06-مارس-2018

قانون المصالحة الذي قدّمه رئيس الجمهورية يتعارض مع أحكام الدستور (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

في تونس، توجد أحكام دستورية لم يتمّ تفعيلها بعد، ولكن الأكثر سوءًا هو وجود أحكام لم يقع تطبيقها بل وقع خرقها، ولعلّ أكثر هذه الأحكام تبيّنًا هو ما ورد في الفقرة 9 من الفصل 148 من الدستور بإلزام الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في كل مجالاتها. حيث بمراجعة ما يزيد عن أربع سنوات منذ إقرار قانون العدالة الانتقالية، تظهر الدولة، وتحديدًا السلطات السيادية وأغلب الأجهزة التنفيذية، مستقيلة عن دورها في تنفيذ مسار العدالة الانتقالية، بل تظهر معادية له بشكل يستهدف هذا المسار. فماهي مؤشرات الدور السلبي للدّولة، وبما يمكن تفسيره؟

اقرأ/ي أيضًا: المصادقة على قانون المصالحة بتونس.. خطوة للوراء في معركة لم تنته

حادثة الأرشيف الرئاسي، البداية الأمينة

لم تكن حقيقة حادثة الأرشيف الرئاسي نهاية كانون الأول/ديسمبر 2014، والتي تمثلت في منع أعوان من الأمن الرئاسي لهيئة الحقيقة والكرامة، الناشئة بموجب قانون العدالة الانتقالية، من الحصول على الأرشيف رغم وجود اتفاق كتابي مسبق بين الهيئة والديوان الرئاسي حينها، إلا الإشارة الأولى لمشوار السنوات اللاحقة من المتاعب التي تواجه هذه الهيئة في القيام بمهامها من طرف أجهزة الدولة. والبعد الأكثر رمزية في تلك الحادثة الشهيرة ليس في خرق المؤسسة الرسمية للقانون وقتها بل في تمرّد أعوان من الأمن الرئاسي على هذه المؤسسة، أي رئاسة الجمهورية، ليأتي الحديث عن الدولة العميقة التي تمارس السّلطة في الخفاء. وهي دولة الاستبداد والفساد التي جاءت العدالة الانتقالية لتفكيكها وإصلاح مؤسساتها، ولكن لازالت هذه الدولة المنتشرة كالأخطبوط، أجهزة وأشخاصًا، تقاوم في مواجهة مسار اختاره التونسيون لتسوية إرث الماضي بعيدًا عن نزعة التشفّي والانتقام.

تعمل الدولة العميقة في تونس على تعطيل مسار العدالة الانتقالية لأنها تخشى كشف الحقيقة

كشفت تلك الحادثة، التي وقعت زمن التسلم والتسليم بين الرئيس السابق المنصف المرزوقي والرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، عن تموقع كل طرف من مسار العدالة الانتقالية، وتحديدًا الفاعل السياسي وكذلك الإعلامي، حيث لا يزال يصعب تناسي اصطفاف جزء كبير من وسائل الاعلام ضدّ ممارسة هيئة الحقيقة والكرامة لحقها في تسلم الأرشيف بمسميّات مهما اختلفت وتلوّنت، اجتمعت في نهاية المطاف على رفض هذه المؤسسات، التي تخشى كشف الحقيقة وهي المتورطة في منظومة الاستبداد والفساد، لمسار لا تبدو الحاجة بالنسبة إليها إلا لتجاوزه وتهميشه وإفشاله.

حيث تبيّن ما كشفته السنوات المتتالية طيلة عهدة الهيئة، عن مدى غياب الإرادة السياسية في تنفيذ مسار يُنظر إليه في فلسفته بأنه الخيار الوحيد الممكن للمرور من زمن الشرخ المجتمعي والجروح المتوراثة طيلة عقود إلى زمن المصالحة والوئام الوطني. بذلك كانت حادثة الأرشيف الرئاسي بداية أمينة وإشارة مباشرة لتعاطي جزء واسع من أجهزة الدولة مع ملفّ العدالة الانتقالية.

