لم ينفك البعض عن الهمس باتهام وزراء ومسؤولين حكوميين سابقين ومديرين وغيرهم بسرقة أموال تونس، وتمكّنهم من تحويل مبالغ مالية من القروض والهبات التي تحصلت عليها البلاد إلى حساباتهم الشخصية في الداخل والخارج، همس تعززه اتهامات الرئيس التونسي قيس سعيّد "لمن نهبوا تونس" في أغلب خطاباته، ودفعته لإحداث لجنة لجرد القروض والهبات للتثبت من مآلاتها وقد تسلم سعيّد تقرير اللجنة لكم لم ينشره للعموم، الأمر الذي جعل العديد من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني تطالب بنشر التقرير وكشف الحقيقة للرأي العام التونسي.
في هذا التقرير، نحاول تبيان حقيقة هذا الأمر بالاعتماد على آراء مختصين في الاقتصاد والعلوم السياسية. يُذكر أن وزارة المالية التونسية قد أعلنت سابقًا أن الدين العام في تونس قد بلغ 105.7 مليار دينار (35.01 مليار دولار) في نهاية مارس/آذار الماضي بزيادة 8.6 في المائة مقارنة مع الفترة نفسها من عام 2021.
- سوء التصرّف وارد
المختص في الاقتصاد معز حديدان قال في تصريح لـ"الترا تونس"، إن تونس تحصلت على 42.4 مليار دولار من القروض و1.7 مليار دولار من الهبات خلال 10 سنوات، من بينها 17 مليار دولار قروض داخلية و25.4 مليار دولار قروض خارجية، تنقسم إلى 3 أنواع: السحوبات على القروض الخارجية لفائدة الدولة وتبلغ قيمتها 21.1 مليار دولار، والقروض الخارجية الموظفة لمشاريع الدولة/ الميزانية وتبلغ قيمتها 3.5 مليار دولار والقروض الخارجية المعاد إقراضها للمؤسسات العمومية وقيمتها 0.8 مليار دولار.
المختص في الاقتصاد معز حديدان لـ"الترا تونس": " أكثر طرف قام بإقراضنا هو صندوق النقد يليه كل من البنك الدولي، البنك الإفريقي ثم الاتحاد الأوروربي وديون أخرى ثنائية ومتعددة الأطراف"
وبيّن حديدان" أكثر طرف قام بإقراضنا هو صندوق النقد الدولي بحوالي 3.78 مليار يليه كل من البنك الدولي، البنك الإفريقي ثم الاتحاد الأوروربي وديون أخرى ثنائية ومتعددة الأطراف".
وتابع معز حديدان في حديثه لـ"الترا تونس" "الأجور فقط كلفت الدولة 66.4 مليار دولار طيلة عشر سنوات يعني حوالي 3 مرات أكثر مما اقترضناه من الخارج، وأنفقت على الاستثمار العمومي 26 مليار دولار، كما أنفقت لخلاص خدمة الدين فائدة وأصل الدولة 34 مليار دولار".
وأوضح حديدان "لا يمكن تحديد فيما صرفت أموال القروض، أ كان ذلك لسداد الأجور أو لغيرها من مصاريف الدولة"، مرجحًا إمكانية قيام الدولة بسداد أجور موظفيها من خلالها على اعتبار أن كلفتها تجاوزت ما اقترضته تونس طيلة السنوات العشر الماضية وسداد أجزاء من الدين الداخلي والخارجي.
المختص في الاقتصاد معز حديدان لـ"الترا تونس": من المستبعد أن تشهد هذه القروض تحويل وجهة أو نهبًا من قبل المسؤولين، في حين أن فرضية حدوث فساد أو سوء تصرف تبقى واردة
واستبعد المختص في الاقتصاد إمكانية أن تشهد هذه القروض تحويل وجهة أو نهبًا من قبل المسؤولين، في حين أن فرضية حدوث فساد أو سوء تصرف تبقى واردة، وتتجلى أوجه ذلك حسب حديدان في كثرة الاقتراض وعدم توجيه تلك الأموال إلى الاستثمار بالإضافة إلى ارتفاع خدمة الدين الذي بلغ حوالي 5 مليار دولار.
