؤسستين: مجلس سيادة مدني عسكري، وحكومة انتقالية بأغلبيّة مدنيّة بقيادة عبد الله حمدوك الخبير الاقتصادي.

انبنت مرحلة الوضع الانتقالي في السودان على مؤسستين: مجلس سيادة مدني عسكري، وحكومة انتقالية بأغلبيّة مدنيّة بقيادة عبد الله حمدوك الخبير الاقتصادي

ومع تعثر حكومة عبد الله حمدوك في قضايا الأمن والعدالة وتصاعد الخلاف داخل قيادات الحراك، انقسم إعلان قوى الحرية والتغيير إلى فصيلين: "الحرية والتغيير -المجلس المركزي" والحرية والتغيير -الكتلة الديمقراطية". واستعاد العسكر المبادرة، فكان انقلاب 25 ديسمبر 2021 الذي لم يُخْف التوتر بين جناحي الانقلاب (البرهان العسكري وحميدتي الميليشياوي). وكان هذا التوتر من بين أسباب إخفاق الانقلاب في تشكيل حكومة. وتوسع عزلته الدولية. ولكن التوتر تطور إلى انقسام علني داخل الأجهزة الصلبة حول موضوع ضمّ قوى الدعم السريع إلى مؤسسة الجيش. ورغم التوصّل إلى إمضاء اتفاق إطاري مع جناح المجلس المركزي من قوى الحرية والتغيير تطور الانقسام إلى اقتتال مدمّر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم وأهمّ مدن السودان.

 

 

  • انتقال تونس المُتعثّر

كانت تونس منطلق الربيع ومنها امتدّ إلى سائر المجال العربي. وسمح صمود انتقالها الديمقراطي عشر سنوات بالحديث عن استثناء تونسي لم يسلم من محاولات الانقلاب عليه من قبل النظام القديم. وهو ما نبّه إلى أنّ تاريخ الانتقال الديمقراطي في تونس لا يخرج في حقيقته عن تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال.

تاريخ الانتقال الديمقراطي في تونس لا يخرج في حقيقته عن تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال

ومن المهم تسجيل أنّ هروب بن علي وانكسار نظامه كان نتيجة لانقسامه في مواجهة الانتفاض المواطني في الهامش المفقّر. وهو انقسام في صلب نخبة النظام والأجهزة التي أعلنت انحيازها لـ"ثورة الحرية والكرامة".

واعتبر هذا الانحياز "انتصارًا تاريخيًا" للمؤسسة العسكرية التي بقيت بعيدة عن رهانات السياسة في المرحلتين البورقيبية والنوفمبرية، فنظام بورقيبة مثل نظام بن علي اعتمدا في حكمهما على "المؤسسة الأمنية". ويُرجع تواصل مسار الانتقال الديمقراطي إلى عوامل ثلاثة تتلخّص في إجماع على فكرة الدولة، ومؤسسة أمنية وعسكرية خارج رهانات السياسة والسوق، ولقاء بين أهم قوتين سياسيتين من القديم والجديد وسط حياة سياسية جديدة انبنت على قاعدة الاختيار الشعبي الحر والانتخابات الديمقراطية.

هذه العوامل لم تُوقف محاولات الانقلاب على التجربة، وقد مثّل المجتمع المدني والإعلام الموجّه ركيزة هذه المحاولات وأداة النظام القديم في إرباك التجربة وإنهاكها.

وإذا كان الانقسام الاجتماعي سببًا في نجاح الثورة وكسر نظام الاستبداد من قبل الانتفاض المواطني فإنّ الانقسام الهووي (علمانيون/إسلاميون) الذي تمّ استدعاؤه رغم تجاوزه العملي من قبل تجربة حكم الترويكا التي ضمتّ الإسلاميين (النهضة) والعلمانيين (حزب المؤتمر، حزب التكتل) كان الثغرة التي عاد منها القديم.

وهو ما مكن المنظومة النوفمبرية من أن تتذرّع بالمجتمع المدني (الاتحاد العام التونسي للشغل) وبأهم مجاميع اليسار الوظيفي والفرنكفوني جريج الانتخابات الديمقراطية الأولى في تاريخ تونس. ثمّ كانت الاغتيالات الجريمة السياسية التي عمّقت الشرخ داخل الصفّ المحسوب على الثورة. وبذلك انعقد "الحوار الوطني" وكان من أهمّ مخرجاته إزاحة حكومة الترويكا الثانية المنتخبة وتنصيب مكانها حكومة تكنوقراط نالت ثقة المجلس الوطني التأسيسي.