اقرأ/ي أيضًا: الحقيقة والكرامة.. تونسيون يواجهون انتهاكات الماضي

الأرشيف الأسود أو الصندوق الممنوع

اطّلع من صاغوا قانون العدالة الانتقالية على التجارب المقارنة التي لم يكن أرشيف الاستبداد إلا وقود عمل لجان الحقيقة فيها، وانكشفت أن إحدى تحديات نجاح مسار العدالة الانتقالية هو الحصول على كل وثيقة مهما كانت أهميتها من زمن الاستبداد من أجل كشف الحقيقة، ليس لأن الحقيقة ثورية فقط، كما تتغنى أدبيات اليسار، بل لأن الحقيقة هي الشرط الجوهري لإتمام مختلف بقية الآليات المترابطة بحكم طبيعتها في العدالة الانتقالية. دون كشف للحقيقة، لا يمكن حفظ الذاكرة الوطنية، ولا يمكن تفكيك منظومة الفساد والاستبداد بهدف فهمها واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم التكرار، ولا يمكن المساءلة، ولا يمكن تحديد الضحايا وجبر ضررهم، ولا يمكن نهاية تحقيق العدالة والسلم الاجتماعية، مادامت ستظلّ الحقائق المخفية كالرماد تحت التراب.

من أجل ذلك، منح قانون العدالة الانتقالية لهيئة الحقيقة والكرامة صلاحيات استثنائية للنفاذ للأرشيف دون أي قيد أو شرط، ويشمل الاطلاع الأحكام القضائية بما في ذلك المنشورة، بيد أن هذه الصلاحيات ظلت في حقيقتها غير نافذة في ظلّ عدم تجاوب جزء كبير من مؤسسات الدولة مع طلبات النفاذ، والتي لا تكلف نفسها أحيانًا حتى عناء الإجابة وتبرير رفضها. ومن بين أهم الأرشيفات التي لم تتمكن بعد هيئة الحقيقة والكرامة من النفاذ إليها هو أرشيف وزارة الداخلية وتحديدًا أرشيف البوليس السياسي الشّاهد على جرائم نظام الاستبداد طيلة عقود.

ترفض وزارة الداخلية في تونس السّماح بالنفاذ لأرشيف البوليس السياسي الشّاهد على جرائم نظام الاستبداد طيلة عقود

قبل نحو ثلاث سنوات، زار تونس الرئيس الألماني السابق يواخيم غاوك، الذي ترأس بعد سقوط ألمانيا الشرقية اللجنة المختصة المكلّفة بالإشراف على حل وزارة أمن الدولة، أو البوليس السياسي الألماني (الستازي)، والتقى بأعضاء من هيئة الحقيقة والكرامة كذلك بصفته كخبير دولي في حفظ الذاكرة. وقال حول أهمية الأرشيف إنّ "كل جهة تودّ الاحتفاظ باحتكار المعلومة هي في الحقيقة ترغب في إعادة إنتاج النظام الاستبدادي وليست القطيعة معه"، ولعلّها تكشف هذه الجملة المكثّفة بوضوح عن مخاطر استمرار أجهزة الأمن في تونس تجنب فتح أرشيفها وتمريره على منظار العدالة الانتقالية.

اقرأ/ي أيضًا: انتهاكات تونس.. المقاومة مستمرّة لكشف الحقيقة ومنع الإفلات من العقاب

ولكن حقيقة لم ينحصر منع الأرشيف على الأجهزة الأمنية بل امتد للجهاز القضائي المكلّف بتطبيق القانون لا غير، وذلك على غرار القضاء العسكري، الذي يتولى النظر في قضايا أحداث الثورة، وكذلك القطب القضائي المالي، الذي يتولى النظر في قضايا الفساد المالي. ينصّ قانون العدالة الانتقالية صراحة على حق الهيئة في الاطلاع على القضايا المنشورة أمام المحكمة، ولكن، يظلّ هذا الحق غير نافذ. ولا غريب أن انكفاء السلطة التنفيذية على المساهمة في تنفيذ مسار العدالة الانتقالية شجع بعض السلط القضائية كذلك على عدم تطبيقها لنص قانوني يبدو واضحًا وصريحًا لا يحتاج لتأويل ينتهي بحجب الحقيقة.