ونبّه معز حديدان في حديثه لـ"الترا تونس" إلى أن عدم حصول اتفاق مع صندوق النقد الدولي قد يزيد الأمور صعوبة في تونس وقد يدفع بالتالي لعجزها عن سداد ديونها، مما قد يضطرها لإعادة جدولة ديونها والالتجاء لنادي باريس لكن هذا الخيار سيمس ضرورة من صورة تونس وسمعتها التجارية وسمعة شركاتها وإلى تراجع تأمينها السيادي، حسب تصريحه.
- دولة التقشف دولة لا تستثمر
واتصل "الترا تونس" بالباحث في الاقتصاد السياسي وليد بسباس الذي قال إن "الخطاب السائد يسلط الضوء على كمية الديون ولا يهتم بالمؤشرات، بمعنى لا يمكن الحديث عن التداين دون الحديث عن التداين الصافي، أي كم اقترضنا وكم سنسدد، حجم القروض التي تحصلنا عليها منذ سنة 2011 إلى 2019 تعد كبيرة مقارنة بفترة حكم بن علي أي فترة الإصلاح الهيكلي 1986/2010، في الفترة السابقة لسنة 1986 الدولة كانت تقترض أكثر بكثير مما اقترضته طيلة العشرية الماضية وتسدد أقل بكثير".
وتابع الباحث في الاقتصاد السياسي في حديثه لـ"الترا تونس"، "تونس اقترضت بمعدل 7.3% من مواردها الذاتية المتأتية من الضرائب المباشرة وغير المباشرة وعائدات المؤسسات العمومية وغيرها"، ليضيف في حديثه لنا "منحى التداين أخذ في الصعود منذ سنة 2011 شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى 13% في سنوات 2015/2017 ثم أخذ في التراجع سنة 2018 حتى بلغ 0.28 سنة 2019، مع العلم لا يمكن أن تكون هذه القروض قد تعرضت للسرقة أو النهب"، وفقه.
الباحث في الاقتصاد السياسي وليد بسباس لـ"الترا تونس": سياسة التقشف كانت السبب الرئيسي في قيام الثورة لأن الدولة لم تستثمر ولم تنتدب، تركت الناس للحلول الفردية وعرّضتهم لهشاشة الحياة
واستدرك بسباس "سياسة التقشف كانت السبب الرئيسي في قيام الثورة لأن الدولة لم تستثمر ولم تنتدب، تركت الناس للحلول الفردية وعرّضتهم لهشاشة الحياة، متى انطلقت الهجرة غير النظامية والسوق الموازي وغيرها؟ بعد فترة "الإصلاح الهيكلي" لخلاص الديون بالتأكيد".
ليستطرد "بعد الثورة انطلقت سياسات الانتداب في الوظيفة العمومية من جديد أي منذ 2011 إلى حدود 2014، تم تعويض النقص الحاصل في فترة نظام بن علي، لكن هذا أثّر على طبيعة تنظيم المالية العمومية، وساهم في تضخم مصاريف التسيير مما دفع الدولة آليّا للاقتراض، مبينًا "الدولة وضعت استراتيجية للانتداب ولم تضع استراتجية للاستثمار ترافق سياسة الانتداب التي شهدناها في أول العشرية الماضية، لأن دولة التقشف هي دولة لا تستثمر. لم نقترض كثيرًا أول العشرية، فعليًا انطلقت عمليات الاقتراض أواسط العشرية".
وحول ما إذا ذهبت أموال القروض لخلاص أجور الموظفين والتي تبلغ قيمتها حوالي نصف ميزانية الدولة التونسية كما يُشاع، قال بسباس "خلاص أجور الموظفين لم يتم من خلال أموال القروض، الموارد الذاتية للدولة كانت كافية وأكثر لخلاص الأجور ومرافقة مصاريف التسيير والتعويض (الدعم)، الإشكال الأساسي في تونس أن الدولة لا تستثمر ليس لعجزها وإنما لأنها لا تريد ذلك، إذعانًا منها للإملاءات الخارجية".
