11-يناير-2023
العياشي الهمامي

مقال رأي 

 

العياشي الهمامي ليس مجرّد شخصية حقوقية، هو أيقونة بما تحمله الكلمة من معنى، وبما تحمله سيرته وتجربته من تكثيف للنشاط الحقوقي ضد الاستبداد والدفاع عن الحقوق والحريات طيلة العقود الأخيرة، قبل الثورة وبعدها.

العياشي الهمامي ليس مجرّد شخصية حقوقية، هو أيقونة بما تحمله سيرته وتجربته من تكثيف للنشاط الحقوقي ضد الاستبداد والدفاع عن الحقوق والحريات طيلة العقود الأخيرة قبل الثورة وبعدها

لم يكن إضراب جوع 18 أكتوبر/تشرين الأول 2005 بمكتبه حيث يمارس المحاماة رسالة لا مهنة، والذي انخرطت فيه ثماني شخصيات من تيارات أيدولوجية مختلفة وحّدها النضال ضد نظام بن علي، إلا عنوانًا مؤسسًا للحركة الحقوقية في العقد الأول من الألفية، وخاصة بما تضمّنت هذه المحطة من نقاشات تأسيسية لاحقة يسّرت التوافقات بين الأحزاب السياسية في صياغة دستور 2014. ظلّ العياشي في الأثناء شخصية مرجعية بقدر لم تتورّط في السياسوية والمصلحية بعد الثورة، فهي لم تنعزل عن اتخاذ المواقف المبدئية في اللحظات الحاسمة.

 

 

بعد انقلاب قيس سعيّد عن المسار الديمقراطي، وتبيّن انحرافاته المهدّدة للمكتسبات الحقوقية، استدعت اللحظة العياشي الهمامي الذي لم يفقد من وهج شبابه ومثابرة الماضي شيئًا وهو يتصدّى لعبث السلطة الحالية: أسّس عام 2022 الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية صحبة ثلة من الشخصيات الحقوقية، كما يقود هيئة الدفاع عن استقلالية القضاء والقضاة المعفيين. 

أصبح العياشي الهمامي صوتًا مزعجًا لرئيس الدولة ووزيرة العدل خاصة وأنه يكشف بموضوعية وبخطاب واضح الحقائق الثابتة في مظلمة ملف القضاة المعفيين ويعرّي أكاذيب السلطة في تبرير جورها عبر فبركتها لملفات قضائية

أصبح العياشي بذلك صوتًا مزعجًا لرئيس الدولة ولكاتبته للعدل ليلى الجفال، خاصة وأن العياشي الحقوقي يكشف بموضوعية وبخطاب واضح الحقائق الثابتة في مظلمة ملف القضاة المعفيين ويعرّي أكاذيب السلطة في تبرير استمرار جورها عبر فبركتها لملفات قضائية. ولم تخجل هذه السلطة من أن تفبرك ملفًا قضائيًا يستهدف، هذه المرة، لسان الدفاع في شخص الهمامي نفسه مستخدمة عصا المرسوم عدد 54 لسنة 2022 الذي وضعه سعيّد لضرب حرية الرأي والتعبير واستهداف النشطاء الحقوقيين.

 

 

غاية وزيرة العدل من استهداف العياشي الهمامي، وإن بطريقة متهافتة يستلزم واجب احترام سرية التحقيق عدم التعرض لتفاصيلها، هو استهداف للمحاماة ولقيمها، ذلك أن الهمامي الذي تناول في تصريح إعلامي مظلمة القضاة لم يتحدث أساسًا إلا بصفته محاميًا ومنسقًا لهيئة الدفاع عن قضاة تحصلوا على أحكام قضائية بإيقاف التنفيذ من المحكمة الإدارية ولكن السلطة ترفض تنفيذها بما يعكس ازدواجية خطاب سعيّد حول تنفيذ أحكام القضاء. يأتي استهداف المحاماة بالخصوص في الوقت الذي يواجه عديد المحامين الحقوقيين، كل يوم داخل المحاكم وخارجها، لحالة أقرب من الجنون لسلطة اتخذت من الجور مذهبًا واستعمال وسائل الدولة آلية لتحقيق مآربها، وهي التي تعامل القضاء كمجرّد وظيفة لا سلطة مستقلّة.

