22-يونيو-2022
معرض خميس الخياطي شغف الصورة

صورة من معرض الصور الفوتوغرافية للصحفي والناقد السينمائي خميّس الخياطي (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

خميّس الخياطي من المثقفين القلائل في تونس الذين لم ينخرطوا يومًا في مشاريع السلطة أو دوائرها البعيدة أو القريبة، بل كان انحيازه الوحيد لمبدأ الحرية بمختلف قيمها وتجلياتها، وهو الخيط الرفيع الذي به اهتدى طيلة حياته وطيلة العقود التي قضّاها، ولا يزال صحفيًا وكاتبًا في عالم الثقافة حيث أفرد فنّ السينما بمهجة خاصة.

خميّس الخياطي ينحدر من فقر الشمال الغربي التونسي، وتحديدًا من مدينة القصور، حيث لا أفق هناك سوى ترميم كآبة الشتاءات القاسية في ظل الحيف الساري في حق تلك الجهات منذ عهود البايات وإلى حدود الجمهورية الثانية. استقبلته العاصمة تونس بداية ستينيات القرن العشرين ليشق طريقه الوعرة بها بصعوبة، لكنه كان مصرًّا على استنبات أجنحة تجعله يحلق في السماء الواسعة. 

 

كانت الكتابة المنشقة بالنسبة إلى خميّس الخيّاطي هاجسًا مستجدًا (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

وقد كانت نوادي السينما التي بذرها الطاهر شريعة.. أب السينما التونسية على أرض تونس، ملاذًا للخياطي لنحت المصير الفكري والفني والذوقي، والتشبث أكثر فأكثر بالمبدأ الثابت لديه وهو الحرية، والانخراط في ساحة ثقافية ضاجة بكثير الاعتمالات، فكانت بالنسبة إليه الكتابة المنشقة هاجسًا مستجدًا، وكانت التحولات الإيديولوجية والمواقف السياسية في ظل بلد خرج لتوه من تحت نير استعمار استنزف كل ثرواته وطاقاته، شاغله. كما كان الانخطاف الأكبر لخميّس الخياطي نحو أكوان السينما والعوالم الفسيحة للصورة الفوتوغرافية.

ناهز عدد الكتب التي أصدرها خميّس الخياطي 15 كتابًا منها: عن السينما المصرية (1985)، يائسًا من الصورة (2002)، أيام قرطاج السينمائية الذاكرة الخصبة (2016)

درس  خميّس الخياطي علم الاجتماع بالجامعة الفرنسية ونال الدكتوراه هناك، وجرّب التدريس لسنوات قليلة بجامعة السوربون، لكنّ شخصيته التي جُبلت على الفنون والآداب والثقافة أبت القيود والرسميات الأكاديمية. فعاد لممارسة الصحافة المحترفة وإلى الكتابة المنشقة باللغتين العربية والفرنسية، فأصبح عضوًا بهيئة تحرير مجلة اليوم السابع التي كانت تستقبل أقلامًا هامة مثل بيار أبي صعب، ومحمود درويش، وكاظم جهاد.. وغيرهم.

كما أصبح عضوًا بنقابة كتّاب السينما بفرنسا وفي لجنة اختيار الأفلام لأسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي، وعمل لفترة طويلة بإذاعة فرنسا الثقافية وبالقناة التلفزية الفرنسية الثالثة. وأدار الخياطي المكتب الصحفي والاتصالي لمعهد العالم العربي بباريس قبل أن يقرر عودته إلى تونس بداية تسعينات القرن الماضي.

 

قرر الخياطي أن يقدم أرشيفه السمعي البصري إلى المكتبة الوطنية التونسية (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

لم تكن تلك العودة سهلة وهو الكاتب والصحفي الحرّ، فاشتغل في ظل صعوبات جمة بالقناة التلفزية الوطنية معدًّا ومقدمًا لعدة برامج تهتم بالسينما التونسية والعربية والعالمية، كما كان مراسلًا ثقافيًا لجريدة القدس العربي.