كان حدث 2014 الانتخابي أشبه بـ"انقلاب ديمقراطي" في تونس

كانت نتيجة الحوار الوطني السياسية إيصال المنظومة التي قامت عليها الثورة إلى الحكم، بعد فوزها بقيادة الباجي قايد السبسي بالرئاسات الثلاث. فكان حدث 2014 الانتخابي أشبه بـ"انقلاب ديمقراطي". وكان من الجميع أن سلمت بالانتخابات وبنتائجها السياسية، فنجحت البلاد في أوّل اختبار في التداول السلمي على السلطة، غير أنّ انقسام حزب الباجي الفائز وانهياره لم يُسعِف بالخروج من "المؤقت" إلى "الدائم" ولم يمكِّن فكرة التوافق التي صيغت بشروط القديم العائد من تحقيق استقرار الحكم.

مع  انتخابات 2019 كان المزاج الشعبي أقرب إلى الجديد، واعتُبرت نتائجُها في الرئاسي والتشريعي شاهدًا على حقيقة التناوب على الفوز بين القديم والجديد إلى أن تستقرّ الديمقراطيّة.

كان هناك أكثر من مؤشّر على أنّ الانقلاب كان قادمًا أيّا كان الفائز بالانتخابات بسبب استعصاء واضح للقسم الأعظم من مكونات القديم على الدَّمَقْرطة. ولم يمرّ وقت طويل حتى  انطلق نقْض العوامل الثلاثة التي مكنت تجربة الانتقال الديمقراطي من التواصل على مدى عشر سنوات. وهذا ما بدا واضحًا في استهداف أساسَيْ النظام الديمقراطي باستهداف الدستور باعتباره الميثاق والنص المرجعي للتجربة ومجلس نواب الشعب باعتباره المؤسسة الأصلية في النظام السياسي شبه البرلماني.

كان هناك أكثر من مؤشّر على أنّ الانقلاب في تونس كان قادمًا أيّا كان الفائز بالانتخابات في 2019 بسبب استعصاء واضح للقسم الأعظم من مكونات القديم على الدَّمَقْرطة

وفي هذا كان التقاطع بين دور الرئيس الفائز من خلال تحرّشه بالمؤسستين الأمنية والعسكرية ومحاولته جرّهما خارج الدور الذي يضبطه لهما الدستور وبين دور رئيسة الحزب الدستوري الحر وبلطجتها مع كتلتها داخل البرلمان بغاية شل دوره. وكان هذا التقاطع في الأدوار يجد مرافقة من قبل الإعلام المناهض للديمقراطية والذي نجح في ترذيل السياسة وشيطنة فاعليها وتوسيع الهوة بين نشطائها ومنع الالتقاء على مشترك أدنى تحتاجه البلاد عند احتداد الأزمات.

وكان هذا التوجه يجد مساندة من بعض الأقطار العربية التي لا تخفي عداءها لربيع الحرية، وتجاهر برغبتها في إسقاط تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، بعد أن ساهمت بوجه مكشوف في الإطاحة بالتجارب الأخرى سواء بجرّها إلى الاحتراب الأهلي بتوظيف الجماعات الإرهابية (اليمن، سورية، ليبيا) أو بالانقلاب عليها بواسطة مؤسسات الدولة الصلبة في سنوات انتقالها الأولى (مصر) باسم معارك هووية وإيديولوجية وعناوين سياسية مضلّلة.

  • الانقلاب على مسار الانتقال

كان انقلاب 25 جويلية في تونس تتويجًا لمسار كامل من التخطيط للإطاحة بالتجربة التونسية، وقد ساهم تعثر الانتقال الديمقراطي وارتباك من تمّ تفويضهم لقيادة المرحلة في تحقيق الهدف. وبخلاف سردية الانقلاب التي تأسست على ادّعاء الاستجابة لانتظارات شعبية واسعة عبّرت عن نفسها في خروج كبير يوم 25 جويلية 2021. وهي سردية كاذبة خاطئة فالشعب لم يخرج مناصرًا للانقلاب ساعة الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية ولكنه في الآن نفسه لم يخرج مدافعًا عن الديمقراطية التي لم يَرَ لها منجزًا اقتصاديًا اجتماعيًا أو حوكمة سياسية.

