مقال رأي
في العام 1890، صادق الكونغرس الأميركي على قانون "شيرمان" لمنع الاحتكار (Sherman Antitrust Act)، وهو يهدف كما يدل عنوانه إلى منع تشكّل كارتلات تجاريّة تحدّد الأسعار فيما بينها في وقت بروز ملامح النظّام الاقتصادي الأميركي بشكله الحالي، والاقتصاد العالمي لاحقًا. من خلال هذا القانون، تقوم الحكومة بالتحقيقات اللازمة والاستقصاء للحدّ من تغوّل الشّركات أو الكونغلومرات (Conglomerate). وما استدعاء الكونغرس الأميركي لمجموعة "غافا"1 (GAFA) مؤخرًا إلّا وجه من أوجه مقاومة الاحتكار والتفّرد بالسّوق في الولايات المتحدة.
اقرأ/ي أيضًا: بورجوازية الريع في تونس: خريطة المصالح
في نفس الإطار وعلى صعيد محلّي، اُحدث في تونس المجلس الأعلى للمنافسة بمقتضى القانون عدد 42 لسنة 1995، وله مهمتان أساسيّتان: قضائيّة حيث ينظر في الدعاوى المرفوعة إليه حول ممارسات مخلّة بحريّة المنافسة كالاتفاقات بين الشّركات أو شبهات الاستغلال المفرط، والمهمّة الثّانية هي استشاريّة أين يبدي رأيه ضمن الجلسات العامة في التشّريعات المتعّلقة بالإمتيازات الاقتصاديّة والتّمثيلات التجاريّة للشركات العالميّة داخل الأسواق التونسيّة. إلا أن هذا لم يمنع من تغوّل بعض الشّركات على بعض القطاعات واحتكارها، ناهيك عن تحديد الأسعار واقتسام السّوق فيما بينها بطريقة ترضي أصحابها وتخنق المستهلك. فماهي أسباب ذلك ومظاهره؟ وإلى متى يستمر هذا "التآمر" على جيب المواطن؟
كارتيلات تجاريّة
يقول عالم الاقتصاد الأميركي ميلتون فريدمان (Milton Friedman) في محاضرة بجامعة شيكاغو عام 1977: "لو تحققت وبحثت خلف كل عمليّة احتكار ستجد تدخّلات حكوميّة". أوّل اختبار يواجهه موظّف في بداية مشواره المهني هو اختيار البنك الذي سيفتتح به حسابه، بنوك كثيرة بين عموميّة وخاصة، أسماء كثيرة يتلخبط بينها كل شاب حيث لا معرفة له بالأنظمة البنكيّة والمصرفيّة عدا من مرّوا بهذا المجال خلال دراستهم من طلبة الاقتصاد والتّصرّف. أمّا الباقي، فتكوينهم معرفي وتقني بالأساس. تبدأ الحيرة والنقاشات بين الأصدقاء حول أي البنوك أفضل، ويغفلون أن القاعدة الذهبيّة هي: "ليس هناك أفضل بنك، هناك فقط أفضل حريف". فالبنوك توزّع خدماتها تفاضليًا بين حرفائها حسب مداخيلهم، إذ تصنّفهم في مجموعات باعتماد أجورهم بالأساس. وداخل نفس المجموعة، لن يجد أفرادها فرق بين بنك وآخر لو قارنوا إلّا فارقًا طفيفًا في المعاملات والتداولات اليومية. لكن لو جمعنا الأتاوات على الخدمة والعمولات في بنك ما على طول السّنة وقورنت مع بنوك أخرى سنجد أنّها جميعًا متقاربة، مع اختلاف طفيف نسبيًا في حدود بضعة دنانير.
صرّح سفير الاتحاد الأوروبي باتريس برغاميني بتونس ذات يوم أن "بعض العائلات الاقتصادية في تونس ليست لديها مصلحة في صعود مستثمرين اقتصاديين جدد"
تستمرّ الرّحلة في اختيار الهاتف، ومزوّد الأنترنت، والأثاث والملابس (المستعملة والجديدة) ليكتشف المواطن الشّاب، أيّا كان عمله، أنّه وقع داخل منظومة احتكارّيّة مختلفة الأطراف ومتباينة المجالات، يجمعهم رابط واحد: "الغنيمة". كارتيلات اقتصاديّة على شاكلة كارتيلات المخدّرات المكسيكيّة متكوّنة من بارونات قطاعيّة، تجتمع لتحدّد الأسعار والخدمة فيما بطريقة ترضيهم جميعًا وتغلق أبواب الاختيار والتنافس أمام المواطن/المستهلك. يرفعون الأسعار فيما بينهم بطريقة متزامنة ويخفضون الجودة لتلائم أطماعهم حتّى تبخرت علاقة السعر-الجودة وصار الخدمات رديئة بأسعار ناريّة و"أشربْ ولّا طيّرْ قرنكْ" كما يقول المثل الشّعبي.
