16-نوفمبر-2022
احتجاجات للصحفيين في تونس

احتجاج للصحفيين في تونس يوم 5 ماي 2022 دعمًا لحرية الصحافة (صورة أرشيفية/ياسين القايدي/الأناضول)

 

كتب صحفي تونسي مقالًا تحليليًا قدم فيه تقييمه لتجربة رئيسة الوزراء في تونس نجلاء بودن، على رأس الحكومة التونسية لمدة سنة تقريبًا، واعتبر التجربة مثالًا للفشل على كل الأصعدة.

مقال نقدي لتجربة نجلاء بودن على رأس الحكومة، اختارت الأخيرة أن تفتح من خلاله جبهة صراع مع طيف من الصحفيين وهياكلهم النقابية وغيرهم حينما حولته لتهمة قد يصل عقابها للسجن لسنوات

غالبًا لم يسمع الكثيرون بهذا المقال، قبل الثلاثاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لكن نجلاء بودن اختارت مسارًا آخر للمقال المذكور، اختارت خاصة فتح جبهة صراع مع طيف واسع من الصحفيين وهياكلهم النقابية بعد اعتمادها مرسومًا عُرف بالمرسوم 54 لمقاضاة كاتب المقال الصحفي نزار بهلول، وهو المرسوم الذي تٌطلق عليه نقابة الصحفيين التونسيين تسمية "المرسوم سيء الذكر" وتشاطرها في ذلك عديد المنظمات والجمعيات الحقوقية التونسية والأجنبية لما يرون فيه من تهديدات لحرية الصحافة والتعبير.

 

 

في تفاصيل الموضوع كما نقلها الصحفي المذكور ونقابة الصحفيين التونسيين، نذكر أن وزيرة العدل في تونس دعت وكيل الجمهورية إلى اتخاذ الإجراءات المستوجبة قانونًا والقيام بالتتبعات الجزائية اللازمة ضد كاتب المقال المذكور وكل من سيكشف عنه البحث، على معنى المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر/أيلول 2022 والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.

مثول صحفي أمام التحقيق بسبب مقال تحليلي نقدي بتهمة "نشر أخبار غير صحيحة وثلب رئيسة الحكومة والادعاء بالباطل وماله من تأثير على الأمن العام بغاية المساس بأمن الدولة"

وقد مثل بهلول أمام فرقة مكافحة الإجرام بالقرجاني للاستماع لإفادته، الاثنين 14 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وأثارت وزيرة العدل ليلى جفال الشكاية ضده على معنى الفصل 24 من المرسوم المذكور، وفق بيان لنقابة الصحفيين، بتهمة "نشر أخبار غير صحيحة وثلب رئيسة الحكومة والادعاء بالباطل وماله من تأثير على الأمن العام بغاية المساس بأمن الدولة".

وتعتبر هذه الإحالة الأولى من نوعها في حق صحفي في تونس منذ صدور المرسوم، الذي كما سبق وذكرت، قد تعرض لمعارضة واسعة عند نشره في الرسمي، ويواجه البهلول تهمًا عقوبتها قد تصل للسجن 10 سنوات على خلفية هذا المقال التحليلي.

 

 

خطوة تتبع الصحفي قضائيًا من أجل مقال نقدي كتبه، اعتبرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، في بيان مساء الثلاثاء، أنها تمثل "تصعيدًا خطيرًا وغير مسبوق يستهدف العمل الصحفي ويرمي إلى الحد من حق المواطنين في الحصول على المعلومات الدقيقة ومحاولة لتوجيه الإعلام لخدمة أجندات السلطة السياسية الحاكمة".