قال الرئيس الألماني السابق يواخيم غوك حين زيارته لتونس إن: "كل جهة تودّ الاحتفاظ باحتكار المعلومة هي في الحقيقة ترغب في إعادة انتاج النظام الاستبدادي وليست القطيعة معه"

بيد أن الأمر لا يقتصر فقط على منع النفاذ للأرشيف حيث امتنعت عدد من مؤسسات الدولة، بما فيها إدارات ومحافظات وليس فقط وزارات، على مجرد تعمير استمارة لمسح مواقع حفظ الأرشيف، وهو ما يكشف، خلاصةً، عن مدى التعاطي السلبي مع طلب المعلومة لدى هذه المؤسسات، وذلك من مخلفات دولة الاستبداد المعادية بحكم تركيبتها لطرح المعلومات النافذة والفضاء المفتوح. فليس غريبًا كذلك أن عديد أجهزة الدولة لم تهضم بعد قانون النفاذ للمعلومة.

مافيا الفساد تقاوم!

إن كانت تجتمع مختلف التجارب الدولية للعدالة الانتقالية في مبادئ عامّة، غير أنّ لكل تجربة خصوصية، وتميّز التصوّر التونسي هو إقحامه الفساد المالي تحت لواء مسار العدالة الانتقالية، وهو اختيار تفسّره طبيعة مركّب الاستبداد حيث مثّلت انتهاكات الفساد رديفًا لانتهاكات حقوق الإنسان. فلم يكن نظام بن علي نظامًا استبداديًا فقط، بل كان كذلك نظامًا مافيوزيًا بامتياز، وليس من قبيل الصّدفة أن تتصدّر الشعارات المناوئة لفساد عائلة المخلوع المظاهرات أيام الحراك الثوري. بحيث يصعب إن لم يستحل الفصل عضويًا بين الانتهاك الحقوقي والفساد المالي، وبالتالي كانت معالجتهما ضمن بوتقة واحدة ضرورة، وهو ما كرّسه قانون العدالة الانتقالية.

بيد أنّ شبكات الفساد التي لازالت متغلغلة في أجهزة الدولة وفي مناخ الأعمال تأبى إخضاع ملفات الفساد المالي تحت مجهر عدالة انتقالية تفترض كشفًا للحقيقة إضافة للمساءلة، وتفكيك منظومة الفساد، وإصلاح المؤسسات، وغربلة الموظفين الفاسدين، إضافة لتوفير ضمانات عدم التكرار.

كشفت شهادة عماد الطرابلسي صهر المخلوع عن حجم الفساد وآلياته زمن الاستبداد

فحينما دخل الرئيس الباجي قائد السّبسي لقصر قرطاج في بداية 2015، وهو المؤّمن على تطبيق الدستور، لم يسع إلا لخرقه بتقديمه لمشروع قانون المصالحة الهادف لتسوية ملفات الفساد المالي خارج إطار العدالة الانتقالية، وبطريقة لا تسمح بتفكيك منظومة الفساد ولا بمحاسبة المسؤولين ولا حتى حصول الدّولة على حقها من مافيات النهب. وقد عارض حينها طيف واسع من التونسيين، إضافة لعديد الأحزاب والمنظمات ذلك المشروع الذي أجمعت القوى المدنية والحقوقية على تبييضه للفساد. بالنهاية، لم يكن المشروع إلا دليلًا ليس فقط على انعدام الإرادة السياسية في معالجة ملفات الفساد وفق شروط العدالة الانتقالية، بل كذلك على السّعي لإبقاء وحماية منظومة الفساد التي نهبت من قوت التونسيين ولازالت. وإن استطاع الائتلاف الحاكم تمرير القانون، وإن بتقليص مجاله ليكون أشبه بعفو عامّ على الإداريين المتورطين في ملفات الفساد، وذلك بعد سنتين من المقاومة الشعبية والمدنية، فإن مسار تفكيك منظومة الفساد يظلّ مستمرًّا وإن بخطوات بطيئة.