صرّح سفير الاتحاد الأوروبي باتريس برغاميني بتونس ذات يوم أن "بعض العائلات الاقتصادية في تونس ليست لديها مصلحة في صعود مستثمرين اقتصاديين جدد". عائلات متغوّلة عبر التّاريخ تعيد إنتاج هيمنتها مع كلّ جيل ومرحلة عبر ارتباطها بالسلطة وارتهان الأخيرة لها سواءً بالتقاعس أو التواطؤ أو الطمع والمحاباة حتى صارت أقوى من الدّولة إمّا بالابتزاز أو التّهديد بخلق أزمات اجتماعيّة في مرحلة سابقة، ثمّ بالتغلغل داخل الأجهزة السّياديّة من خلال تمويلات الحملات الانتخابيّة وتعيين عملائهم في المرحلة الحالية.
بارونات الاحتكار: ملوك تجارة السيّارات في تونس
بعد عذاب نفسي ومادّي يتكبّده أي موظّف شاب جرّاء منظومة النّقل العمومي والخاص الرّديئة (حافلات، سيّارات أجرة وقطارات إلخ)، تترسّخ لديه قناعة بأنّ الحل يكمن في اقتناء سيّارة يريح بها نفسه من سوّاق التّاكسي المتكبّرين وأعوان النقل الغليظين، وهنا تكون الصدمة الثّانية. يشير مؤشّر السّيّارات العالمي (THE GLOBAL CAR INDEX) أنّ تونس تحتلّ المرتبة الخامسة ضمن قائمة أغلى الدول مبيعًا للسيّارات بعد كوريا الشّماليّة، وكوبا، ونيكاراغوا وماليزيا. حيث يصل سعر السيّارة من 200 إلى 300 في المائة من سعر تصنيعها في البلد المصنّع. مفارقة عجيبة، يعزي البعض (أصحاب وكالات البيع) أنّ السبب هو الأداءات الديوانيّة المشطة وتهاوي الدّينار، في حين يرى البعض الآخر (خبراء اقتصاديّون) أن احتكار بعض العائلات الماركنتليّة هو السّبب في هذا الغلاء (عائلة الوكيل: مازدا وسيتروان، عائلة المبروك: لوموتور، عائلة بوشماوي: كيا إلخ). حيث أن أسعار السيّارت الشعبيّة هو في حدود 30 ألف دينار تونسي مع فارق بسيط بين مختلف الماركات التي تمتلكها العائلات آنفة الذكر، نفس الشي في السيّارات السّياحية حيث تتراوح أسعارها من 45 إلى 55 ألف دينار. يعني مع تقارب التكلفة في الخارج، والأداءات الثابتة في تونس، نرى أن هامش الرّبح متساو بين مختلف الماركات.
عائلات متغوّلة في الاقتصاد التونسي عبر التّاريخ تعيد إنتاج هيمنتها مع كلّ جيل ومرحلة عبر ارتباطها بالسلطة وارتهان الأخيرة لها
يتّجه إذًا الموظّف نحو الصّدمة الثالثة: سوق السّيّارت المستعملة أين يأمل أن يجد ضالته في سيّارة في وضع جيد نسبي وبسعر مناسب. إلّا أنّ واقع يقول أنّه هرب من احتكار الكبار ليقع في رابطة الهواة، ملعب السّماسرة والمضاربين (القشّارة). سعر سيّارة يقارب عمرها 5 سنوات (في حدود 150 ألف كلم) بين 20 و25 ألف دينار. أي أنّ وكيل البيع والسمسار يربحان، كل على حدة، أكثر مما تحرزه الشركة المصنّعة نفسها. لماذا كل هذا؟ لأنّ السلطة، أيّام الفتى المدلّل وسليل الأعيان ابن أخت حسيب المخزني (رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد)، قد سنّت قانونًا10 يقضي بعدم السّماح ببيع سيّارة استوردها مواطن ضمن امتياز الـFCR إلّا بعد عام من جولانها في الترّاب التّونسي، بتعلّة مقاومة التّهريب ودعم الرّأسمال الوطني. ولمصلحة من هذا القانون؟ للقارىء أن يحزر وحده.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يجب أن يكون إنعاش الاقتصاد أولوية؟
