تتحدّد قيمة المسكن في تونس استنادًا إلى عناصر عديدة ومتنوّعة، نذكر منها الموقع والمساحة والتصميم والشروط الصحيّة والمرافق القريبة والجيران ومقرّ العمل والمدارس والجامعات وغيرها من المعطيات الموضوعيّة والأسريّة والذاتيّة أحيانًا، وتتفاوت درجات الطلب كلّما تزايدت المعطيات المذكورة وتظافرت حسب حاجيات الراغب في الشراء أو الكراء. هذه الأحكام العامّة، لا تزيد عن الإخبار، غير أنّها لا تخلو من استثناءات وتحوّلات مثيرة تقتضي النظر والتحقيق منها ظاهرة الإقبال على الشقق ذات الغرفة الواحدة.( s+0/s+1).
صعوبة الحصول على مسكن متكوّن من غرفة واحدة في تونس يرجع حسب "وجد" موظفة في إحدى الوكالات العقاريّة بولاية بن عروس إلى أنّ "العرض محدود بالنسبة إلى الشقق الصغيرة"، لكنّ المشكلة، تضيف وجد، تعود كذلك إلى تزايد الطلب على هذا النوع من المحلات. في نفس السياق، أكّدت أكثر من 10 وكالات عقارية في العاصمة لـ"ألترا تونس" أنّ طابور الانتظار للشقق الصغرى ما انفكّ يتزايد، وأنّ هذا الضرب من الشقق السكنية ما إن ينزل الإعلان عنه حتّى يتمّ الحجز في بضع ساعات.
إقبال كبير على الشقق ذات الغرفة الواحدة في تونس إذ أكدت أكثر من 10 وكالات عقارية في العاصمة لـ"ألترا تونس" أنّ طابور الانتظار للشقق الصغرى ما انفكّ يتزايد وما إن ينزل الإعلان عن إحداها حتّى يتمّ الحجز في بضع ساعات
اللافت أنّ الباعثين العقاريين قد تفطنوا إلى هذا الأمر فأصبحوا يخصصون عددًا هامًّا في تصميم العمارات السكنيّة للشقق ذات الغرفة الواحدة والأطرف من هذا تعمّد بعض أصحاب المحلات السكنية المعدة للكراء تقسيم المنزل المتكوّن من ثلاث غرف إلى منزلين صغيرين خاصّة إذا كان المحلّ مفتوحًا على نهجين، فيزداد الربح وقد يتضاعف ويضمن صاحب المحلّ سرعة إيجاد المستأجر.
لا شكّ أنّ تلك الشهادات تحتاج إلى إحصائيّات دقيقة، ولا بدّ من الاعتراف كذلك أنّ تزايد الإقبال على الشقق ذات الغرفة الواحدة ظاهرة تتجلّى في العاصمة وفي الأحياء الراقية أكثر من بقيّة المدن والأحياء الشعبية وتتضح في محافظات الساحل أكثر من المناطق الداخليّة، ويمكن إرجاع الظاهرة في كليّتها إلى أربع فرضيّات ذات أبعاد ثقافيّة ونفسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة.
تعمّد بعض أصحاب المحلات السكنية المعدة للكراء تقسيم المنزل المتكوّن من ثلاث غرف إلى منزلين صغيرين خاصّة إذا كان المحلّ مفتوحًا على نهجين، فيزداد الربح وقد يتضاعف ويضمن صاحب المحلّ سرعة إيجاد المستأجر
- الشقق ذات الغرفة الواحدة.. طلب الوحدة في زمن قلّت فيه المودّة والثقة
"سمير" معلّم أعزب يعمل بالعاصمة اكترى منذ سنتين شقّة بجهة "لافيات" بالعاصمة تونس تتكوّن من بيت استقبال وغرفة نوم بمعلوم لا يقلّ عن 650 دينار قابل للترفيع بنسبة معلومة كلّ سنة، ومع ذلك لم يخف في حديثه لـ"ألترا تونس" شعوره بالارتياح، فالمال يهون بالنسبة إليه في سبيل راحة البال في زمن تراجع فيه منسوب الثقة والمودّة بين الناس، فالتطلّع إلى الاقتصاد والتوفير المادّي لا ينبغي في كلّ الأحوال.
سمير معلم أعزب لـ"ألترا تونس": أشعر بالارتياح، فالمال يهون بالنسبة لي في سبيل راحة البال في زمن تراجع فيه منسوب الثقة والمودّة بين الناس
ويضيف محدثنا "أن يكون على حساب شروط أخرى أوكد، منها الهدوء والسكينة والشعور بالحريّة والأمان"، فالتجارب السابقة، يقول سمير، قد أثبتت له أنّ الأمزجة متباعدة فقد رافقه في الكراء خلال السنوات الخوالي البخيل والعنيف والسخيف ومن لا يكترث بشروط اللياقة والنظافة، هذا ما جعله يختار المسكن المنفرد اختيارًا لا رجعة فيه مهما بلغ معلوم الكراء، على حدّ تعبيره.