اقرأ/ي أيضًا: 5 مؤشرات على عرقلة الرئيس التونسي لمسار العدالة الانتقالية

في هذا الجانب، ومن أبرز مظاهر استقالة الدولة عن واجبتها في تنفيذ مسار العدالة الانتقالية، هو رفضها القبول بآلية التحكيم والمصالحة التي توفّر معالجة منصفة وسريعة لملفات الفساد المالي وتحديدًا في الحالات التي تكون فيها الدولة متضرّرة. حيث يتصف تعامل مؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة بالسلبية، ومن ذلك طلب المكلف العام السابق سنة 2016 التأجيل في زهاء 1000 جلسة تحكيمية، وفق ما تؤكد هيئة الحقيقة والكرامة، وكان طلب التأجيل يتمّ بصفة آلية وذلك بغضّ النّظر عن موضوع الجلسة التحكيمية أو الملفات المطروحة فيها.

ومن باب المفارقة، وذاته من أوجه البؤس، أنّ وزارة الداخلية رفضت كذلك قبول آلية التحكيم والمصالحة في ملفات انتهاكات حقوق الإنسان، وذلك حينما تمدّ الضحيّة يدها للمصالحة مقابل اعتراف الوزارة بأفعالها وتقديم اعتذارها، ولكنها ترفض العرض. تكشف هذه الصّورة بوضوح عن مدى استكبار الدّاخلية في مواجهة آلاف التونسيين من ضحاياها.

لماذا محاربة مسار العدالة الانتقالية؟

إن التعطيلات السّاعية لتعطيل مسار العدالة الانتقالية، والمتاعب التي تلاحق هيئة الحقيقة والكرامة منذ نشأتها، ليست غريبة في الحقيقة وذلك بإلقاء نظرة على ما واجهته لجان الحقيقة في التجارب الدولية، حيث دائما ما تعمل قوى الرّدة على كبح جماح مسار مهمّته القطع مع البيئة التي أنتجت نظام الاستبداد من جذوره، وضرب أدواته بمعاويل أهمّها كشف الحقيقة وحفظ الذاكرة كي تحترس الأجيال القادمة ممّا عاشه الأجداد. وعليه، إن ما كانت محاربة مسار العدالة الانتقالية هي الطّبيعة المنتظرة، فليس السّعي لاحقًا إلا للبحث عن مسوّغات وتبريرات.

دائما ما تعمل قوى الرّدة على تعطيل أعمال لجان الحقيقة في العام وذلك لكبح مسار مهمّته القطع مع البيئة التي أنتجت نظام الاستبداد من جذوره

توجد مسوّغات معلنة ولا يتردّد أصحابها في كشفها منها اعتبار كشف الحقيقة هو زرع للفتن، وأن جبر الضرر للضحايا هو اثقال غير مرغوب على الدولة، وأنّ المساءلة تعكس نزعة تشفي وانتقام، بل لا يرى البعض حرجًا في تبرير الانتهاكات من أصلها فيحدّث مثلا عن ضريبة الصراع السياسي. ولا غرابة أن يأتي الحديث كذلك عن عدم حياد هيئة الحقيقة والاستشهاد بالماضي الحقوقي لأعضائها، والحال أن الحياد المطلوب تجاه الأشخاص وليس تجاه الحقّ ذاته، وتكشف التجارب الدولية أن رؤساء لجان الحقيقة غالبًا هم ضحايا لنظام الاستبداد على غرار ديسموند توتو في جنوب افريقيا، وادريس بن زكري في المغرب.

