بعد نصف قرن من فضيحة "ووترغيت"، أطلق "إدوارد سنودن" جرس الإنذار لأكبر عملية تجسس مفتوحة في التاريخ. يوم 6 جوان/ يونيو 2013، سرّب "سنودن" مجموعة من الوثائق حول مشروع "بريزم Prism"، برنامج تجسس على الانترنات، تستغله وكالة الأمن الوطني الأمريكية، بالإضافة إلى برامج تجسس أخرى مثل "تومبروا Tempora" الذي تستعمله الحكومة البريطانية حسبما جاء في الوثائق المسربة.
منذ أيام "سان تزو" -صاحب كتاب فن الحرب- وحتّى أيامنا هذه، وفضيحة برنامج بيغاسوس الأخيرة، شكّل التجسس وما تخفيه سرائر الناس، رعايا أو مواطنين، هاجس السلطات ومطلبها، بل إكسير ديمومتها الذي تبرره الحكومات عادة بالـ "المصلحة العليا للوطن".
طالما شكّل التجسس وما تخفيه سرائر الناس هاجس السلطات ومطلبها، بل إكسير ديمومتها الذي تبرره الحكومات عادة بالـ "المصلحة العليا للوطن"
نُشر مؤخرًا بالرائد الرسمي المرسوم 54 المتعلّق بـ "بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال" الذي يبدو في ظاهره، ومن المفترض، وكما يدل عنوانه، كنص تشريعي حول تنظيم محتوى أنظمة التواصل مما شابها طيلة سنوات من أخبار زائفة، وإشاعات وثلب.. إلى غير ذلك من التجاوزات الإلكترونية.
وكأن السلطة جُبلت على دس السم في الدسم، فقد وردت بالمرسوم عدة فصول أثارت ردود فعل وانتقادات من قبل عدة جهات: حقوقية، سياسية ونقابية واجتماعية. فما هي هذه الفصول وما هي الخطورة التي تمثلها؟ وما مدى تماهي المرسوم مع التشريعات والمواثيق الدولية؟ وما هو تأثير مثل هذه المراسيم على يومي المواطنين؟ نجيب عن هذه الأسئلة وغيرها في التقرير التالي.
زينة الماجري (صحفية) لـ"الترا تونس": من بين أخطاء المرسوم 54، عدم إمكانية إثبات تعمّد نشر الأخبار الزائفة التي تكون عادة في شكل حملات مضللة
- السياق.. مرسوم تحت الطلب الأجنبي
سنة 2004، دخلت معاهدة بودابست لمكافحة الجرائم المعلوماتية حيز التنفيذ، تحت إشراف مجلس أوروبا conseil de l’Europe بمناسبة المؤتمر الدولي حول الجريمة الإلكترونية، وصادقت عليها 65 دولة كالدنمارك، تركيا وأيسلندا.. وتتناول المعاهدة في نصها، تمامًا كما ورد بالمرسوم 54، جملة من المفاهيم والتعاريف الاصطلاحية كتعريف نظام الاتصال والحامل الرقمي، فيما تتعرّض إلى ضوابط الاستخدام وحدود تدخل الحكومات وتحديد عام لما يسمى بالجريمة الإلكترونية كالقرصنة، مع ضمان الحقوق الرقمية للمستخدمين كالحقوق المتعلّقة باحترام الخصوصية الواردة بديباجة المعاهدة، مع التنصيص على ضرورة ملائمة التشريعات الداخلية للدول مع المعاهدة وكذلك مع ما سبقها من معاهدات واتفاقيات تحمي الحقوق المدنية والسياسية للأفراد كالحق في التعبير وحرية الصحافة.
"هذا المرسوم لم يشر لا إلى المعاهدة والإطار الذي سُنّت عبره، فضلًا عن أنه يتعارض مع ما جاء في الفصل 30 من الدستور القائم، والذي ينص على واجب الدولة في حماية حرمة الأفراد". هكذا صرّحت لـ"الترا تونس"، الصحفية زينة الماجري مؤسسة موقع "فالصو" لمكافحة الأخبار الزائفة. تضيف: "هناك العديد من الأخطاء التقنية في القانون، فلا يمكن إثبات تعمّد نشر خبر زائف، على الأقل بالنسبة للصحفيين، فالخبر الزائف هو خطأ فردي قد يرتكبه أي صحفي، أما عن تعمّد نشر الأخبار الزائفة والتي تكون عادة في شكل حملات تقف وراءها مؤسسات وشبكات، عندها يصبح الأمر تضليلًا أو تلاعبًا بالمعلومة".
يتسم مسار إصدار المرسوم بالتعتيم والغموض، إذ يعود نص المرسوم، حسب بيان مجموعة من المنظمات الحقوقية، إلى سنة 2015، ثم صادقه كمشروع مجلس الوزراء في غرة ماي/ أيار 2018، وصولًا إلى تاريخ نشره رسميًا يوم 13 من الشهر الجاري. للإشارة، بادرت الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر سنة 2019 بقرار صياغة المعاهدة الدولية لمكافحة جرائم الانترنات، ولا تزال النقاشات دائرة حول الصياغة إلى حدود صائفة 2022، وهو ما حث كثيرًا من الدول على غرار الولايات المتحدة، المغرب، إلى سن تشريعات تتلاءم والإطار الدولي.