كان العامل الحاسم في الإطاحة بكل هذه التجارب في الانتقال الديمقراطي والاختيار الشعبي الحر وأدومها التجربة التونسية خروج أجهزة الدولة الصلبة عن الحياد وعما ضبطه لها القانون من دور

وكان العامل الحاسم في الإطاحة بكل هذه التجارب في الانتقال الديمقراطي والاختيار الشعبي الحر وأدومها التجربة التونسية خروج أجهزة الدولة الصلبة عن الحياد وعما ضبطه لها القانون من دور. ولم يكن الانقلاب على الدستور والديمقراطية ثورة شعبية مثلما يدعي الانقلابيون وروافدهم وكل من انتهى إلى اعتبار الديمقراطية تهديدًا وجوديًا. ولكن هذه الجماهير التي لم تخرج مهللة للانقلاب لم تخرج مدافعة عن الديمقراطية ومؤسساتها المطاح بها.

يظهر بوضوح، في المشهد التونسي والسوداني، ما أسميناه بجدلية الصراع والانقسام. وهي ظاهرة ملاحَظة في تجارب الانتقال الديمقراطي والأطوار التي تمر بها سواء بلغ الانتقال غايته وانتهى إلى تأسيس الديمقراطية واستقرار نظامها أو عرف انتكاسة وتظهر جدلية الصراع والانقسام في حدث الثورة نفسه وفي نجاحها في كسر النظام القائم وهروب جلاّديه وإرساء نموذجها أو في تحول المسار الثوري إلى تجربة انتقال ديمقراطي.

يظهر بوضوح، في المشهد التونسي والسوداني، ما أسميناه بجدلية الصراع والانقسام وهي ظاهرة ملاحَظة في تجارب الانتقال الديمقراطي والأطوار التي تمر بها سواء بلغ الانتقال غايته وانتهى إلى تأسيس الديمقراطية أو عرف انتكاسة

وما كان للتجربة في مصر أن تمرّ إلى محاولة بناء الديمقراطية لولا بقاء المؤسسة العسكرية على الحياد مؤقتًا توقيًا من موجة الانتفاض الشعبي العارمة ولمعاينة ما سيكون عليه الأمر إذا توفرت شروط انتخابات حرة ونزيهة.

ولم يكن للتجربة في تونس أن تطيح بنظام الاستبداد وأن تمتد على عشر سنوات لولا تقاليد مؤسستها العسكرية في الالتزام بالقانون وبعدها عن رهانات السياسة وصراعاتها. وما كان لثورة الشعب السوداني على نظام البشير أن تنجح لولا تقدير المؤسسة العسكرية - وهي العريقة في انقلاباتها - الانحياز لمطالب الشعب في الحرية والسلام والعدالة والدولة المدنية، والانحناء للحشود المعتصمة أمام مقر لجنتها  الأمنية تتويجًا لثورة ديسمبر 2018.

الصراع في تونس والسودان وفي سائر الأقطار التي عرفت الانتفاض المواطني والثورة والانتقال الديمقراطي لخروج البلاد العربية من الاستثناء كان على درجة كبيرة من التعقيد. فلم يكن مواجهة بين كتلتين متجانستين النظام والجماهير المطالبة بالديمقراطية. كانت هناك تحولات وتبدلات في أكثر من اتجاه.

لم يكن للتجربة في تونس أن تطيح بنظام الاستبداد وأن تمتد على عشر سنوات لولا تقاليد مؤسستها العسكرية في الالتزام بالقانون وبعدها عن رهانات السياسة وصراعاتها وما كان لثورة الشعب السوداني على نظام البشير أن تنجح لولا تقدير المؤسسة العسكرية الانحياز لمطالب الشعب

ويمكن أن نفترض أن منطلق الصراع بين النظام والمعارضة يكون بين قوتين تملك كل منهما قدرًا كبيراً من الانسجام والتماسك، ولكن مع استمرار الصراع تظهر التصدعات في هذه الجهة أو تلك، وقد تظهر في الجهتين بدرجات متفاوتة. ولذلك يكون مآل الصراع مرتبطًا بعمق التصدّع هنا وهناك وبدرجة الضغط المتبادل من الجهتين وقابلية الانقسام عند كل منهما. كان هذا في 14 جانفي 2011 بتونس وفي 25 يناير 2011 في مصر. فقد كان وزن الحشود الضاغط وإصرارها على الانعتاق من عهود القهر والاستبداد كافيًا لتعميق الشرخ والانقسام داخل نظام الاستبداد وأجهزته.

  • مسار تاريخي يتعثّر ولكنه لا يتراجع

ما انطلق من تونس وامتدّ إلى كل المجال العالمي وهزّ العالم بأسره ودفعه إلى إعادة ترتيب شؤونه وحسن تصريف القيم المجمع عليها لا يمكن أن يكون مؤامرة إلاّ إذا أسندت إلى التاريخ ومكره. هي ثورة الألفيّة الثالثة التي تدرك أنّ إضافتها إلى ما سبقها من الثورات تتمثّل في بناء ديمقراطية مشروطة بالحرية لأول مرة في تاريخ الانتظام السياسي في التجربة الإنسانية.