أصدر خميّس الخياطي مجموعة من الكتب باللسانين العربي والفرنسي ناهز عددها 15 كتابًا منها: فلسطين والسينما، النقد السينمائي (1982)، عن السينما المصرية (1985)، صلاح أبو سيف (1995)، يائسًا من الصورة (2002)، تسريب الرمل (2006)، أيام قرطاج السينمائية الذاكرة الخصبة (2016).. وغيرها.

خميّس الخياطي لـ"الترا تونس": قدّمتُ أرشيفي السمعي البصري إلى المكتبة الوطنية التونسية من أجل صيانته وفي إطار حفظ الذاكرة والخوف من تلفها

خميّس الخياطي، الشخصية الثقافية التونسية الفذة والاستثنائية، التي بذلت العمر دفاعًا عن حقوق الإنسان في أبعادها الثقافية المختلفة في تونس وخارجها، قرر في الآونة الأخيرة أن يقدم أرشيفه السمعي البصري إلى المكتبة الوطنية التونسية من أجل صيانته وحفظه للأجيال القادمة، فما كان من المكتبة الوطنية إلا أن قامت بالتنسيق مع مؤسسة أخرى مختصة وهي المكتبة السينمائية التونسية (السينماتاك)، من أجل مشروع رقمنة حوالي 6 آلاف صورة و200 ساعة من البث التلفزي والإذاعي، كان  خميس الخياطي قد أنجزها طيلة مسيرته الصحفية والثقافية التي امتدت لخمسة عقود.

 

المكتبة السينمائية التونسية أصدرت كتابًا عنوانه "خميّس الخياطي، شغف الصورة" (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

وضمن هذا الإطار، بادرت المكتبة السينمائية التونسية بتكريم المثقف الحر خميّس الخياطي بإصدارها كتابًا هامًا يقدم جزءًا يسيرًا من السيرة الغنية للمحتفى به، وكان عنوانه "خميّس الخياطي، شغف الصورة" وذلك مع إقامة معرض للصور الفوتوغرافية انتقاها فريق "السينماتاك" من مجموعة "النيغاتيف" التي كان الخياطي قد قدمها إلى المكتبة الوطنية التونسية، وتم حفل توقيع الكتاب وافتتاح المعرض يوم 21 جوان/ يونيو 2022 بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي بالعاصمة تونس بحضور كتاب وصحفيين ومثقفين.

استعانت المكتبة الوطنية بالمكتبة السينمائية التونسية لمشروع رقمنة حوالي 6 آلاف صورة و200 ساعة من البث التلفزي والإذاعي، كان  خميس الخياطي قد أنجزها طيلة 5 عقود

معرض الصور الفوتوغرافية الذي كان بالأبيض والأسود، في إحالة واضحة على مجد الصورة قبل أن تأتي ثورة الديجتال، هو مجموعة من اللقطات الفوتوغرافية التقطها خميس الخياطي مباغتة لأصحابها، انقسم إلى 3 أقسام أساسية هي:

  • قسم أوّل اهتم بالسينما التونسية ورموزها، على غرار: الطاهر شريعة والنوري بوزيد وأحمد بهاء الدين عطية وفتحي الخراط وفريد بوغدير والطيب الوحيشي وفوزي ثابت والطيب الجلولي ونادية عطية ومحمد دمق ورضا الباهي ونجيب عياد وعبد اللطيف بن عمار ومفيدة التلاتلي ومحمود بن محمود والفاضل الجعايبي والمنصف شرف الدين.. وغيرهم.
  • قسم ثان اهتم بالسينما العربية ورموزها على غرار: صلاح أبو سيف ويوسف شاهين ورمسيس مرزوق حسين فهمي وآثار الحكيم وتوفيق صالح وأحمد الراشيدي وخيري بشارة والجيلاني الفرحاتي.. وغيرهم.
  • قسم ثالث اهتم بالسينما العالمية وبعض رموزها على غرار: مارسالو ماستيريانو وفيتوريو قاسمان وقاستون كابوري وجون ماري ستوب وجاكلين بيسي وفيرنا ليزي.. وغيرهم.