في جلسة التحقيق مع العياشي الهمامي أعلن نحو 200 محام من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار نيابتهم.. محامون تجمّعوا حول العياشي الهمامي، الشخصية الحقوقية الجامعة التي لا تميّز في مواقفها حسب الأيديولوجيا

في مشهد جلسة التحقيق مع العياشي، أعلن نحو مائتي محام نيابتهم يتقدمهم عميد المحامين، بيد أن الأهم هو أن مشهد المحامين النائبين متنوّع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، محامون يصعب تصوّر نيابتهم جمعًا في ملف واحد، ولكنها تجمّعت حول العياشي الهمامي، الشخصية الحقوقية الجامعة المبدئية التي لا تميّز في مواقفها حسب الأيديولوجيا. لم يكن الملف القضائي التافه يستدعي، صناعيًا، هذا الكمّ من النيابات قطعًا، باعتبار أن محامي سنة أولى يستطيع نسف الملف المتهافت، ولكن تجمّع هؤلاء المحامين غايته كانت توجيه رسالة واضحة ومضمونة الوصول للسلطة الحالية: إن عدتم عدنا.

 

 

يوم 10 جانفي/يناير 2023 كان يومًا من أيام المحاماة المناضلة التي تدافع عن الحقوق والحريات وتشارك في إقامة العدل، وهي مهمّة تكليف لا تنتفي بتخلّي سعيّد عن دسترة المحاماة في دستوره الخاصّ، الذي كتبه لنفسه بنفسه. لذلك لم يشهد قصر العدالة جلسة تحقيق مع العياشي الهمامي، بل كانت جلسة محاكمة للسلطة الحالية لانحرافاتها التي لا تكاد تُحصى ولا تعدّ لمبادئ حقوق الإنسان وللمكتسبات الديمقراطية. وقد شهدت جلسة التحقيق حضور المحامي الفرنسي مارتان برادال ممثلًا عن المجلس الوطني للمحامين بفرنسا، لتزيد السلطة تشويه صورة البلد وتعيدنا لماضي التضامن الحقوقي الدولي الذي خلنا أننا طويناه.

لم يشهد قصر العدالة جلسة تحقيق مع العياشي الهمامي بل كانت جلسة محاكمة للسلطة الحالية لانحرافاتها التي لا تكاد تُحصى ولا تعدّ لمبادئ حقوق الإنسان وللمكتسبات الديمقراطية

بالنهاية، فبركة ملف قضائي ضد العياشي هو إما نتيجة سوء تقدير أو جسّ نبض، فالحالة الأولى تعني أن السلطة ذهبت في خطوة غبيّة جديدة لتؤكد أنها سلطة منحرفة ولتعزّز جبهة معارضتها بل لتدفع ضمنيًا لتوحيد معارضيها، وأما الحالة الثانية فتعني أن السلطة تسعى باستهداف العياشي لجسّ نبض الحراك الحقوقي بالبلاد وبث الرعب في نفوس المعارضين قبل الإقدام على خطوات أخرى لنسف ما تبقى من المكتسبات الحقوقية والإجهاز على "المناوئين". 

ومهما كان مبعث السلطة، فالنتيجة سيّان وهي أن من يشرف على إدارة الدولة اليوم هو أصغر من أن يلجم أفواه من كان بن علي، بجبروت نظامه وسطوته، يخشى أصواتهم الحرّة. يذكرني في هذا الموضع كلمة ألقاها العياشي أمام قصر العدالة أمام جمع من الحقوقيين والصحفيين: "نحن لم نخف حينما كان هو خائفًا!".

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"