ماذا بقي للموظّف البائس ضمن طبقته المهترئة فطريًا؟ البنوك؟ نفس الشّروط والفائدة بين كل البنوك على اختلاف أسمائها. ويتصادف أن لكل عائلة من العائلات المالكة نصيب في بنك من البنوك النشطة داخل تراب الوطن. فيوجهك البنك "عفويًا" نحو شركة بدعوى شراكة مبرمة، ويتصادف أيضًا، وما أكثر المصادفات في بلدي، أنّ هذه الشّركة مملوكة لنفس العائلة المساهمة في البنك. فيخرج الموظّف ممتعضًا باحثًا عن سيجارة يخفّف بها كدره، ليجد أنّ التبغ مفقود عند "الحمّاصة"، لكنّه متوفّر عند محّلات "الفرانشيز"/السّوبرماركت، بعد أن منحها غلام، ذو فك حديدي في ماض قريب، امتياز بيع التبغ، بتعلّة مقاومة التّهريب أيضًا ودعم الرّأسمال الوطني المالك أيضًا لهذه المحلّات. ماذا بقي إذًا؟ محلّات بيع أحلام الهجرة ودوّامة أخرى من الاحتكار والتحيّل والأوهام. وأين الدولة من كل هذا؟
المجلس الأعلى للمنافسة
كتب القاضي محمد العيادي نائب رئيس المجلس الأعلى للمنافسة، في حسابه على فيسبوك، أن المجلس أصدر منذ تأسيسه 111 قرارًا لم ينفّذ معظمها. حيث من جملة 35 مليون دينار خطايا، تم خلاص 4.5 مليون دينار فقط. هيكل رقابي من المفروض أن يلعب دورًا حاسمًا داخل المنظومة الاقتصاديّة الحالية، حاله حال جلّ الهياكل الرّقابيّة التي ورثتها الجمهوريّة الثّانية واستساغت حلاوة عجزها فحافظت على شكلها الرمزي مغفلة شللها الحركي في امتداد لنظام الماركنتليّة الجاثم على قلوب النّاس منذ فجر الدّولة الحفصيّة وربّما أبكر.
هيكل رقابي من المفترض أن يكون صمّام أمان النّظام الاقتصادي يقوم شكلًا على تشجيع المبادرة الحرّة، إلّا أنّ واقع التجربة يقول عكس ذلك. فالنظام البيروقراطي من جهة وعجز مجلس المنافسة من جهة أخرى، بالإضافة لترابط السّلطة بالمال، كل هذا أفضى إلى نظام اقتصادي هجين بين ليبرالي واشتراكي مع إقطاعية مقيتة تقطع كل نفس شبابي يتجرّأ على لمس فتات طاولة الأعيان.
أفضى النظام البيروقراطي من جهة وعجز مجلس المنافسة من جهة أخرى، بالإضافة لترابط السّلطة بالمال، إلى نظام اقتصادي هجين بين ليبرالي واشتراكي
تتنظم دوريًا بنزل البلاد ندوات روتينية لتباحث أزمات مزمنة كأزمة هجرة الكفاءات التقنية أو الهجرة السّريّة وحتّى الإجرام. يرعى هذه النّدوات، في شكل كاريكاتوري، هؤلاء البارونات حيث يحضرون لمشاهدة مسرحيّة يؤثّثها أحد أفراد عائلاتهم الذي يسعى لاكتساب رأسمال اجتماعي يعزّز به رأسماله الرّمزي عبر إلقاء محاضرات حول الوطن والوطنيّة وضرورة التشبّث بالوطن والبذل في سبيله وهو في أمسّ الحاجة إلى أبنائه الذين ربّاهم وكوّنهم. مسرحيّات ضجر منها الموظّف الشّاب الذي صارت تلاحقه أخبارها حتّى في صفحات التّواصل الإجتماعي عبر خوارزميّات غبيّة ربطت بين كلمة الهجرة التي كتبها في محرّك البحث وظهورها في عنوان النّدوة. فأصرّت إلّا أن تلاحقه في الافتراضي لتكتمل خيوط المؤامرة من خلال تدخّل الكابيتال العالمي ليدعم كمبرادوريه الجدد لتستمرّ التّراجيديا التاريخيّة كأنها قدر محتوم خطّه ربّ يفترض أنّه حكيم عليم قبل أن يعلن زراديشت نهاية عهده دون ذكر خلفه أو أنّه ذكر؟
1- شركات غوغل وآبل وفيسبوك وآمازون (Google+Appel+Facebook+Amazon= GAFA).
اقرأ/ي أيضًا: