14-مارس-2024
الأسواق القديمة بين الماضي والحاضر في مدينة سوسة

للأسواق أحكام وتراتيب صاحبت نشأتها منذ القدم (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

قد تتجول في المدن العتيقة التونسية فيجذبك سحر الماضي بين طيات الأزقة والدكاكين ومحلات التجّار والحرفيين والصنائع، ولكن يطالعك في الآن نفسه ذاك التشوّه الذي لحق ببعض أركانها بسبب التغيرات الجذرية عمرانيًا وتنظيمًا إداريًا.

تغيرت ملامح الأسواق في المدن العتيقة ولكن ما بقي منها صامدًا قد ينتظره نسيان أبدي بمجرد أن يذهب القدر بحارسه

السوق هو مركز التقاطع بين البائع والشاري، بل هو مركز الالتقاء المجتمعي الذي يستقطب جميع شرائح المجتمع ويحكم الترابط الحضاري بين السكان ويؤسس لمفهوم الاجتماع الإنساني القائم على التعايش والصيرورة والمنفعة المشتركة.

في المدينة العتيقة بسوسة، دائمًا ما أتجول بين سوق القائد وسوق الصاغة وسوق اللفة وصولًا إلى سوق الربع وما جاورهم من تجمعات للحرفيين وبعض الصنائع التي كادت تندثر كسابقتها مما ذهب بها الزمن ولم تبق ذات أثر في المكان.

 

المدينة العتيقة بسوسة
كانت الأسواق قديمًا متصلة ببعضها البعض، وكان لكل صناعة سوق منفرد

 

بين الأمس واليوم، تغيرت ملامح الأسواق في المدن العتيقة ولكن ما بقي منها صامدًا قد ينتظره نسيان أبدي بمجرد أن يذهب القدر بحارسه. وكما للأسواق موقعها الجغرافي، فلها كذلك أحكام وتراتيب صاحبت نشأتها منذ القديم وتنوعت بتنوع الحضارات واختلافها.

"أحكام السوق" للإمام يحيى بن عمر يعتبر من أهم الكتب التي أصّلت فقهيًا وضبطت تشريعيًا للمسائل المتعلقة بالسوق وكشفت لنا الجوانب الخفية في تنظيم السوق وإدارته في الربع الأخير من القرن الثالث للهجرة باعتبار أن هذا الكتاب قد رواه القصري في ذاك العصر، فضبط بدقة ما تم تداوله لدى القاضي يحيى بن عمر الذي كان يسمع الناس ويفتيهم في مسجد سوسة.

"أحكام السوق" للإمام يحيى بن عمر يعتبر من أهم الكتب التي أصّلت فقهيًا وضبطت تشريعيًا للمسائل المتعلقة بالسوق وكشفت لنا الجوانب الخفية في تنظيم السوق وإدارته

كانت الأسواق قديمًا متصلة ببعضها البعض، وكان لكل صناعة سوق منفرد ودليل ذلك سوق الصاغة في سوسة ويجمع كل حرفيي الذهب والفضة والمجوهرات، وسوق القائد الذي يجمع بين محلات الحدادة والصنائع المتصلة بكافة أنواعها بما يخدم المجتمع واحتياجاته المعاشية. وجنيس ذلك في مدينة القيروان التي تعج بالأسواق ومن بينها سوق اليهود، سوق البزازين، سوق دار الإمارة، سوق الأحد، سوق الصرافين، سوق القطانين.

كما تعرف القيروان بسوق "الرهادرة" وكان يباع به الثياب الحلقة والأكسية التي استعملت ثم استغني عنها وكان ملاصقًا لدكاكين "الرفائين" وسوق "الكتانين"، وكان الأمراء يعتنون بشأن الأسواق فيشيّدونها على نفقة الدولة ويعمّرونها بالتجار والصناع ويأخذون الأكرية مقابلها.

