أفرزت صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية 2019 مشهدًا فسيفسائيًا في البرلمان ما يحول دون قدرة أي حزب على المضي وحده في التشكيل الحكومي، ولذلك بدأت الأحزاب المتصدّرة، قبل الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات، بالتحرك بالسرعة القصوى لتحديد خياراتها التكتيكية والاستراتيجية في المفاوضات الحكومية.
انطلقت مرحلة ما قبل التفاوض الرسمي من خلال التصريحات والرسائل بل والشروط المتبادلة عبر وسائل الإعلام مما أوهم البعض أن المفاوضات الرسمية لتشكيل الحكومة قد بدأت وفشلت
وتنقسم الأحزاب الممثلة برلمانيًا إلى نوعين أحدهما أكد أنه غير معني بمفاوضات التشكيل الحكومي وتحديدًا أحزاب الحزب الدستوري الحر و"قلب تونس" و"تحيا تونس"، في حين أبدت أحزاب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة مشاركتها المبدئية في الحكم مع حركة النهضة.
وانطلقت مرحلة ما قبل التفاوض الرسمي من خلال التصريحات والرسائل بل والشروط المتبادلة عبر وسائل الإعلام مما أوهم البعض أن المفاوضات الرسمية لتشكيل الحكومة قد بدأت وفشلت. وكشفت الأحزاب فيما يمكن تسميته التفاوض الاستكشافي تحت الأضواء على خطوطها وسقف مشاركتها في الحكومة، كما أتاحت للرأي العام إماطة اللثام عن توجهات الأحزاب والتعرف على نقاط التقارب والتباعد فيما بينها، وكذا التعرف على مدى التزامها لبرامجها الانتخابية.
اقرأ/ي أيضًا: آفاق تشكيل الحكومة.. مخاطر وتعقيدات
ماهي مقترحات الأحزاب؟
لعل أهم ما أفرزته هذه المرحلة الأولية تمسك الحزب الأغلبي حركة النهضة بأحقيته في رئاسة الحكومة، فيما اقترحت حركة الشعب تكوين ما أسمتها "حكومة الرئيس" تحت إشراف رئيس الجمهورية قيس سعيّد باعتبار سنده الأخلاقي والدعم الشعبي حوله، وهو ما ترفضه حركة النهضة التي اعتبرت هذا المقترح "تحايلًا على الدستور" كما ورد على لسان القيادي نور الدين البحيري.
من جهته، اشترط التيار الديمقراطي الاتفاق على برنامج حكم معلن وتكليف رئيس حكومة مستقل وطالب تحديدًا بـ3 حقائب وزارية هي الداخلية والعدل والإصلاح الإداري. وقد أحدث الأمين العام محمد عبو الصدمة التفاوضية مبكرًا بإعلان شروطه بعيد إعلان النتائج التقديرية وكأنه يقول "اضرب الحديد وهو ساخن"، وكان ذلك بعد ساعات من إعلان الانضمام إلى المعارضة. وتوحي طريقة الإعلان وتوقيتها المبكر بانعدام الثقة مع الحزب الأغلبي، وبتفضيل مبدئي لمقاعد المعارضة لبناء حزب أكبر بعد خمس سنوات في ظل الاعتقاد بمقاربة أن كل حزب توافق مع النهضة كان مآله التشتت.
لعل أهم ما أفرزته هذه المرحلة الأولية تمسك الحزب الأغلبي حركة النهضة بأحقيته في رئاسة الحكومة، فيما اقترحت حركة الشعب تكوين ما أسمتها "حكومة الرئيس" تحت إشراف رئيس الجمهورية قيس سعيّد
وقد انطلقت، لاحقًا، دعاية إعلامية وحرب كلامية متبادلة بين أنصار النهضة والتيار الديمقراطي على مواقع التواصل الاجتماعي، ما يولد الشعور السلبي بمستقبل الحوار الفعلي بينهما. فيما استقبل رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أمين عام التيار محمد عبو بداية الأسبوع وبعد يوم واحد من بيان المجلس الوطني للحزب المتمسك بمطالبه المعلنة.
أما ائتلاف الكرامة، أبدى استعداده منذ التصريحات الأولى للمشاركة في الحكومة مع حركة النهضة، مؤكدًا أولوية إعداد برنامج للحكم دون اشتراط حقائب وزارية. ويسعى الائتلاف إلى تبني استراتيجية التدرج ببناء أهداف مرحلية في مسار تفاوضي عسير.