نقابة الصحفيين التونسيين تدعو لإطلاق حملة وطنية للتصدي للمرسوم 54 وللمطالبة بسحبه كما تطالب القضاة بعدم اعتماد نصوص معادية للحرية كالمرسوم 54

ودعت النقابة وزيرة العدل ليلى جفال إلى السحب الفوري للشكاية باعتبارها وصمة عار في جبين الحكومة التونسية في معالجتها لملف قطاع الإعلام، كما حثت الصحفيات والصحفيين وكل نشطاء المجتمع المدني والسياسي إلى التصدي "لهذه المحاولة لضرب حرية التعبير والفكر البناء في نقد السياسات العامة ومحاولة الحكومة لتدجين الإعلام في تونس، داعية لإطلاق حملة وطنية للتصدي للمرسوم 54 وللمطالبة بسحبه".

وطالبت القضاة "كحصن أساسي للتصدي لضرب الحريات العامة والفردية إلى عدم اعتماد هذه النصوص المعادية للحرية باعتبارهم الضامن للحقوق والحريات والعدالة والإنصاف، كما دعت إلى عدم الخضوع لضغط السلطة السياسية على استقلالية أعمالهم القضائية".

 

 

في سياق متصل، تم الكشف علنًا عن إحالة الصحفي للتحقيق وفق المرسوم 54، يوم الثلاثاء 15 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وفي ذات اليوم أعلن المحامي التونسي مهدي زقروبة، على صفحته في موقع فيسبوك، إحالته على قاضي التحقيق وفق ذات المرسوم من أجل تهم "استغلال أنظمة الاتصال ومعلومات لنشر إشاعات كاذبة ونسبة أمور غير صحيحة بغاية التشهير بالغير وتشويه سمعته والإضرار به مادياً ومعنويًا والتحريض على الاعتداء عليه وبث خطاب الكراهية وكان المتضرر موظفًا عموميًا".

إحالة المحامي مهدي زقروبة على التحقيق وفق المرسوم 54 بسبب تدوينات سبق أن نشرها انتقد من خلالها عمل وزارة العدل في عدد من الملفات

وبعد التثبت، يتعلق الأمر بشكاية من وزيرة العدل ضد المحامي زقروبة في خصوص تدوينات سبق أن نشرها تنتقد عمل وزارة العدل في عدد من الملفات.

 

 

هكذا تتتالى حالات الإحالة على التحقيق في تونس لصحفيين وغيرهم بسبب مواقف عبروا عنها في مقالات صحفية أو تدوينات على منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما سبق أن حذر منه العديد من النشطاء والصحفيين وحتى منظمات وهياكل نقابية، إبان صدور المرسوم 54، المتعلق بجرائم الاتصال والمعلومات في تونس.

في هذا السياق، وتحديدًا في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، كانت قد أدانت مجموعة من المنظمات والجمعيات المرسوم 54، مع حث الرئيس التونسي قيس سعيّد على سحبه فورًا. وعبرت، في بيان مشترك لها، عن عميق انشغالها إزاء ما تضمنه من أحكام اعتبرتها متعارضة بصورة صارخة مع الفصول 37 و38 و55 من الدستور التونسي والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية المصادق عليه من طرف الجمهورية التونسية.

منظمات وجمعيات مختصة في الشأن الإعلامي والحقوقي: المرسوم 54 يهدد جوهر حرية التعبير والصحافة وقد تضمّن قيودًا غير مسبوقة من شأن تطبيقها أن يؤدي إلى ترهيب الصحفيين وعموم المواطنين من التعبير عن آرائهم

ووصفت هذه المنظمات، ومنها: النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، البوصلة وعدة جمعيات ومنظمات أخرى ذات صلة بالشأن الصحفي والحقوق والحريات، المرسوم 54 بكونه "يهدد جوهر حرية التعبير والصحافة.. تضمّن قيودًا غير مسبوقة من شأن تطبيقها أن يؤدي إلى ترهيب الصحفيين وعموم المواطنين من التعبير عن آرائهم خاصة تجاه أعوان الدولة والمسؤولين السياسيين".