 

المدينة العتيقة بسوسة
يكشف كتاب "أحكام السوق" النظام الترتيبي الذي يحكم المعاملات في تحديد المكاييل والموازين وفي التسعير وإبعاد المفسدين والغشاشين ومن يدخلون المضرّة على الناس (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

يكشف لنا كتاب أحكام السوق النظام الترتيبي الذي يحكم المعاملات في تحديد المكاييل والموازين وفي التسعير وإبعاد المفسدين والغشاشين ومن يدخلون المضرّة على الناس بخلط اللبن بالحليب ودهن التين بالزيت وأحكام بيع الحنطة من قمح وشعير وفول..

وقد نرى في فتاوى السوق وأحكامه طرافة بحكم التغير الحضاري الشامل غير أن ما تم التعرض إليه في القرن الثالث للهجرة لا يزال بعضه يرافقنا في أوجه عدة تتعلق بالصنائع والحرفيين والتجار خاصة، فقد أفتى بن عمر في الخبز إن وجدت فيه حجارة وعن الخبز الناقص في الميزان وعن علاقة صاحب الفرن بأصحاب الحوانيت وعن إرجاع الخبز بعد كسره وعن حكم خلط القمح الطيب مع القمح الدنيء وفي من دلّس في مكيال أو طعام، وفي حكم خلط الشيء بعضه ببعض وما يفعل بالجزارين إذا فعلوا ذلك بخلط اللحم المهزول بالسمين أو الضأن بالمعزة.

محمد علي الخرشفي (باحث في المعهد الوطني للآثار) لـ"الترا تونس": الأسواق التاريخية لمدينة سوسة،  يبلغ عددها 17 سوقًا على الأقل

في لقاء له مع "الترا تونس"، يقول الباحث في المعهد الوطني للآثار محمد علي الخرشفي: "تعتبر الأسواق أحد أهم الفضاءات الاقتصادية المكونة للنسيج الحضري للمدن، فداخلها ينشط البيع والشراء وتجميع الثروة وهي فضاء خدماتي يقصده السكان لتوفير حاجياتهم اليومية من الأغذية وغيرها من المواد والسلع الاستهلاكية، وفي هذا الإطار استأثرت مدينة سوسة بجملة من الأسواق المختلفة التي امتدت داخل طرقاتها وشوارعها وضمت سلعًا مختلفة وكان تطور هذه الفضاءات في علاقة مع نمو المبادلات التجارية الداخلية والخارجية وحالات الحرب والسلم وتماشت مع ارتفاع عدد السكان.

ويضيف الباحث محمد علي الخرشفي: "ومن المعلوم أن الأسواق ليست بالعنصر الثابت والمستقر في النسيج الحضري وتميزت بالديناميكية من حيث النشاط والامتداد، حيث نلاحظ وجود العديد من التغيرات الوظيفية والمورفولوجية التي طرأت عليها خلال الفترات التاريخية المتعاقبة كظهور أسواق جديدة وانبثاق أخرى أو امتداد أو تقلص المجالي لها أو حتى التغير في نشاطها ولعل هذه الإشارات تفيد بحركية المركز الاقتصادي عبر التاريخ لمدينة سوسة".

 

المدينة العتيقة بسوسة
باحث في المعهد الوطني للآثار لـ"الترا تونس": الأسواق ليست بالعنصر الثابت والمستقر في النسيج الحضري وتميزت بالديناميكية من حيث النشاط والامتداد

 

وقصد حصر الأسواق التاريخية لمدينة سوسة، يبرز محمد علي الخرشفي أن عددها يبلغ 17 سوقًا على الأقل وهي سوق الحدادين (مدخل الباب الغربي)، السكاجين، النجارين (نهج سيدي بوراوي)، الملاخين، الحجامين (بالقرب من زاوية سيدي بوراوي)، سوق الصاغة (معروف بسوق اليهود)، الربع (المنسوجات)، سوق اللفة (الصوف) سوق القائد (تجارة الصوف وحرف أخرى)، سوق الحلفاوين، سوق الخضرة، سوق الحوت، سوق الجزارين، سوق الزرارعية (بيع البقول الجافة)، سوق الفلافلية (التوابل) سوق الحوكة (سوق يصدر لكافة أنحاء الإيالة من الكتان السوسي الشهير)، سوق باب البحر.

