08-فبراير-2019

قصور وإقامات خاصة مشيّدة على الملك العمومي البحري في جهة الساحل (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

لم تمرّ التقلبات الجوية التي عصفت بالبلاد التونسية، بداية شهر فيفري/شباط الجاري، دون تسجيل حوادث طبيعية ومنها ما حدث في مدينة "شط مريم" الساحلية من معتمدية أكودة بولاية سوسة حيث انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور تكشف انهيار أجزاء من بنايات بسبب ارتطام الأمواج العاتية بها. تحول "الترا تونس" إلى مدينة شط مريم لاستجلاء القصة.

انهيار مقدّمة منزل على الشريط الساحلي في مدينة شط مريم بسبب الأمواج (ماهر جعيدان/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: الأودية في تونس.. الوجه الآخر لأزمة الفيضانات

كانت الأمواج العاتية الشمالية الشرقية ترتطم بجدران منازل وأسوار قصور مشيدة على مرمى قدم، منازل وقصور وإقامات خاصّة شُيدت على مدى السنوات والعقود الماضية في الملك العمومي البحري، وهي على ملك خواص من بينها قصور لعائلة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

بنايات شيّدها أصحابها في خرق واضح للقانون لمخالفتها لتراتيب البناء وعدم امتثالها للرخص الممنوحة من الجهات المختصة أو قد سُويت وضعيتها بطريقة أو بأخرى.

على امتداد نحو كيلومترين على طول الشاطئ ذي الرمال الذهبية، عاينا الاستغلال الفاحش للملك العمومي البحري وسد المنافذ في عدة نقاط. وبلغنا تلك المنازل التي أصابتها الأمواج العاتية فأطاحت بجزء من البنايات فتناثرت هنا وهناك الحجارة والأبواب والجدران، وجرفت المياه جزءًا من الأساسات فتركت بعض المنازل معلقة على علو مترين أو أكثر بعد أن كانت فيما مضى على استواء مع مياه البحر.

جرفت الأمواج جزءًا من الأساسات فتركت بعض المنازل معلقة على علو مترين أو أكثر بعد أن كانت فيما مضى على استواء مع مياه البحر

كانت الصور المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي مدعاة لزيارة عدد من السكان للمكان بهدف الاطلاع على حجم الكارثة، وكان لنا معهم حديث وقد أسرّ لنا بسام العذاري، أحد أبناء البلدة، أنه لم يكن في السنوات الفارطة مستوى مياه البحر ليبلغ هذه الدرجة من التقدم والزحف نحو البنايات المشيدة بل كان على بعد عشرات الأمتار غير أن تشييد كاسرات أمواج حديثة قد غيّر من طبيعة الشاطئ وحول قوة الأمواج نحو الجهة اليمنى للشواطئ.

ويؤكد محدثنا بذلك أن هذه الكاسرات الصخرية غيرت من طبيعة المنطقة مشيرًا إلى أنها عوض أن تجلب النفع بالحد من الانجراف وحماية الرمال هاهي تتسبب في هدم المنازل وجرف التربة على مسافات طويلة، وفق قوله.

مشروع كاسرات أمواج.. ولا توضيح من وكالة حماية الشريط الساحلي

توجد في تونس وكالة خاصة لحماية وتهيئة الشريط الساحلي محدثة بقانون صادر بتاريخ 24 جويلية/يوليو 1995، وترجع هذه الوكالة، التي اتخذت شكل مؤسسة عمومية لا تكتسي صبغة إدارية، بالنظر إلى وزارة البيئة والشؤون المحلية. وهي تعمل على تنفيذ سياسات الدولة في مجال حماية الشريط الساحلي وبالخصوص على ضوء تسبب إشغال الملك العمومي البحري دون وجه قانوني في بروز ظواهر سلبية على غرار ظاهرتي اختلال المنظومات البيئية والانجراف البحري.

كما تتولى الوكالة خصوصًا، وفق القانون المُحدث لها، بالتصرّف في الشريط الساحلي ومتابعة أعمال تهيئته وتسوية الوضعيات العقارية القائمة والمخالفة للقوانين والتراتيب المتعلقة خاصّة بالملك العمومي البحري وكلّفت كذلك بإعداد دراسات حماية الشريط الساحلي وإحياء المناطق الطبيعية.

اتصلنا بفرع وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي بسوسة للاستئناس ببعض المعلومات والإحصائيات، وبحثًا عن إجابة لعدة تساؤلات مطروحة حول كاسرات الأمواج المشيدة حديثًا ومدى تأثيرها على التيارات البحرية وحركة الرمال الشاطئية وأيضًا حول مدى تطبيق القانون على المخالفين في الملك العمومي البحري وغير ذلك من التجاوزات، غير أننا لم نتحصل على أي معلومة حول المواضيع المذكورة من فرع الوكالة بسوسة بعد عدم الالتزام بالموعد المقرر للقاء.

