21-أكتوبر-2022

اعتبرت عديد المنظمات الحقوقية في تونس أن مرسوم جرائم الاتصالات يمثل خطرًا محدقًا يستهدف حرية النشر والإعلام (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

مقال رأي

 

أن يتضمّن قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال ضمانات أكثر من المرسوم عدد 54 المتعلّق بجرائم الاتصالات، فذلك المختصر المكثّف الذي يكشف عن المخاطر الذي يحملها هذا المرسوم الذي اختار الرئيس التونسي قيس سعيّد أن يصدره، كالعادة دون سابق نقاش عمومي، ودون حتى انتظار إعادة ولاية التشريع للبرلمان المرتقب. لا موجب استعجالي يقتضي تنظيم جرائم الاتصالات بمرسوم رئاسي إلا عجلة رئيس الدولة بنفسه لتضييق دائرة الحقوق والحريات وبالخصوص فيما يشمل، هذه المرّة، حرية التعبير والنشر.

لا موجب استعجالي يقتضي تنظيم جرائم الاتصالات بمرسوم رئاسي إلا عجلة رئيس الدولة بنفسه لتضييق دائرة الحقوق والحريات وبالخصوص حرية التعبير

نظّم قانون مكافحة الإرهاب آلية اعتراض الاتصالات موكلًا الإذن بها لوكيل الجمهورية أو قاضي التحقيق بمقتضى قرار معلّل، مع التنصيص على أجل أقصى لسريان مأمورية الاعتراض وهي 4 أشهر مع قابلية التمديد فيها لمدة وحيدة بقرار معلّل ولنفس المدّة، أي 8 أشهر كأجل أقصى، وذلك في إطار الموازنة بين مقتضيات البحث خاصة في الجريمة الإرهابية من جهة ومبدأ سرية الاتصالات والمراسلات والحياة الخاصة من جهة أخرى.

لم يشذ مشروع قانون جرائم الاتصالات الذي أعدته حكومة الحبيب الصيد عام 2015، بخصوص هذه النقطة، عن ضمانة الأجل الأقصى لاعتراض الاتصالات والمحدد في هذا المشروع بـ6 أشهر. مرسوم سعيّد، في المقابل، لم يحدّد أجل أقصى للاعتراض، بما يعني إطلاق يد السلطات لخرق سرية الاتصالات دون أي تقييد زمني. غياب الضمانات لا يتوقف على هذا العنصر بل يشمل رقابة سلامة تنفيذ مأمورية الاعتراض. ففي حين أرسى مشروع الصيد، الذي ظل حبرًا على ورق، على إنشاء هيئة عمومية تُسمى "الهيئة التونسية لمراقبة الاعتراض" مهمتها مراقبة احترام إجراءات تنفيذ عمليات النفاذ إلى قواعد البيانات والاعتراض على حركة الاتصالات ومحتواها، لا نجد أي أثر لهذه الهيئة أو أي جهة رقابية أخرى في مرسوم سعيّد.

إصرار الرئيس على إصدار مرسوم يعالج مسألة خلافية وخطيرة بحجم تنظيم جرائم الاتصالات، وخاصة مع انطلاق الزمن الانتخابي للانتخابات التشريعية لا يمكن أن يكشف إلا عن نوايا مشبوهة

مسألة اعتراض الاتصالات هي عيّنة ممّا يتضمنه مرسوم سعيّد من مخاطر تستهدف الحريات الفردية والعامة خاصة في سياق سياسي وأمني يشهد ردّة عن المكاسب المحقّقة من جهة وتصاعدًا في سلسلة الانتهاكات الحقوقية من جهة أخرى. إصرار رئيس الدولة على إصدار مرسوم يعالج مسألة خلافية وخطيرة بحجم تنظيم جرائم الاتصالات، وخاصة مع انطلاق الزمن الانتخابي لتنظيم الانتخابات البرلمانية نهاية العام الجاري، لا يمكن أن يكشف إلا عن نوايا مشبوهة. ربما يظل الفصل 24 من المرسوم الصادر هو المؤكد لها، والذي نص على عقوبتين سجنية ومالية مشددّتين من أجل نشر الإشاعات والأخبار الزائفة، وهو فصل اعتبرته المنظمات الحقوقية عدا عن نقابة الصحفيين التونسيين خطرًا محدقًا يستهدف حرية النشر والإعلام. 

استعمال عبارات مغرقة في العمومية لتجريم نشر الإشاعات والتنصيص على عقوبة مشددة غايته تأمين سيف السلطة لمقاضاة المعارضين والمدونين. ما الحاجة لهذا التجريم والحال أن الترسانة القانونية متوفرة وبالخصوص منها المرسوم عدد 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر الصادر فجر الثورة؟ حتى المجلة الجزائية ومجلة الاتصالات، رغم نسخ عدد من الجرائم المتضمنة بهما بمقتضى المرسوم 115، يكفيان السلطة لتصعيد عصا التتبع القضائي ضد من لا يروق له رئيس الدولة. رغم ذلك، صدر هذا المرسوم الجديد رغم أن جميع الحكومات السابقة تمهّلت في نقاش مشروع قانون جرائم الاتصالات وعرضه للمصادقة على البرلمان، بالنظر للتحفظات الحقوقية حوله.

وجود مرسوم جرائم الاتصالات مع نيابة عمومية خاضعة لتعليمات رئيس الدولة ينذر بأن الفترة المقبلة ستشهد إحالات بالجملة على القضاء الذي يشهد محنة في مواجهة رئيس لا يعترف إلا بسلطته

لا ريب أن رغبة الحكومة التونسية في الانضمام لاتفاقية بودابست المتعلقة بالجرائم الإلكترونية هو قميص عثمان لتبرير إصدار مرسوم رئاسي يؤكد، في الحقيقة، الردّة التشريعية في مجال الحقوق والحريات في تونس بعد 25 جويلية/يوليو 2021. مسألة الإشاعات والأخبار الزائفة من المفترض، وبحكم طبيعتها، خارج المجال التجريمي للجريمة الاتصالية، ولذلك لم يتعرّض مشروع حكومة الصيد عام 2015 لها، بيد أن سعيّد أقحمها إقحامًا في مرسوم جرائم الاتصالات، وغايته معلومة. هكذا مرسوم مع نيابة عمومية خاضعة لتعليمات رئيس الدولة ووزيرة العدل، بعد الهجمة على السلطة القضائية وتحويل القضاء من سلطة إلى وظيفة وحرمان القاضي من أبسط ضمانات الاستقلالية، يعني أن الفترة المقبلة ستشهد إحالات بالجملة على القضاء الذي يشهد محنة في مواجهة رئيس لا يعترف إلا بسلطته في البلاد. 

بالنهاية سعيّد يؤكد أنه بصدد بناء نظام تسلّطي، فليس دستوره الذي كتبه لوحده في غرفة مغلقة، والذي تضمّن تأسيسًا لنظام رئاسوي وإضعاف مبدأ التوازن بين السلط بل إعدامه، إلا البداية، ومن ثمّ تأتي التشريعات لتأمين هذه التسلطية بعصا منطق قوة الدولة. بالنهاية أن يكون قانون الإرهاب زمن الديمقراطية الناشئة، رغم مرضها وقتذاك، أكثر ضمانات من مرسوم صدر زمن "الديمقراطية الحقيقية" و"الجمهورية الجديدة" كما أورد سعيّد في توطئة دستوره الشخصي، فذلك ليس إلا تلخيصًا مبسّطًا لما كان وما سيكون في البلد على مقياس سلّم الحقوق والحريات، على الأقل على المستوى التشريعي البحت.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"