ولذلك سيعرف مسارها تعرجات يمينًا وشمالًا وصعودًا ونزولًا وتقدّمًا وتمهّلًا قبل أن تستقرّ عند نموذج حينًا من الدهر ثم تستأنف الرحلة عند انتظام أرقى فالدولة الحديثة ليست سدرة منتهى يحطّ التاريخ عندها رحله. هذا ما كان على نخبة الفكر والأكاديميا والمال والأعمال والأجهزة أن تدركه حتى يكون لها نصيب من فضل المساهمة في تأسيس الحرية وبناء المواطنة الكريمة.

نقول هذا ونحن نرى الجهتين المتصارعتين في السودان تمعنان في هدم الدولة وإسقاط سقفها المتداعي على رؤوس الجميع بعنوان ترفعانه في الآن نفسه: خدمة المطلب الديمقراطي. ورصدًا لما اعتبرناه أشبه بالقانون، نشير إلى ما تعرفه جهتا الصراع من تصدعات داخلهما. وإنّ مآل الصراع المحتدم بينهما محكوم بدرجة التصدع في كل جهة وقدرتها على ترميم نفسها.

وقبل هذا، ومع انطلاقة الأحداث كان تحالف قوى الحرية والتغيير الذي تصدّر ثورة الشعب السوداني قوة موحدة ولكن الصراع والضغط المتبادل مع سائر القوى الفاعلة في النخب والأجهزة قسمه إلى فصيلين أمضى أحدهما على ما عُرِف بالاتفاق الإطاري مع الجيش.

تدافع القوى المدنية والجيش وما كان للاتفاق الإطاري الممضى من ضغط على المؤسسة العسكرية في السودان قسّمها وهي تراوغ للاستئثار بالحكم

غير أنّ تدافع القوى المدنية والجيش وما كان للاتفاق الإطاري الممضى من ضغط على المؤسسة العسكرية قسّمها وهي تراوغ للاستئثار بالحكم رغم تأكيدها على الانتصار للشعب السوداني وانحيازها للمطلب الديمقراطي.

وكانت النتيجة أن انتقل الصراع من معارضة/دولة يمثلها الجيش (السودان دون حكومة منذ الانقلاب على حكومة حمدوك) إلى صراع داخل الدولة وتحديدًا بين المؤسسة العسكرية وحليفها من ميليشا الدعم السريع. وهو صراع عسكري دموي يهدد ما بقي من الدولة في السودان ويهدد السلم والاستقرار في المنطقة. وهذا ما جعل من الحرب في السودان اليوم شاغل المجتمع الدولي بسعي منظماته الأممية إلى إيقافها وتطويق آثارها.

انتقل الصراع في السودان من معارضة/دولة يمثلها الجيش إلى صراع داخل الدولة وتحديدًا بين المؤسسة العسكرية وحليفها من ميليشا الدعم السريع

ومما كشف عنه هذا الصراع أن الجهتين المتقابلتين وهما تشددان على أن حربهما لا تنفصل عن المطلب الديمقراطي شرط السيادة الفعلي، علاقتهما بالكيان الصهيوني العنصري الذي يريد الظهور  بمظهر  "وسيط سلام" أمام عجز الإخوة والأجوار والمجتمع الدولي على إطفاء الحريق. وهذه الوساطة شاهد على حضور الكيان في السودان وعلى حجم اختراقه للنخبة العسكرية في السودان، وقد كانت آثاره بادية في الإطاحة بنظام عمر البشير.

وأمّا في تونس، فإنّه وبعد ما يقرب من السنتين على الإجراءات الاستثنائية لم يخرج الانقلاب إلى "ما بعد الانقلاب" حتى أن الاعتقالات الأخيرة لقيادات جبهة الخلاص الوطني والحركة الديمقراطية واعتقال زعيم النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي يعيد الزمن السياسي إلى يوم 25 جويلية 2021، فقد دأبت عادة الانقلابات أن تعتقل رموز النظام السابق وخصومها في الأيام الأولى من انقلابها. ويكون تأخير ما تم من اعتقالات إلى طريقة المخاتلة التي تم اعتمادها تحت ذريعة التصحيح والتأويل الخاص للفصل 80 من الدستور. مثلما نراه بسبب ما وضعته عشر سنوات من التمرين الديمقراطي من حواجز ديمقراطية تمنع الانقلاب الفج وتفرض التدرّج.