كاسرات الأمواج المشيدة حديثًا على ساحل مدينة شط مريم (ماهر جعيدان/الترا تونس)

غير أنه بالاطلاع على بعض التقارير الصحفية، يتبيّن أن تشييد كاسرات الأمواج حديثًا في ولاية سوسة تم على 3 مراحل، الأولى بمنطقة هرقلة، والثانية بشط مريم من معتمدية أكودة والثالثة قبالة شاطئ حضر موت بسوسة. وقد أفاد مسؤول في وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي أن عدد كاسرات الأمواج المغمورة بشط مريم يبلغ ثلاثة كل واحدة منها بطول 200 متر وبعرض 15 متر، وأنها أُنجزت للحماية من الانجراف البحري.

اقرأ/ي أيضًا: المنستير.. مشروع أوروبي لتخطيط مستدام من أجل حماية المدينة من الكوارث الطبيعية

ويُعزى هذا المشروع، وفق تصريحات صحفية سابقة لمحمد البشير نصرة منسق المشروع، إلى تعرض هذه المنطقة إلى انجراف بحري حادً بسبب عدة عوامل أهمها تآكل الأجراف الساحلية، والعوامل الهيدروديناميكية، وسيلان مياه الأمطار، واضطراب في توازن الترسبات بسبب التدخل البشري إضافة لأثر تدهور الكثبان الرملية. وأكد هذا المسؤول، في ذات الإطار، على أن الحواجز الصخرية وكاسرات الامواج المغمورة يمكن ان تحمي الشواطئ من الانجرافات البحرية لمدة تتجاوز الخمسين عامًا.

غير أنه بعد سنتين من إنجاز كاسرات الأمواج المغمورة بشط مريم، شهدنا انجرافًا بحريًا حادًا مع تقدم الشواطئ نحو البناءات مما تسبب في انهيار أجزاء منها، ويبقى السؤال المطروح هل أن كاسرات الأمواج المحدثة هي السبب المباشر لهذا الانجراف؟ وما مدى تقييم الخبراء لهذا المشروع؟

بلدية شط مريم على الخط

اتصلنا ببلدية شط مريم، وهي بلدية حديثة النشأة إذ تم تركيزها في 19 أفريل/نيسان 2017، وقد تكفلت نيابة خصوصية بتسييرها إلى حين تركيز مجلس بلدي منتخب بتاريخ 26 جوان/يونيو 2018.

وأفادنا رئيس البلدية سمير العذاري، في بادئ حديثه حول مسألة تأثير كاسرات الأمواج المغمورة، أن المجلس البلدي يتابع تأثيرات هذا المشروع في الملك العمومي البحري عبر تركيز لجنة خاصة صلب البلدية، وهي لجنة مشتركة تضم ممثلين عن المجتمع المدني وأعضاء من المجلس البلدي وعدد من البحارة وخبراء في المجال، مشيرًا للقيام بمعاينات في أوقات وظروف طبيعية مختلفة لمتابعة تأثيراته على مستوى الشاطئ وتحرك الرمال والمنازل المشيدة على طول الشريط الساحلي في مرجع نظر البلدية.

بيت مصادر على ملك حياة بن علي يكشف حجم الاعتداء على الملك العمومي البحري في سوسة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

وأكد العذاري، بخصوص أسباب سقوط جزء من المنازل ومدى تأثير كاسرات الأمواج، أنه لا يستطيع الحكم مسبقًا قائلًا: "نحن كأبناء الجهة شهدنا في وقت سابق بالتحديد قبل إنجاز الكاسرات اكتساحًا للأمواج العاتية للمباني". لكنه أفاد أن العديد من المباني المتضررة مخالفة للتراتيب القانونية ومستغلة للملك العمومي البحري دون وجه قانوني سواء قبل إنشاء وكالة حماية تهيئة الشريط الساحلي سنة 1995 أو بعدها وذلك إضافة للمباني المشيدّة في الفترة الأخيرة.

رئيس بلدية شط مريم لـ"الترا تونس": العديد من المباني المتضررة مخالفة للتراتيب القانونية ومستغلة للملك العمومي البحري دون وجه قانوني

وأشار رئيس بلدية شط مريم لسابق القيام بمعاينة مع أعوان من وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي لهذه البناءات المتضررة، مؤكدًا الإقرار بمخالفة أصحابها لتراتيب البناء وصدور قرارات هدم بشأن هذه البنايات.

ويشير من جهته أنيس العذاري، وهو كاتب عام بلدية شط مريم في حديثه لـ"ألترا تونس"، لوجود عدة ملفات مفتوحة بخصوص مخالفة هذه البناءات مستدركًا بالقول: "لكننا نحن بلدية حديثة العهد وكنا ضمن تصنيف المجالس القروية سابقًا ولا نمتلك ملفات متكاملة يتطلب اتخاذ القرارات المناسبة تجميع الملفات الموزعة بين المجلس الجهوي للولاية والإدارة الجهوية للتجهيز وكافة الإدارات المتداخلة".

