لا شكّ أنّ طفلًا صغيًرا سيطلّ عليك وأنت جالس في مقهى في شارع الحبيب بورقيبة ليعرض عليك بضاعته البسيطة سواء كانت وردًا أو علكة أو محارم ورقيّة. وما إن يتركك هذا الصغير حتّى يتقدّم إليك غيره في سلسلة متواصلة من العروض من الأطفال الباعة.
ولنا أن نتساءل أمام ظاهرة عمالة الأطفال التي باتت تنتشر بشكل مروّع في شوارع تونس العاصمة وحتى في بقية المدن والأرياف التونسيّة عن مدى زجر وردع القوانين الحالية التي تهتم بحماية الطفل وعن مدى فاعليّتها على أرض الواقع؟
اقرأ/ي أيضًا: بائع الورد الصغير.. طفل يبيع الحب ويشتري "الموت"
إن الطفل، في البداية وبالعودة إلى المفهوم التشريعي، هو كل إنسان عمره أقل من ثمانية عشر عاما، ما لم يبلغ سن الرشد بمقتضى أحكام خاصة، وذلك وفق الفصل 3 من مجلة حماية الطفل: وعليه فإنّ الطفل هو الشخص الذي تنفى عنه صفة الرّشد مما يؤثر في أهليته وبالتالي في تصرفاته القانونية. وسن الرشد في القانون التونسي هو 18 سنة كاملة وفق مجلة الأحوال الشخصيّة.
وقد أقر القانون للحاكم أي للقاضي إمكانية ترشيد الصغير ترشيدًا مقيّدًا أو مطلقًا، كما يمكن لهذا الأخير الرجوع في هذا الترشيد إذا قام لديه موجب في ذلك وعليه تكون "تصرفات المرشد تكون نافذة صحيحة في حدود ترشيده". ومن الشروط الأساسية للترشيد هو بلوغ الطفل الخمسة عشر سنة.
وفي سياق الحديث عن تحديد السن التي يتأهّل بها الطفل لممارسة التصرفات القانونية بصورة مستقلة، يقرّ في المقابل الفصل 58 من مجلة الشغل على أنه: "لا يجوز أن يقل عن ثمانية عشر عاماً السنّ الأدنى للقبول في أيّ نوع من أنواع الأعمال التي يمكن بحكم طبيعتها أو الظروف التي يقع القيام بها أن تعرّض صحة أو سلامة أو أخلاق الأطفال للخطر. وتحدّد أنواع الأعمال المشار إليها بقرار من الوزير المكلف بالشؤون الاجتماعية، يتخذ بعد استشارة المنظمات المهنية لأصحاب العمل والعمال الأكثر تمثيلاً".
يعمد بعض الأولياء إلى تشغيل أبنائهم في التجارة بتعلّة أنها لا تعرّض صحة الطفل ولا سلامته الجسدية أو المعنوية للخطر وذلك على غرار الأشغال الموسمية
ووفقًا لهذا الفصل فإن الأعمال التي تنتفي فيها شروط التعرض للسلامة والخطر هي أعمال مشروعة ويمكن للطفل ممارستها بكل حريّة. ولكن تأويل هذه الشروط يبقى واسعًا حيث يستطيع بعض الأولياء تشغيل أبنائهم في التجارة بتعلّة أنها لا تعرّض صحة الطفل ولا سلامته الجسدية أو المعنوية للخطر على غرار الأشغال الموسمية التي لا تؤثر في المسيرة الدراسية للطفل. ولكن يستند بعض شراح القانون على على نفس الفصل لإقصاء هذا النوع من الأعمال. وعليه فإن الفصل 58 بتحديده للأعمال التي يمكن أن يزاولها الطفل ينفي وجود أيّ سن دنيا للعمل في تونس، بل إنه توجد بنود قانونية تقرّ بمشروعية عمل الأطفال على النحو المذكور.