إقبال كبير على الشقق ذات الغرفة الواحدة في تونس (صورة توضيحية/ Getty)
- تباين الأذواق والعادات السلوكية
المسافة بين إنسان وإنسان أبعد أحيانًا من المسافة بين إنسان وحيوان، بهذه العبارة المقتبسة افتتح "منذر" ممرّض بإحدى المصحات الخاصّة كلامه مؤكّدًا، ما معناه، أنّ الثقافة الراهنة أفرزت أمزجة متباينة جدًّا ففي العقود السابقة كان الأفراد يستهلكون مادّة فنيّة وإعلاميّة تكاد تكون متماثلة وهو ما أثمر تقاربًا في التصورات والرؤى أمّا الآن فلا أحد يشبه الآخر، فوارق في الذوق والاختيار والعادات والاعتقادات والأمزجة فهذا متديّن حدّ التشدّد وذاك متفتّح إلى درجة الميوعة والتهوّر وذاك غريب الأطوار يتقلب بين الفينة والأخرى من حال إلى حال، وهؤلاء يعشقون السهر والصخب والقهقهات المدوّية، وأولئك أميل إلى مراعاة تلك القاعدة السلوكية التي لطالما تردّدت على مسامع التونسيين على موجات الإذاعة قبل ثلاثة عقود "العاشرة (ليلا) احترام الجار، العاشرة احترام النائم".
ويختم محدث "الترا تونس" كلامه قائلاً ، إن المال الذي يمكن أن توفره عند الاشتراك في الكراء قد تصرفه في البحث عن التوازن الصحّي والتركيز في العمل وغيرها من شروط الراحة والسلامة، وفق تقديره.
- الطلاق وتأخر سن الزواج
لمّا كان الطلاق في تزايد مستمر في تونس فمن الطبيعي أن يتضاعف الطلب على الشقق ذات الغرفة الواحدة، فالأسرة التي كان يؤويها مسكن واحد من غرفتين أو ثلاث تصبح عند الفراق بين الأب والأم في حاجة إلى منزلين.
لمّا كان الطلاق في تزايد مستمر في تونس فمن الطبيعي أن يتضاعف الطلب على الشقق ذات الغرفة الواحدة، فالأسرة التي كان يؤويها مسكن واحد من غرفتين أو ثلاث تصبح عند الفراق بين الأب والأم في حاجة إلى منزلين
هذه الوضعية الاجتماعية تجعل البعض أميل إلى اختيار شقة صغيرة أو مستودع إن لزم الأمر، وبناء على ذلك كلما زادت حالات الطلاق زاد الإقبال على الشقة ذات الغرفة الواحدة، فكلّ حالة طلاق تقتضي بالضرورة طلبًا جديدًا على شقّة ذات غرفة واحدة، وليس يخفى على أحد أنّ حالات الطلاق في تونس تبلغ عشرات الآلاف كلّ سنة، فقد تخطّت سنة 2022 خمسة وثلاثين ألف حالة وفق تقرير صادر عن جمعية أطفال تونس، وكانت قد قاربت 46 ألف حالة سنة 2020.
ولا يختلف المطلقون عن من تأخر سن زواجهم أو هم معرضون عنه من الذكور والإناث فكلاهما سيكون مدفوعًا لأسباب مختلفة إلى مغادرة منزل العائلة والبحث عن الكراء وسيتجه الاختيار في الغالب الأعم إلى الشقق الصغيرة ذات الغرفة الواحدة.
كلما زادت حالات الطلاق زاد الإقبال على الشقة ذات الغرفة الواحدة (صورة توضيحية/ Getty)
- التحرّر والعلاقات الحميمية
في عقود مضت كان الطلبة و"العزاب" عمومًا ميالون إلى السكن الجماعي في منازل تأوي أحيانًا أكثر من ستة أفراد، وقد مثلت هذه التجارب رافدًا اجتماعيًا وثقافيًا هامًّا خاصّة بالنسبة إلى جيل التسعينيات في القرن المنقضي، فيتحقق بهذا الاجتماع بين شبان من الشمال والجنوب والساحل في مسكن واحد، ضرب من التواصل الغني بالإضافة والتلاقح والتكامل الناشئ عن تنوع التجارب والأذواق واللهجات.
التحرّر والرغبة في الحياة الخاصّة والحميمية قد يكونا من أسباب التوجه للمسكن المنفرد الصغير ففيه يستطيع الشاب أو الفتاة أن يستقبل من يشاء ومتى شاء وكيفما شاء بعيدًا عن الأعين والمضايقات
تقلّصت هذه الاختيارات مع الجيل الحالي لأسباب مزاجية وذوقية، ولكنها ترجع حسب بعض الطالبات والطلبة الذين تحدّث إليهم " ألترا تونس" إلى التحرّر والرغبة في الحياة الخاصّة والحميمية وهذا لا يحصل إلا في المسكن المنفرد ففيه يستطيع الشاب أو الفتاة أن يستقبل من يشاء ومتى شاء وكيفما شاء بعيدًا عن الحسابات والأعين والمضايقات والخلافات.
يتّضح من خلال هذا العرض أنّ الإقبال على الشقق ذات الغرفة الواحدة قد ارتبط بتحوّلات ثقافيّة واجتماعية وأخلاقيّة وذوقيّة، ولئن تأكّد لنا ذلك من خلال الإحصائيّات والشهادات والمعاينات فإنّ الأمر يقتضي مزيد التعمّق، إذ لا نستبعد دوافع أخرى منها على سبيل الافتراض الباعث الفكري، ألا يمكن أن يكون الاكتئاب أو الزهد الديني أو الزهد التأمليّ باعثاً على تخيّر المسكن الضيق ذي الغرفة الواحدة التي تحاكي غربة الإنسان الاجتماعية والوجوديّة؟