تعطيلات بيروقراطية تحول دون معالجة جذرية لملف البناءات المعتدية على الملك العمومي البحري (ماهر جعيدان/الترا تونس)

ويشدد محدثنا على السعي للحصول على الملفات ذات الشأن بالطرق القانونية حتى يتم إدراجها وإصدار القرارات المناسبة، مشيرًا لوجود تعاون مع الإدارة الجهوية للتجهيز في هذا المجال واستئناسًا بالاستشارة بها في كافة المسائل العالقة.

أما بخصوص منح رخص استغلال وقتية للشواطئ المهيئة باعتبار شط مريم منطقة ذات جاذبية سياحية في فصل الصيف، يفيدنا رئيس البلدية سمير العذاري أنه أثار هذه المسألة وقد انعقدت جلسة مع ممثلي وكالة تهيئة الشريط الساحلي للغرض.

وقال إن بلدية شط مريم أثارت عديد الإشكالات العالقة موضحًا: "كان موقفنا أننا لا بد أن نكون شريكًا كبلدية في رخص الاستغلال وممثلين في اللجنة. فكيف للوكالة كراء نقاط وإسناد تراخيص دون العودة إلى المصالح البلدية التي تشرف على خدمات التنظيف ورفع القمامة؟ نحن نتوجه نحو كراء الشواطئ المهيئة من الوكالة والتصرف في تسويغها حسب الضوابط والتشريعات القانونية وتنمية موارد البلدية".

اقرأ/ي أيضًا: المنطقة الرطبة بطينة.. بشاعة الصناعة وإجرام اللامسؤولية

دائرة المحاسبات تعرّي حجم الاعتداء على الملك العمومي البحري

خلال متابعتنا لدور وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي في منطقة شط مريم والإشكاليات العالقة في خصوص انتهاك الملك العمومي البحري ومسائل التصرف، نلاحظ تطابقًا مع ما أورده تقرير لدائرة المحاسبات، منشور على موقعها الرسمي بتاريخ 13 جويلية/يوليو سنة 2017 تحت عنوان "التصرف في الملك العمومي البحري بولايات سوسة والمنستير والمهدية".

وأشار هذا التقرير إلى أن نتائج الرقابة بينت أن "تجسيم حدود الملك ميدانيًا وتحيين إحداثياته شابته نقائص فقد لوحظ أن 71 في المائة من العلامات المجسمة لحدود الملك العمومي البحري بولاية سوسة اندثرت، وتآكلت 289 علامة من مجموع 416 علامة على طول 75 كلم، وأضحت الحدود التي تضمنها أمر التحديد ببعض مناطق الولاية غير مطابق للواقع الميداني بفعل عامل الانجراف البحري".

دائرة المحاسبات: معدل إزالة المخالفات الناتجة عن الاعتداء على ملك الدولة البحري في ولايات سوسة والمنستير والمهدية لم يتجاوز 28 في المائة

كما أكد أشار نفس التقرير حول مسألة رفع المخالفات وإزالتها أن مجموع المخالفات المعاينة بالملك العمومي البحري خلال الفترة بين 2010 و2015 بالولايات الثلاث، أي سوسة والمنستير والمهدية، بلغ 941 مخالفة تعلقت في حدود نسبة 45 في المائة منها بولاية المنستير فيما يتوزع الباقي مناصفة بين ولايتي المهدية وسوسة، وقد تعلقت أغلب المخالفات بالبناء بالصلب وبالتمركز العشوائي وبالتعدي على الكثبان الرملية علاوة على عدم التقيد بمقتضيات تراخيص الإشغال الوقتي.

وخلص التقرير إلى ضعف إزالة المخالفات التي لم يتجاوز معدلها 28 في المائة، ويعود ذلك بالخصوص إلى عدم اتخاذ السلطة الجهوية قرارات الهدم المقترحة عليها كما هو الحال في ولاية المنستير، وأيضًا إلى ضعف نسب تنفيذ القرارات مثلما هو الشأن في ولاية سوسة حيث صدر خلال الفترة الممتدة بين 2012 و2015 مجموع 226 قرار إزالة لم ينفذ منها سوى 60 قرارًا.

يبدو، بالنهاية، أن حماية الملك العمومي البحري من خلال ما شاهدناه في شط مريم يحتاج إلى إرادة سياسية وتنفيذية، إذ أن الخروقات القانونية المتراكمة على مدى عقود اعتداءً على الملك العمومي البحري قد بلغت اليوم مرحلة خطيرة، بتآلف المصالح الخاصة والتحديات البيئية وضعف إنفاذ القانون لتنتج تهديدًا شاملًا نشهده في الوقت الراهن في عدة نقاط من الساحل التونسي.

مراسل "الترا تونس" قبالة ساحل مدينة شط مريم (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

آخر سكّان "الوكايل"... انتظار الموت تحت سقف متداعي؟!

جولة في "الجلاز".. ذاكرة الوطن للنسيان