28-فبراير-2021

صورة من مسيرة النهضة مساء 27 فيفري 2021 (ياسين القايدي/الأناضول)

 

مقال رأي

 

فقط المناهضون عاطفيًا وايديولوجياً للنهضة شككوا في قدرتها على تحشيد الآلاف في العاصمة في مسيرة يتم التحضير لها منذ شهر وبالتوظيف الأقصى لإمكانياتها المادية واللوجيستية.

المسيرة لم تكن طبعًا "مسيرة الشعب"، ولا مسيرة قاعدة ناخبي النهضة التي لا يمكن أن تتجاوز خمسمائة ألف، ولكن كانت في أحسن الحالات "مسيرة التنظيم" وعائلاتهم. كنت سأفاجأ لو كان الحشد أقل وليس كما رأيناه مساء يوم السبت.

الآن يجب إعادة طرح سؤال عرضناه مرارًا في الأسابيع الماضية: ما الفرق بين ما قبل مسيرة 27 فيفري وما بعدها؟ نعم نجحت النهضة في تحشيد تنظيمها بعد لملمة مؤقتة لجراحها الداخلية لكن لا يمكن "صرف الدينار النهضوي" إلى عملة قوية في السوق السياسي.

نعم نجحت النهضة في تحشيد تنظيمها بعد لملمة مؤقتة لجراحها الداخلية لكن لا يمكن "صرف الدينار النهضوي" إلى عملة قوية في السوق السياسي

كانت المخيّلة النهضوية مرتهنة إلى متلازمة "خطر الانقلاب الوشيك"، وهو محرك أساسي لفرض الانضباط الداخلي وفرض سطوة القيادة، فوبيا العودة إلى السجون واستنساخ النموذج المصري أداة أساسية للحشد العاطفي.

وكانت هناك محاولة لإعادة سيناريو "مسيرة القصبة" صيف 2013 في رد على "اعتصام باردو". لكن ذلك السياق ليس سياق اليوم: كانت "حرب الشوارع" في أوت/ أغسطس 2013 ورقة أساسية في التوازن السياسي إزاء ضعف المؤسسات الكبير وضرب شرعيتها تحت عنوان "المؤقت" (عن حق أو باطل) في سياق موجة الإرهاب، وموجة "الثورة المضادة" الإقليمية وعلى رأسها الانقلاب العسكري في مصر والقمع الدموي في ساحة رابعة.

اقرأ/ي أيضًا: الشارع جزء من الديمقراطية

الآن فقط التهويم والتخيل يمكن أن يرى في مشي قيس سعيّد في الشوارع ووراءه بضع مئات حشدًا منظمًا ومؤسسًا ومدعومًا من "المنظومة" كما كان عليه وضع "اعتصام باردو". بل إذا سنحت المقارنة فإن "مسيرة القصبة" كانت في الأكثر عفوية وجمعت فعلاً طيفاً متنوعًا يتجاوز "تنظيم النهضة"، في حين تبدو أرتال الحافلات التي تم كراؤها من حزب الحكم يوم السبت مشهدًا أقرب لـ"المنظومة" منه لأي شيء آخر. أيضًا المضمون السياسي يكرس صورة "مسيرة الحكومة"، مع ترديد شعارات داعمة للمشيشي وتنادي بحياة رئيس الحركة. "مسيرة قيس سعيّد" لم تتم بعد، وإن حصلت ستكون مختلفة شكلًا ومضمونًا. وربما ستحشد دون تنظم كبير وأموال ما يتجاوز "مسيرة التنظيم" يوم السبت.

لا يوجد هناك "انقلاب" في تونس الآن، توجد أزمة حكم مع ثقة ضعيفة بين مكوناته مضاف إليها أزمة اقتصادية واجتماعية

لا يوجد هناك "انقلاب" في تونس الآن. توجد أزمة حكم مع ثقة ضعيفة بين مكوناته وأزمة دستور بغياب عامل التحكيم أي المحكمة الدستورية، مضاف إليها أزمة اقتصادية واجتماعية هي تعبير عن تراكم الفشل في الإصلاح، وهو الأمر المسؤولة عنه جزئيًا على الأقل حركة النهضة التي أصرت على عدم مغادرة الحكم، ليس من أجل الإصلاح بل من أجل حماية نفسها من فوبيا "الانقلاب".

السياق ليس سياق "حرب الشوارع"، لأن السياق ليس سياق مؤسسات مؤقتة في مخيّلة الكثيرين كما كان حال 2013. الرئيس باق لا يمكن عزله، والبرلمان باق لا يمكن حله على الأقل في إطار المعطيات الراهنة. والسياق ليس سياق ديناميكية عفوية قوية في الشارع. "الشارع" نفر السياسة، وفقط "التنظيمات" (نهضة، اتحاد شغل..) قادرة على الحشد المموّل والمنظم.

"مسيرة التنظيم" أقصى ما يمكن أن تفعله هو حالة العلاج النفسي (therapy) للوضع الداخلي النهضوي، لإمكانية عقد صفقة سياسية وتنازلات

"مسيرة التنظيم" أقصى ما يمكن أن تفعله هو حالة العلاج النفسي (therapy) للوضع الداخلي النهضوي، لإمكانية عقد صفقة سياسية وتنازلات. وربما هنا يمكن المقارنة مع 2013. حيث لعبت "مسيرة القصبة" في نهاية الأمر دور تحسين شروط التفاوض، والتمهيد لصفقة "لقاء باريس".

اقرأ/ي أيضًا: إرباك في أعلى مؤسسات الدولة في تونس

فقط الآن ليس الطرف المقابل سياسيًا كلاسيكيًا مثلما هو حال الباجي قائد السبسي. أكثر ما يقلق لاعبًا سياسيًا مخضرمًا هرمًا مثل راشد الغنوشي هو أنه يلاعب شخصًا مثل قيس سعيّد، لا يملك مفاتيح خوارزميته السياسية، وهو أساسًا دون خوازرمية سياسية.

عندما يرى سعيّد "مسيرة التنظيم" فهو سيتأثر: سيتمسك أكثر من أي وقت مضى بموقفه في طلب استقالة المشيشي، وعدم التحرك خطوة واحدة نحو أية تنازلات. ولأنه لا يمكن عزله، فلا يمكن الحفاظ على الوضع وعلى النهضة وعلى رئاسة البرلمان إلا إذا قبلت النهضة بإبعاد الطرف الوحيد الذي يمكن إبعاده.

في نهاية الأمر ليس المشيشي ابناً من صلبها، هو "طفل عاق" منحته لجوءًا واستخدمته في معركة توازن القصور. وستتخلى عنه بمجرد أن تفهم أن المعبد يمكن أن يسقط على الجميع، وخاصة عندما تشعل القوى الدولية والإقليمية الأهم الضوء الأحمر.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

زنقة المشيشي: إما التفاهم الكبير أو التيه الأكبر

عن مستقبل حكومة هشام المشيشي..