في الأثناء، ينص الفصل 55 من مجلة الشغل على "تخفيض سنّ قبول الأطفال في العمل إلى ثلاثة عشر عاماً في الأعمال الفلاحية الخفيفة التي لا تضرّ بصحتهم ونموّهم، ولا تمس بمواظبتهم وقدراتهم على الدراسة، ومشاركتهم فـي برامج التوجيه أو التكوين المهني المصادق عليه من قبل السلط العمومية المختصة". كما ينصّ قانون عمال المنازل المنقّح سنة 2005 على تشغيل الأطفال ما بين سن 16 و18 سنة. وليست هذه القوانين إلا تشريعًا لتشغيل الأطفال مما سبب تفاقم هذه الظاهرة أمام انتقادات كثيرة لهذه الثغرات القانونية وهشاشة النصوص التشريعية.
بعض القوانين تُشرع لتشغيل الأطفال مما سبب تفاقم هذه الظاهرة أمام انتقادات كثيرة لهذه الثغرات القانونية وهشاشة النصوص التشريعية
اقرأ/ي أيضًا: الاستغلال الاقتصادي.. آفة الطفولة في تونس
وقد حاول المشرع التونسي بعد الثورة العمل على تحسين وضعية الطفل العامل عبر ترسانة من التشريعات لعلّ أهمها قانون الاتجار بالبشر الصادر في 3 أوت/أغسطس 2016 والذي أقر بمنع "الاستغلال الاقتصادي أو الجنسي للأطفال بمناسبة تشغيلهم" ولكن دون عرض لوضعيات مفصّلة. كما أقر القانون المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة الصادر في 11 أوت/أغسطس 2017 في الفصل 20 بأنه:"يعاقب بالسجن من 3 أشهر إلى 6 أشهر وبخطية من ألفي دينار إلى خمسة آلاف دينار كل من يتعمد تشغيل الاطفال كعملة منازل بصفة مباشرة أو غير مباشرة. يسلط نفس العقاب المذكور بالفقرة المتقدمة على كل من يتوسّط لتشغيل الاطفال كعملة منازل".
ولكن هذه القوانين تظلّ غير كافية لوقف النزيف المتواصل لعمالة الأطفال. إذ وفقًا للمسح الوطني الذي أعدّه معهد الإحصاء ووزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمة العمل الدولية في أواخر سنة 2017 يبلغ عدد الأطفال الناشطين اقتصاديًا أكثر من 215 ألف طفل. وأكدت الدراسة أنّ 136 ألفاً من بين هؤلاء الأطفال يعملون في أعمال خطيرة.
وبحسب وزارة الشؤون الاجتماعية، فإنّ نحو 50 في المائة من نسبة الأطفال يعملون في الأعمال الفلاحية، في حين يعمل نحو 20 في المائة منهم في التجارة، وتتوزع بقية النسب على بعض الأعمال الحرّة والحرف وغيرها. وقد أكدت دراسة أعدّتها جمعية النساء التونسيات من أجل التنمية في عام 2016، أنّ هناك نحو 78 ألف معينة منزلية في تونس 17.8 في المائة منهن طفلات.
دراسة أعدّتها جمعية النساء التونسيات من أجل التنمية في عام 2016 تتحدث عن نحو 78 ألف معينة منزلية في تونس 17.8 في المائة منهن طفلات
وبخصوص تفشي هذه الظاهرة، وردًا على الانتقادات التي توجه إلى مجلس النواب بشأن تقصيره في وضع ترسانة قانونية رادعة لعمل الأطفال ومعززة لحمايتهم الشاملة، صرحت عضوة لجنة شؤون المرأة والطفولة والشباب والمسنين بالبرلمان بشرى بالحاج حميدة في وقت سابق أن "القوانين التونسية قادرة على مكافحة عمالة الأطفال على غرار مجلة حماية الطفل".
ولكن الأستاذ المحاضر في قانون الشغل بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس حاتم قطران يعارض هذا الرأي مشدّدًا على ضرورة تعزيز حماية الطفل بعدم وضع استثناءات قانونية في مجال الشغل، وبإنشاء رقابة صارمة على الإخلالات التي تنتهك حقوق الطفل، إضافة إلى وضع آليات واضحة للتبليغ عن شغل الأطفال والتي لا نجد منها شيئًا في الوقت الراهن، وفق تقديره.
اقرأ/ي أيضًا:
التونسيّات يهجرن وسائل منع الحمل.. الرجوع إلى الطبيعة؟