الباحث في الاقتصاد السياسي وليد بسباس لـ"الترا تونس": الإشكال الأساسي في تونس أن الدولة لا تستثمر ليس لعجزها وإنما لأنها لا تريد ذلك، إذعانًا منها للإملاءات الخارجية
وتابع بسباس "بسن قانون استقلالية البنك المركزي سنة 2016 لم يعد المركزي التونسي مؤهلاً للتدخل في سوق الصرف مما أدى إلى تراجع قيمة الدينار التونسي وارتفاع قيمة الدين الخارجي، واضطرت تونس للاقتراض مجددًا لسداد الديون وعاد بالوبال على المؤسسات العمومية وتسبب لها في خسائر صرف أثرت على ميزانياتها، كان من الأجدى أن يشتري البنك المركزي ديون الدولة عند البنوك، قانون استقلالية البنك المركزي أفقد الدولة سيطرتها على سياساتها النقدية".
وعن إمكانية تأجيل خلاص القروض، قال بسباس في حديثه لـ"الترا تونس"، ذلك يقتضي الدخول في مواجهة مع دول الشمال ويستدعي حكومات قادرة على ذلك لا حكومات التلميذ النجيب التي تذعن للأوامر وتترك الناس للموت، معتبرًا أن دول الشمال تركت حدًا أدنى من الظروف الموضوعية للمحافظة على الاستقرار في بلداننا لمواصلة المراكمة على حسابنا، هم عالة علينا، ولا يهتمون إلا بالمحافظة على مصالحهم وصفاقتهم ومن الواضح أن سعيّد لا يهدّدها.
- ما قُدّم لتونس من مساعدات بمنطق دولي هو الفتات
من جانب آخر، تحدث "الترا تونس" إلى الباحث في العلوم السياسية أيمن البريكي، الذي قال "ما قُدّم لتونس من مساعدات بمنطق دولي هو الفتات مقارنة بتجارب الانتقال في أوروبا الشرقية وغيرها، هنا يمكن أن نطرح سؤالاً حول مدى اهتمام هذه الدول أن تكون تونس ديمقراطية من عدمه، مصالح هذه الدول تفترض الاستقرار ولا تفترض الديمقراطية". وأشار الباحث في العلوم السياسية إلى أن "الفشل في تونس نخبوي، فالنخبة التونسية أثبتت أنها غير قادرة على إدارة صراعاتها والتكيّف مع المتغيرات العلمية والأكاديمية والجيوسياسية، عدم القابلية على التكيف تؤدي إلى تخلف الدول"، وفقه.
الباحث في العلوم السياسية أيمن البريكي لـ"الترا تونس": "ما قُدّم لتونس من مساعدات بمنطق دولي هو الفتات مقارنة بتجارب الانتقال في أوروبا الشرقية وغيرها"
ونفى أيمن البريكي قاطعًا في تصريحه لـ"الترا تونس" أن تكون القروض التي تحصلت عليها تونس طيلة السنوات العشر الماضية قد تمت سرقتها أو الاستيلاء عليها، وهذا وفق خبراء المالية، لكن من المتوقع أنه قد تم إساءة التصرف فيها، أوجه الفساد في تونس تعود أساسًا لسوء التصرف"، وفق تقديره.
وتابع البريكي "الإشكال الأساسي ليس في خلاص الأجور فقط إنما أيضاً المصاريف العمومية الأخرى غير ذات الجدوى والتي لا عائد لها، وبالتالي تتجه تونس للاقتراض من أجل مصاريف تسيير الدولة ومؤسساتها وهياكلها، وبدخولها في مراحل التقشف عادة ما تضغط الدول على مصاريف التسيير، المشكل في تونس أننا رغم الصعوبات التي نواجهها يتم التوسيع في هذه المصاريف سواء عبر الانتدابات الجديدة أو عبر إحداث مؤسسات تابعة لهياكل الدولة لا معنى لها ولا تقدم أي إضافة، هي موجودة لهدر المال حرفيًا، عوض توجيه هذه الأموال نحو الاستثمار وخلق مشاريع ذات مردودية بالتالي تدخل الدولة آليًا في دوامة اقتراض وعجز مالي".