30-أغسطس-2016

قبر الجندي المجهول(فيسبوك)

 

عديدة هي الدول التي من بين معالمها نصب الجندي المجهول، في تقليد اتبعته بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى. ونظرًا لارتفاع عدد جنودهم الذين لقوا حتفهم في تلك المعارك، قرر عدد من مسؤولي دول الحلفاء، فرنسا، بلجيكا، إيطاليا، بريطانيا والولايات المتحدة، تكريم الجنود من خلال نصب تذكاري أو ضريح لجندي مجهول، ويكون بذلك رمزًا لكل الذين ذهبوا ضحية الحرب. هذا التقليد اعتمدته أيضًا عديد الدول العربية، من خلال ضريح الجندي المجهول في القاهرة بعد حرب أكتوبر 1973، ثم عديد النصب التذكارية الأخرى، التي حملت نفس الاسم ولأسباب مشابهة، في العراق، سوريا، غزة، الأردن وغيرها من الدول.

لضريح الجندي المجهول في تونس قصة فريدة من نوعها ومختلفة كما أنها لا تخلو من الطابع الخرافي والأسطوري

أما في تونس، فلضريح الجندي المجهول قصة فريدة من نوعها ومختلفة كل الاختلاف عن كل ما سبق. في البدء القصة ليست واحدة، ولا إثباتًا لصحة رواية دون أخرى. من جانب آخر، كل القصص حول ضريح الجندي المجهول في تونس لا تخلو من الطابع الخرافي والأسطوري. هي حكايات عديدة يتناقلها سكان المدينة العتيقة، في تونس العاصمة، سردوها للزائر من كل مكان، يستجمعون ماضيهم ويحاولون تخليده ولو شفهيًا عبر الأجيال المختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: بنقردان.. حصن تونس وقلعة الصمود

يتعلق الأمر بقبر في "سوق السكاجين"، المجاور لـ"سوق السراجين"، وهو أحد أسواق المدينة العتيقة بتونس العاصمة. والسكاجين، تحريف لكلمة "الشكازين"، والشكّاز هو الحرفي المختص في صنع الأشكز، وهي صناعة تجميل جلد السروج وكانت شائعة في تونس منذ القرن 15 ميلادي. هكذا عُرفت هذه السوق بصنع السروج وكل ضروريات الفروسية، قبل أن تتحول دكاكينها إلى مهن أخرى مع مرور الزمن.

في سوق السكاجين وأحوازه، قابلنا نساء ورجالًا، الكل منشغل بشأن من شؤون الحياة، لكننا استوقفنا بعضهم للسؤال عن قصة القبر المستقر وسط طريقهم. يقول العم علي لـ"الترا صوت"، وقد تجاوز العقد السابع من العمر: "إنه قبر الجندي المجهول، وكل أبناء السوق يعرفون قصته، نحن نتناقلها لتبقى راسخة في الذاكرة الشعبية". ويضيف: "عندما كانت تونس تحت الاحتلال الإسباني، وفي منطقة "باب بنات" تحديدًا، تحرش جنديان إسبانيان بفتاة تونسية، كانت ترافق والدتها، فاستغاثت الأم وحاولت البنت الدفاع عن نفسها وقامت بقتل أحد الجنود بينما قام الثاني بقتلها. انتبه الجيران للصراخ والضجيج وقتلوا الجندي الثاني".

ويوضح: "تقول الحكاية الشعبية إن الإسبان عرفوا فيما بعد ما حصل لجنودهم، فقتلوا إخوة الفتاة السبعة ودفن كل شباب منهم في مكان سقوطه ولم يبق من القبور السبعة إلا قبر وحيد، هو ما يعرف اليوم بقبر الجندي المجهول". يؤكد العم علي صحة روايته قائلًا: "طالما كررها عمي على مسمعي منذ الصغر، كان يطلب منا ونحن صغار أن لا نلمس القبر بسوء ويعتبره جزءًا من تراثنا". يُذكر أن الحقبة الإسبانية في تونس امتدت من 1535 إلى 1574.