 

الخيّاطي لـ"الترا تونس": لم يتم الالتفات إلى موضوع حفظ الذاكرة الثقافية والسينمائية بالشكل الكافي (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

أما الكتاب الذي صدر بهذه المناسبة من قبل المكتبة السينمائية التونسية والمركز الوطني للسينما والصورة وتحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية، وحمل عنوان "خميّس الخيّاطي، شغف الصورة" فإنه يقدم بإيجاز مسيرة هذا المثقف العضوي الذي طبع السينما التونسية وطبعته، والمنشغل بالصورة الفوتوغرافية بجنون وجرأة، قابضًا بذلك على لحظات عاتية ووجوه اضمحلت، وأخرى ارتحلت، ونجوم غابت في الزحام، وحالمين بالسينما لكن النسيان استبد بهم.

يتحدّث الكتاب عن أيام قرطاج السينمائية وعن كواليس تصوير شريط "وداعًا بونابرت" ليوسف شاهين ومهرجان كان السينمائي وحوارات مع صلاح أبو سيف.. إنه تمشٍ تقدمي حرّ، قام به الخياطي في أزمنة الدكتاتورية بكل شجاعة غير طامع في أي شيء.

 

الخيّاطي لـ"الترا تونس": لم أتدخل في اختيار اللقطات المعروضة ببهو "السينماتاك" (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

وحول المعرض والكتاب، تحدث خميّس الخيّاطي لـ"الترا تونس" مشيرًا إلى أنه لم يتدخل في اختيار اللقطات المعروضة ببهو "السينماتاك"، وأنه اكتشفها مع جمهور المشاهدين، كما تمثل بالنسبة إليه مذاكرة لمحطات وتظاهرات وأسماء سينمائية سجلها التاريخ للثقافة التونسية والعربية. وأضاف أن موضوع حفظ الذاكرة الثقافية والسينمائية على وجه الخصوص لم يتم الالتفات إليها بالشكل الكافي في تونس وفي الوطن العربي وذلك رغم أهميتها حتى نفهم ما حصل في المجتمع في فترات بعينها، وفقه. وعن تقديمه لأرشيفه السمعي البصري للمكتبة الوطنية التونسية أكد خميس الخياطي أن ذلك يندرج في إطار حفظ الذاكرة والخوف من تلفها.

مدير المكتبة السينمائية التونسية لـ"الترا تونس": شرع فريق علمي في رقمنة الرصيد السمعي البصري المهم تاريخيًا الذي يملكه الصحفي والناقد السينمائي خميس الخياطي

وقد تحدث من جهته، الجامعي والسينمائي طارق بن شعبان مدير المكتبة السينمائية التونسية لـ"الترا تونس"، عن الأهمية التاريخية للرصيد السمعي البصري الذي يملكه الصحفي والناقد السينمائي خميس الخياطي بالنسبة للباحثين في الشأن السينمائي التونسي والعربي، موضحًا أن المكتبة الوطنية سلمتهم هذا الرصيد الذي قام فريق علمي بالاشتغال عليه والشروع في رقمنته. وأن عشرات الصور التي قدمها المعرض، هي نزر قليل من الكنز الكبير.

إن البادرة التي قام بها خميس الخياطي من تقديم أرشيفه للمكتبة الوطنية التونسية، وما انجر عنها من عمليات رقمنة قامت بها مؤسسات وطنية، تعدّ عملًا نبيلًا تجاه الذاكرة الثقافية التونسية والعربية، وهي تعكس مرة أخرى ما يتحلى به الخياطي من روح غرامشية وتقدمية، تنظر بشغف للمجتمع من أجل التغيير المثمر.