اقرأ/ي أيضًا: هل نسير إلى حكومة مهام وطنيّة؟
ويبدو أن مسار المفاوضات سيكون رهين حل الخلافات الجوهرية القائمة بين الأحزاب التي أبدت استعدادًا مبدئيًا على المشاركة في الحكومة، وهي التي اتفقت على وضع خارطة طريق للحكومة المقبلة. وفي هذا الإطار، أعلنت حركة النهضة إعداد مشروع "وثيقة تعاقد لحكومة ائتلافية"، والذي يتضمن برنامجًا متكاملًا يقوم على خمسة محاور أساسية تتمثل في استكمال وضع مؤسسات الدولة، وتركيز الحكم المحلّي ومكافحة الفساد وتعزيز الأمن وتطوير الحوكمة، إلى جانب محور مقاومة الفقر ودعم الفئات المهمشة ومتوسطة الدخل ومحور دفع نسق الاستثمار والنمو والتشغيل، فضلًا عن مسألة تطوير قطاعات التعليم والصحة والمرافق العمومية.
وفي علاقة بمواقف بقية الأحزاب، أعلن حزب "قلب تونس" دعمه لحكومة وحدة وطنية تحظى بمساندة برلمانية غير أنه لا يزال خارج دائرة المشاورات باعتبار تمسك حركة النهضة بمبدأ عدم التفاوض مع هذا الحزب لشبهات الفساد الذي تحوم حوله. ويبدو أن النهضة شددت الخناق على نفسها، وفق متابعين، بعدم استقطاب الكتلة البرلمانية الثانية من من جهة وعدم ضمانة كسب تأييد الكتل الأخرى وتحديدًا التيار الديمقراطي وحركة الشعب.
وفي المقابل، انتهج الحزب الدستوري الحر سياسة اللاتفاوض رافضًا كل شراكة أو توافق مع حركة النهضة، تمسكًا بنهجها الرافض لأي تعامل مع الإسلاميين وبما يعكس تمسكًا بأجندة بعيدة عن تعقيدات المشهد السياسي وإكراهاته.
الأمين البوعزيزي: "مفاوضات الهوى على الهواء"
في حديثه مع "ألترا تونس"، وصف الباحث الجامعي والناشط السياسي الأمين البوعزيزي المرحلة الحالية لمفاوضات التشكيل الحكومة بـ"مفاوضات الهوى على الهواء"، معتبرًا أنها "ليست تعلية للسقف وإنما قطع للطريق على تشكيل الحكومة وليست غايتها التسهيل أو الشفافية أو الوضوح".
وحول دور الرأي العام كشاهد على هذه العملية التفاوضية، قال محدثنا إن الأحزاب وجدت نفسها "أمام الهجمة المواطنية الكبيرة التي حاولت تقريبًا أن تردع من انتخبهم الناس ليحكموا لا ليعارضوا، هي وجدت نفسها تحت ضغط رأي عام سواء من قواعدها أو من الغيورين على الديمقراطية وبالتالي نزلوا للتفاوض".
الأمين البوعزيزي: من قبلت منافسته ليس هناك سبب يثنيك على الحكم معه بشروط واضحة تدور بين الشركاء ولا تدور في المنابر الإعلامية الدعائية
واعتبر أن التفاوض عادة ما يكون بعيدًا عن الأضواء بين الشركاء، مبينًا "من حق الناس الاعتراض على النهضة، ومن الحق المطالبة بتوثيق تقارير المفاوضات مع إمكانية عقد ندوة صحفية لبيان مجرى التفاوضات والتعهدات وشروط الحكم"، ومضيفًا أن "المزايدات على الهواء هي لقطع الطريق".
وقال إن "أطرافًا تقول منذ عام 2012 إن حركة النهضة متحالفة مع المنظومة القديمة وعندما رفعت الحركة اللاءات في وجه هذه المنظومة ومدت أيديها، تريدون إرجاعها إليها" متسائلًا لهذه الأحزاب "هل أنتم معنيون ببناء الديمقراطية أم لا؟".
وأضاف الأمين البوعزيزي في ذات الإطار "من تجري معه في السباق لا حق لك أن تتنكر له وقت الوصول، من قبلت منافسته ليس هناك سبب يثنيك على الحكم معه بشروط واضحة تدور بين الشركاء ولا تدور في المنابر الإعلامية الدعائية".
تتواصل، في الأثناء، مشاورات جس النبض وعرض شروط المشاركة الحكومية، وتظل الخشية من فشل المفاوضات في نهاية المطاف، وهو ما يجعل من سيناريو إعادة الانتخابات التشريعية خيارًا واردًا وإن كان يؤكد الجميع على سعيه لتجاوزه.
اقرأ/ي أيضًا:
بعد نتائج الانتخابات التونسية، هل انتهى عهد الأحزاب التقليدية؟