وأضاف الخرشفي: "من المهم جدًا أن نضع هذه الأسواق في اختصاصاتها فنجد أن لدينا عددًا إجماليًا يبلغ 5 أسواق استهلاكية غذائية (الخضار، الحوت، الجزارين، الزراعية، الفلافلية) و10 أسواق حرفية.

باحث في المعهد الوطني للآثار لـ"الترا تونس": موضوعات كتاب "أحكام السوق" مازالت فاعلة رغم تغير الفضاء باعتبار أن نفس التجار والحرفيين بقوا على العهد مع ما هو متعارف عليه من أصول المهنة

كما وضح الباحث أن "في تنظيم الأسواق وحكمها هناك العديد من الأحكام الفقهية التنظيمية داخل الأسواق حتى يتبيّن الحلال من الحرام في المعاملات وبرز منذ الفترة الوسيطة أحد أبرز الكتب ليحي بن عمر وسمي (أحكام السوق) وقد عالج الكثير من الموضوعات المتداولة في السوق وإيجاد أجوبة لها مثل أنواع المكاييل والبيوع حكم اختلاط السلع والمواد وهي مسائل متداولة يعيشها الإنسان في السوق وأصدر فتاوى كانت ناجعة ومن هناك اكتسب هذا المؤلف أهميته بالكشف عن أسرار ذاك المجتمع في تجارته وأسواقه".

واعتبر أن "موضوعات (أحكام السوق) مازالت فاعلة رغم تغير الفضاء باعتبار أن نفس التجار والحرفيين بقوا على العهد مع ما هو متعارف عليه من أصول المهنة ونفس الحكم الديني ما زال ساريًا عليه. مدينة سوسة كانت مركزًا تجاريًا فينيقيًا وتطورت ضمن نظام المدينة الرومانية ثم تحولت إلى مدينة عثمانية تركية، ونلاحظ أن في كل هذه المراحل المذكورة كان ميناء سوسة أهم نقطة في علاقته بالتجارة باعتبار مدينة سوسة مصدّرة للمنتوجات لذا كانت سوسة مرتبطة بالبحر والتجارة وتجذرت فيها الصنائع والمهن".

 

المدينة العتيقة بسوسة
باحث في المعهد الوطني للآثار لـ"الترا تونس": هناك 5 أسواق استهلاكية غذائية (الخضار، الحوت، الجزارين، الزراعية، الفلافلية) و10 أسواق حرفية بسوسة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

وخلص الباحث الخرشفي إلى القول إن "أسواق مدينة سوسة مفتوحة على قرى الساحل المحيطة بها وممتدة في انفتاحها على القيروان بالنظر إلى الارتباط التاريخي بين المدينتين، فالقوافل التجارية كانت تمر عبر أهم المدن وصولًا إلى سوسة سواء من جهة صفاقس أو جهة القيروان وجهة المهدية، فالتجارة حلقة دائرية".

مراد البحري (ناشط في المجال التراثي) لـ"الترا تونس": ذهب الزمن ببعض بهاء الأسواق في المدينة العتيقة بسوسة لما اندثرت عدة حرف وتحولت محلات الحرفيين إلى أنشطة أخرى هجينة تعتمد على السلع المستوردة

من جهته يقول مراد البحري الناشط في المجال التراثي إن "الأسواق في المدينة العتيقة قد ذهب الزمن ببعض بهائها لما اندثرت عدة حرف وتحولت محلات حرفيين وصنائع إلى أنشطة أخرى هجينة تعتمد على السلع المستوردة أو ذات طبيعة غير تقليدية وليست متوارثة، فأغلب أسواق سوسة العتيقة قد دخلت عليها العديد من التغييرات وشهدت تحويلًا في نشاطها".

ويضيف مراد البحري: "هذا الأمر ليس بالجديد على المدن العتيقة غير أن ما يحفظه لنا التاريخ المكتوب مثل ما ورد في كتاب أحكام السوق أو التأريخ الشفهي المنقول أو شهادات الباقين من القرن الفارط، يدفعنا إلى وضع مخططات فاعلة وناجعة للمحافظة على ما بقي كإرث للأجيال القادمة".