أسماء سلايمية (محامية وباحثة) لـ"الترا تونس": الحكومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تستغل السياق الدولي للزج بالتهم المتعلقة بالثلب ونشر الإشاعات في تشريعاتها المتعلقة بالجرائم الإلكترونية
في تصريحها لـ"الترا تونس"، لا ترى المحامية والباحثة أسماء سلايمية أن المرسوم يتعارض في المطلق مع التشريعات الدولية ومعاهدة بودابست بالخصوص. "عند التدقيق، نجد أن تونس، على غرار عديد من البلدان، اعتمدت نفس الوصفة لمجلس أوروبا في معاهدة بودابست، إلا أن الحكومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بصفة خاصة، تستغل السياق الدولي ومثل هذه المعاهدات للزج بالتهم المتعلقة بالثلب ونشر الإشاعات في تشريعاتها المتعلقة بالجرائم الإلكترونية"، وفقها.
- المصلحة العامة.. غطاء لكل انتهاك
"الأخ الأكبر يقوم بمراقبتك!" هذا ما يتدابر لذهن كل من قرأ خالدة "جورج أورويل" 1984 التي روى فيها دستوبيا الدولة التسلطية وعملية المراقبة المعمقة والواسعة لكل ساكني "أوصينيا Oceania"، التي تعيش أجواء حرب باردة مع كل من "أورازيا" و"أيستازيا"، حسب متن الرواية، وهو ما يبرر به الحزب الحاكم سياسته الأمنية وعملية المراقبة الشاملة التي يقوم بها.
"الأمن العام والدفاع الوطني وبث الرعب بين السكان"، بهذه المفاهيم الفضفاضة، والقابلة للتكييف الواسع والتوجيه، حددت السلطة السياسية، ممثلة في رئيس الجمهورية قيس سعيّد، دواعي المرسوم والفصول الردعية المضمنة به.
"الأمن العام والدفاع الوطني وبث الرعب بين السكان"، بهذه المفاهيم الفضفاضة، والقابلة للتكييف الواسع والتوجيه، حددت السلطة السياسية دواعي المرسوم والفصول الردعية المضمنة به
يتقاطع مختصو القانون والعلوم السياسية حول أن تونس تعاني من تخمة أو تضخم تشريعي، وليس المرسوم 54 سوى مواصلة في نهج "النص على النص". ففيما يتعلق بالثلب والشتم على مواقع التواصل الاجتماعي، هناك أكثر من نص تشريعي تناول هذه الجرائم: الفصل 86 من مجلة الاتصالات الذي ينص على "جريمة الإساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصال"، والذي اعتمده كاتب عام نقابة الأمن الداخلي بصفاقس لتقديم شكاية ضد الناشطة الحقوقية مريم بريبري التي تمثل الأربعاء 28 سبتمبر/ أيلول أمام محكمة الاستئناف بصفاقس، على خلفية نشرها لفيديو يوثق تعرّض مواطن في جهة نابل للاعتداء من قبل ما ظهر وكأنهم أعوان أمن.
كما تناول المرسومان 115 و116 اللذان ينظمان قطاع الصحافة، الجرائم المتعلقة بالإساءة للغير، بالإضافة إلى الفصل 198 من المجلة الجزائية وفصول أخرى مختلفة، وخاصة المتعلقة بموظفي الدولة، والتهمة الشهيرة "هضم جانب موظف عمومي"، التي كانت مطية في أكثر من حالة، لمحاكمة نشطاء قاموا بنشر تدوينات ومقاطع فيديو تعرض شبهة فساد بعض موظفي الدولة. "هذا المرسوم هو حق أريد به باطل"، هكذا قالت الصحفية والناشطة زينة الماجري في تصريحها لـ"الترا تونس".
من جهتها، أشارت الباحثة مريم سلايمية إلى عدة إشكاليات قانونية يطرحها المرسوم، كعملية التنصت التي يحددها قانون الإرهاب بـ 4 أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة، فيما لم يضع المرسوم حدًا لعملية اعتراض الاتصال. تقول: "غريب أن تطلب السلطة من مزودي خدمات الاتصال الاحتفاظ ببيانات سنتين على الأقل، فيما الأجدر أن تكون المدة محددة بسنتين. هذا دون أن ننسى طلب الحفاظ على البيانات الجغرافية للاتصال".
تعد الشفافية من بين أول قواعد مقاومة التضليل والأخبار الزائفة، لكن النهج الذي تعتمده السلطة الحالية في تونس القائم على التعتيم، لا يمكن إلا أن يكثف اللغط
للإشارة، وبعد تحقيقها للمرتبة 72 سنة 2020، تراجعت تونس إلى المرتبة 94 في مؤشر الصحافة لسنة 2022، فيما كان ورد بتقرير منظمة صحافيون بلا حدود، بسبب تنامي القلق بعد الاستيلاء على السلطة المطلق في تونس منذ 25 جويلية/ يوليو 2021. فيما تتالت الاعتداءات على الصحفيين منذ ذلك التاريخ، وهو ما توثقه بيانات نقابة الصحفيين التونسيين، خاصة وأنّ المرسوم أثار فور صدوره الكثير من الجدل وسط دعوات لمراجعته.
بديهيًا، تعد الشفافية من بين أول قواعد مقاومة التضليل والأخبار الزائفة، وعلى السلط السياسية أساسًا أن تبادر بالخطاب وتوفير المعلومة للمواطن بدرجة أولى حتى تقلل قدر الإمكان من حملات التضليل والأخبار الزائفة التي تكون أخطاء يقع ضحيتها عادة أفراد لم تتوفر لهم المعلومة الدقيقة من أصحابها. إلا أن النهج الذي تعتمده السلط الحالية، رئاسة وحكومة، والقائم على التعتيم أو الـ"Black-out"، والعبارة لنقيب الصحافيين مهدي الجلاصي الذي اعتبر أنها سياسة ممنهجة، لا يمكن إلا أن تكثف اللغط وسط الأجواء الساخنة والأزمة المركبة التي تمر بها البلاد.