من جهتها، دائمًا ما تؤكد هيئة الحقيقة والكرامة أنها تتعرّض لحملة إعلامية ممنهجة بإثارة الافتراءات ضدها ومن ذلك الحديث عن فسادها المالي، وتعتبر أن توجيه هذه الاتهامات يستقصد التشكيك في شرعيتها في معالجة ملفات الفساد المالي على وجه التّحديد، وأن الجهات التي تقف وراء هذه الادعاءات هي ذاتها المتضّررة من كشف الحقائق والمحاسبة. وفي هذا السياق، كشفت الهيئة في تقريرها السنوي لسنة 2016، أنها تتعرّض لهجمة تشويهية تتناقض مع أبسط معايير المهنية، حيث بلغ معدّل المقالات المنخرطة في هذه الهجمة 36 مقالًا شهريًا، وارتفع المعدّل ليبلغ 95 مقالاً حين انعقدت أولى جلسات الاستماع العلنية.

رئيسة الهيئة سهام بن سدرين تتحدّث عن حملات التّشويه

وفي الحقيقة، إنّ المسوغات المتداولة للتشكيك في مسار العدالة الانتقالية منشأها أسباب جوهرية محرّكة ربما قد لا يتردّد أصحاب القرار أحيانًا في البوح بها. حيث لا يمكن، في هذا السياق، تجاهل تصريح للرّئيس السبسي سنة 2014 قبيل الانتخابات الرئاسية، حينما قال بإنه حال فوزه بالرئاسة سيعمل على تعديل قانون العدالة الانتقالية، وحلّ هيئة الحقيقة والكرامة باعتبارها "تؤسس لمنطق الانتقام والتشفي"، وذلك في موقف صريح يكشف بوضوح ودون مواربة عن رفض مسار العدالة الانتقالية. إذ توجد قناعة فعلاً لدى الرّئيس السّبسي ولفيف من المنظومة القديمة حوله بأن فتح ملفات الماضي هو خطر على المجتمع والدولة وتهدّد الوحدة الوطنية، ولكن في الواقع بالنسبة إليهم، هو باب يجب غلقه لأن في استتباعاته تهديد للمكانة الحالية وللمشروع السياسي في المستقبل.

إنّ المسوغات المتداولة للتشكيك في مسار العدالة الانتقالية في تونس  منشأها أسباب جوهرية محرّكة ربما قد لا يتردّد أصحاب القرار أحيانًا في البوح بها

كما لا ينظر فريق من المعادين للمسار إلا من زاوية جبر الضّرر وفق معادلة واحدة بواحدة، وذلك في عرض مساومة غير معلن بين قيام الدولة بواجبها في جبر ضرر من انتهكت حقوقهم، مقابل التخلّي عن بقية آليات العدالة الانتقالية وبالخصوص كشف الحقيقة والمحاسبة وإصلاح المؤسسات. وأما حين الحديث عن المصالحة، لا يجد البعض حرجًا في القول بأن التوافق السياسي بين حزبي نداء تونس وحركة النهضة كفيل بغلق باب الماضي باعتبار أن هذا التوافق هو المصالحة الوطنية التاريخية بعينها، وذلك في محاولة تنزيل للنداء كممثّل عن دولة الاستبداد، والنهضة كممثّلة لجزء كبير من الضحايا، وذلك في مغالطة تسعى للقفز على موجبات العدالة الانتقالية، بتعويض شروط المصالحة المنشودة بتوافق سياسي حالي هو هشّ بطبعه، ويقتصر على قيادة الحزبين ولم يُهضم حتى داخل مؤسساتهما، وذلك باعتراف قيادات عليا من النداء والنهضة.

بذلك وسعيًا لكبح جماح تنفيذ مسار العدالة الانتقالية، انسحبت السلطة السياسية من واجباتها المحمولة عليها بحكم الدستور، وقانون العدالة الانتقالية، وقبلها بحكم المسؤولية التاريخية في تضميد جراح الماضي على أسس سليمة من أجل مجتمع موحّد ومتكاتف، ومن أجل دولة تحمي الحقوق وتضمن الحريات.