يواصل العم علي طريقه مبتسمًا، وغير بعيد منه، قابلنا بية، ربة بيت خمسينية، كانت تستعجل الخطى لكن عند سماعها سؤالنا، وقفت لثواني، معلقة: "أعرف قصته، وأرجو أن نحافظ عليه جيلًا بعد جيل، هذا دليل للجميع على تحدي التونسيين للمحتل مهما كان اسمه ومدى شجاعتنا".

اقرأ/ي أيضًا: متحف قلالة.. نافذة على الحياة في جربة

محمد، أحد الباعة من المحلات القريبة، غادر محله، وحدثنا: "الرواية التي ذُكرت تستحق شيئًا من التعديل، فما سمعته منذ سنوات هو أن صاحب القبر الشهير كان الشاب الذي بقي يتصارع مع الجنود الإسبان بمفرده إلى آخر لحظة، ورغم قطع رأسه إلا أنه واصل قتال الإسبان. ولم يسقط، أين دفن في ذلك القبر، إلا بعد التغلب عليهم وفرار بعضهم الآخر". تبدو خاتمة محمد لقصة "قبر الجندي المجهول" أقرب للأسطورة والخرافة، هكذا عبرنا له، فأجاب أن "الخرافات والأساطير جزء من تاريخ كل بلد".

يبدو قبر الجندي المجهول في تونس وكأنه من التراث المنسي، تنتقل قصته شفويًا، ربما هذا ما يفسر التغييرات التي تطرأ عليها من متحدث إلى آخر

وأضاف: "عرفت أيضًا من أحد سكان الحي القدامى، الذين غادروه منذ فترة، أن أمرًا بإزالة القبر قد صدر بعد الاستقلال لكن حين بدأ العمال بتكسير لوح القبر تدفق دم بغزارة من خلال الشقوق، واضطروا إلى ترميم القبر وإبقائه على حاله. كان التونسيون من سكان المدينة العتيقة يرددون أن دم الشهيد "ساخن" لا يجف إلى يوم القيامة، وهي عبارة يستعملها التونسيون لليوم".

أما فؤاد، وقد تجاوز عتبة الثلاثين ببضع سنوات، فيؤكد لـ"الترا صوت" أنه سمع عديد الروايات الأخرى حول قبر الجندي المجهول في قلب سوق السكاجين، وأن ماضيه سيبقى غامضًا ومحل خرافات، طالما لم يهتم به المختصون في التاريخ الحديث، لكنه لا ينفي أن رواية الجنود الإسبان هي الأكثر تداولًا.

القبر الذي يتوسط "السكاجين" إلى اليوم، يعتبره البعض أحد "حراس المدينة"، لا يتسامحون مع من يمسه بضرر. يُذكر أنه يوم 18 من آذار/مارس 2013، تعرض القبر إلى محاولة تخريب من أطراف بقيت مجهولة. ذكر جيران المنطقة حينها أنهم 4 ملثمين، ولم يقع التعرف عليهم، وتزامنت تلك الحادثة مع محاولة التخريب والاعتداء على العديد من الزوايا الصوفية في العاصمة التونسية ومحافظات أخرى من قبل عناصر سلفية متشددة.

علميًا، لم يذكر قبر الجندي المجهول في كتب التاريخ ولا قصة أجمع حولها الباحثون. يبدو وكأنه من التراث المنسي داخل أحد الأسواق العتيقة، لا يعرفه الكثير من التونسيين خاصة ممن لم يسعفهم الحظ بالتجول في أسواق المدينة العتيقة في قلب العاصمة التونسية. تنتقل قصته شفويًا، ربما هذا ما يفسر التغييرات التي تطرأ عليها من متحدث إلى آخر.

اقرأ/ي أيضًا:

"جزيرة فاضل".. هنا يرقد حلم العودة إلى فلسطين

الإسكندرية "مدينة الرب".. في سوق نخاسة رأس المال