واعتبرت هذه المنظمات أن الفصل 24 المتعلق بـ"الإشاعة والأخبار الزائفة" في المرسوم المذكور يتعارض مع المعايير الدولية المتصلة بالحق في حرية التعبير، مؤكدة أن حماية كرامة الأفراد أو الأمن الوطني لا يكون عبر تجريم عدة أفعال بصورة غامضة وغير دقيقة، الأمر الذي يؤول إلى إطلاق عنان السلطة التقديرية للأجهزة الأمنية والقضائية لملاحقة الصحفيين والمدونين والناشطين في المجتمع المدني والسياسيين وعموم المواطنين.

 

 

والمرسوم 54، بشكل عام، تعرض لانتقادات عديدة ولم يقتصر الأمر على عدد من الجمعيات الفاعلة في الشأن الإعلامي والحقوقي. من بين ما يُلام في خصوص هذا المرسوم، إدراجه عقابًا مضاعفًا كلما كان المقصود بالرأي موظفًا عموميًا أو مسؤولًا حكوميًا، مما يتعارض مع مبدأ المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون، كما أن مضاعفة العقاب تعكس حصانة غير مبررة بالضرورة للموظفين العموميين والمسؤولين السياسيين، بينما جرت العادة في الديمقراطيات أن يتقبل هؤلاء النقد بالنظر لاختيارهم العمل في المجال العام.

يُلام على المرسوم 54 إدراجه عقابًا مضاعفًا كلما كان المقصود بالرأي موظفًا عموميًا أو مسؤولًا حكوميًا ومضاعفة العقاب تعكس حصانة غير مبررة بالضرورة للموظفين العموميين والمسؤولين السياسيين

من الانتقادات الحادة الموجهة لهذا المرسوم أيضًا، ما تضمنه في فصله التاسع إذ "أنه يمكن الأجهزة الأمنية من الحصول على البيانات المعلوماتية المخزنة بنظام أو حامل معلوماتي أو المتعلّقة بحركة اتصالات أو بمستعمليها"، مما قد يشكل تهديدًا لحق الصحفيين في الحفاظ على سرية المصادر والمنصوص عليه في المرسوم عدد 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، والذي يشترط التمكين من المصادر بوجود إذن قضائي وأن تكون تلك المعلومات متعلقة بجرائم تشكل خطرًا جسيمًا على السلامة الجسدية للغير وأن يكون الحصول عليها ضروريًا لتفادي ارتكاب هذه الجرائم وأن تكون من فئة المعلومات التي لا يمكن الحصول عليها بأي طريقة أخرى.

والمرسوم المذكور، وفق مختصين في المجال الإعلامي والاتصالي، يقوم على تعريفات فضفاضة لعبارات مثل "أخبار" أو "بيانات" أو "إشاعات كاذبة"، وغموض المصطلحات قد يؤدي إلى انتهاكات ومحاولات لتكميم أفواه أصوات معيّنة دون حق.

المرسوم 54 يشكل تهديدًا لحق الصحفيين في الحفاظ على سرية المصادر والمنصوص عليه في المرسوم عدد 115  والذي يشترط التمكين من المصادر بوجود إذن قضائي وشروط أخرى

هذه وغيرها انتقادات وٌجهت من أكثر من طرف نحو المرسوم المذكور آنفاً وأكدتها بدايات العمل به وتطبيقه في وضعيات الصحفي نزار بهلول والمحامي مهدي زقروبة، ما يعزز المخاوف في تونس تجاه أهم مكسب في البلد إبان ثورة 2011 وهو حرية الصحافة والتعبير عن الرأي.

وتتعاظم هذه المخاوف مع تعدد الإحالات على التحقيق وحتى أمام القضاء العسكري بسبب منشورات على منصات التواصل الاجتماعي، وفق مراسيم وقوانين مختلفة، وهو ما تندد به المعارضة التونسية فيما يصر الرئيس الحالي قيس سعيّد، والذي يحظى بصلاحيات واسعة جدًا منذ إجراءات حله الحكومة والبرلمان في 25 جويلية/يوليو 2021، على أن لا "مساس بالحقوق والحريات"، في سجال يُعمق الأزمة في البلد، الذي يعاني وضعًا اقتصاديًا واجتماعيًا صعبًا.