اقرأ/ي أيضًا: على لسان نشطائها.. ما لا تعرفونه عن "مانيش مسامح" التونسية

الحقيقة السّاطعة والمحاسبة الحقّ

رغم ما يفترضه تحقيق أهداف العدالة الانتقالية من قيام مختلف الأطراف المتداخلة بدورها، يواصل مسار العدالة الانتقالية طريقه رغم المحاولات المستميتة من الدولة العميقة لإفشاله، حيث لا يمكن الحيلولة دون كشف الحقيقة التي تظلّ أقوى من كلّ سعي لقبرها. في هذا الجانب، لعبت جلسات الاستماع العلنية دورًا حيويًا في كشف حقيقة الانتهاكات طيلة نحو ستين سنة من تاريخ تونس، ولم يكن يعرف جزء كبير من التونسيين ما عاشته البلاد من حملات قمع، وبمدى معاناة مواطنين لم يكن ذنبهم إلا معارضتهم لنظام كان يتشدّق بالأمن والأمان. فالحقيقة تنتصر ولو بعد حين.

في هذا الإطار وضمن استبيان أعدته هيئة الحقيقة والكرامة، ينكشف بوضوح أثر هذه الجلسات في تعرية النظام وتوعية التونسيين، حيث عبّر أكثر من 90 بالمائة من التونسيون، عبر عيّنة تمثيلية تم اختيارها تحت إشراف المعهد الوطني للإحصاء، أن جلسات الاستماع غيرت في موقفهم من النظام القديم، وتطوّر الموقف السيء من هذا النظام من 49 إلى 84 بالمائة، وارتفعت تحديدًا نسبة الموقف السيء جدا بنحو ثلاثة أضعاف من 20 بالمائة قبل الجلسات إلى 59 بالمائة بعد الجلسات، وهي نسبة تفسّر سبب مهاجمة قوى الرّدة لهذه الجلسات واتهامها بالفتنة، والحال أن هذه القوى يضيرها كشف الحقيقة.

شهادة سامي براهم في أول جلسة استماع علنية التي كشفت حجم جرائم نظام الأستبداد

في الأثناء، نجحت القوى المعادية حقيقة طيلة سنوات ما بعد الثورة في الحيلولة دون محاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان والفساد المالي، حيث بات الإفلات من العقاب قاعدة سواء بتعطيل آليات المحاسبة الإدارية أو كذلك القضائية بشتّى الوسائل الممكنة. غير أن الملفّات التي لم تُفتح أصلا، أو تلك التي فُتحت وأُغلقت في ظروف مسترابة، أو حتى التي لم يمكن المحاسبة فيها بسبب قواعد القضاء العادي وبالخصوص سقوط الدعوى بمرور الزمن، هي ملفّات تخضع لمسار العدالة الانتقالية السّاعي لتضميد الجراح لا قبرها، ولإعطاء الحقوق لأصحابها ومساءلة المسؤولين، ذلك أن خطاب المصالحة لا يمكن أن يحول دون عقاب أو تحميل للمسؤوليات. حيث يظلّ القضاء المختص في العدالة الانتقالية عبر الدوائر المتخصّصة الأمل المتبقي لتحقيق المحاسبة والمساءلة.

بذلك مهما تكثفت محاولات الدولة العميقة للإجهاز على مسار العدالة الانتقالية، فإن المسيرة مستمرّة من أجل كشف الحقيقة، وحفظ الذاكرة الوطنية، وجبر ضرر الضحايا، والمساءلة، وإصلاح المؤسسات وتوفير ضمانات عدم التكرار للوصول لمصالحة وطنية حقيقية. ولكن حتى ذلك حين، فليتحمّل كل طرف مسؤوليته في حكم التاريخ وأمام الشّعب.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

شهادات ضحايا الانتهاكات بتونس.. قصص الألم والعبر

مأساة العميد كردون.. لما اُغتيل شرف الجيش التونسي!