ولكن بعد سنتين من جمع كل السلطات بين يدي الفرد لا تفسير لهذه الاعتقالات إلا بالتغطية عن عجز سلطة الأمر الواقع وفشلها الذريع على كل الأصعدة. فعلى المستوى المالي الاقتصادي تبلغ الأزمة ذروتها في ظل غياب رؤية لمقاربة الأزمة. فالدولة على شفا الإفلاس وكل المؤشرات تنذر بانهيار مالي وشيك مفتوح على وضع اجتماعي متفجّر. فكل شروط الكوميسيون المالي واستباحة سيادة البلاد واستقلالها تجتمع باطراد.

بعد سنتين من جمع كل السلطات في تونس بين يدي الفرد لا تفسير للاعتقالات إلا بالتغطية عن عجز سلطة الأمر الواقع وفشلها الذريع على كل الأصعدة

وفي المستوى السياسي لا تحضر السلطة في تونس إلا باتجاهها إلى الإمعان في تجريف الحريات وهدم القليل الذي بنته عشرية الانتقال. وفي هذا السياق يبدو قيس سعيّد مستطيعًا بغيره، إذ لا يمسك انقلابه الفاشل ومضيه في خطابه التقسيمي إلاّ الأجهزة الصلبة، وهي تدرك أكثر من غيرها أنّها كانت تدعمه وتدعم كل مؤسسات النظام الديمقراطي قبل 25 جويلية 2021 تنفيذًا لأحكام دستور 2014. فما الذي يسوّغ دعمه اليوم؟

وإذا كان الجواب: يدعم لتمثيله الدولة، فإنّ سعيّد قد انقلب على الدستور الذي أقسم عليه. وقد كان للبروفيسور عياض بن عاشور عشية الإجراءات الاستثنائية رأي قانوني اعتبر فيه الأجهزة حِلاًّ من كل استجابة لمن خرق الدستور أو أبطل أحكامه.

ولعلّ  أخطر ما حصل من وجهة نظر قانونية وسياسية هو جرّ الدولة خارج الشرعية وإعادتها إلى مشكل الشرعية الذي عانت منه الدولة في العهدين البورقيبي والنوفمبري وعالجته الثورة بالانتخابات الحرة والتمثيل الديمقراطي الشفاف. وإنّ استفتاء الـ5% وانتخابات الـ11% لا تمنح سلطة الأمر الواقع اليوم الشرعية والنظام السياسي القائم لا يستند إلاّ إلى شرعية القوة . وهذا ما يحمّل الأجهزة المسؤولية الأولى عن وحدة الدولة وسلامة المجتمع ومستقبل الديمقراطية. 

لعلّ  أخطر ما حصل من وجهة نظر قانونية وسياسية في تونس هو جرّ الدولة خارج الشرعية وإعادتها إلى مشكل الشرعية الذي عانت منه في العهدين البورقيبي والنوفمبري وعالجته الثورة بالانتخابات الحرة والتمثيل الديمقراطي الشفاف

وإنّ مواصلة استهداف الحريات واعتقال قيادات الحركة الديمقراطية في ظل أزمة مالية اقتصادية وسياسية مركبة وفي ظل خطاب رسمي تخويني وتقسيمي يهدد استمرار الدولة ووحدة المجتمع. وهو ما يفسّر تصاعد الضغوط الدولية باتجاه تطويق آثار الأزمة المركبة والحدّ من تداعياتها داخل تونس وفي حوض المتوسط.

في هذا السياق تواصل الحركة الديمقراطية دفاعها عن الحريات بعقل سياسي بارد بهدف استعادة الديمقراطية وهو ما يشكل مع الأزمة المالية الاقتصادية والموقف الدولي الأمني والحقوقي قوة ضغط سيكون لها أثرها على منظومة الانقلاب التي لن تبقى مجمعة على "مرافقة الأزمة" المتصاعدة.

إنّ مواصلة استهداف الحريات واعتقال قيادات الحركة الديمقراطية في ظل أزمة مالية اقتصادية وسياسية مركبة وفي ظل خطاب رسمي تخويني وتقسيمي يهدد استمرار الدولة ووحدة المجتمع

وسيكون تباين تقديرات مكوناتها لخطورة الوضع سببًا إلى فتح حوار وطني شامل لإنقاذ تونس. وإذا كان مدلول الحوار أيام الانقلاب الأولى لا يخرج عن الاعتراف به فإنه لا مدلول له اليوم إلاّ إزاحته وإيقاف آثاره الكارثية على البلاد.

فلا أفق لهذه البلاد غير طاولة الحوار والشروع في التسويات الكبرى المطلوبة لتستعيد البلاد توازنها في أفق نظام ديمقراطي مستقر هو السبيل الوحيد لبناء ما تهدّم على مشترك وطني جامع.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"