مقال رأي
تدقيق النظر في علاقة رئيس الدولة قيس سعيّد بالآجال، الواردة في الدستور أو التشريعات عمومًا، تبدو غير سويّة: عدم احترام وسوء تقدير. فهو لا يحتكم، عمومًا، للآجال ولا يلتزم بها، وإن غلبته فهو يتجاوزها بل ويلغيها. أصبحت الآجال بذلك ليس معيارًا موضوعيًا للالتزام بإجراء قانوني ما أو عهدة زمنية محددة، بل مجرّد تنصيص بات معلومًا أنه هامشيّ أمام سلطة لا تلتزم بها. فالأستاذ المتقاعد في القانون الدستوري لا يحب دائمًا أي تقييدات ولو كانت آجالًا، إلزامية كانت أو استحثاثية. فالزمن رئاسي دائمًا أو لا يكون.
قيس سعيّد لا يحب دائمًا أي تقييدات ولو كانت آجالًا، إلزامية كانت أو استحثاثية، فالزمن رئاسي دائمًا أو لا يكون
انحراف رئيس الدولة بتطبيق دستور 2014 لم ينطلق منذ إعلان التدابير الاستثنائية، بل انطلق قبلها. إذ رفض، بداية عام 2021، تلقّي اليمين الدستورية للوزراء الجدد المعيّنين إثر تعديل وزاري، مبرّرًا، في رسالة بالخط العربي كتبها لرئيس الحكومة وقتها، أن ظرف الزمان الوارد في الفصل 89 لا يتعلق بالتعديل الوزاري، وعليه، فإنه غير ملزم بأجل محدّد لتلقّي اليمين. تأويل متعسّف لتبرير عدم الالتزام بقواعد اللعبة، أسهم غياب المحكمة الدستورية حينها في فرضه.
ولكنّ صورة العبث انجلت وقتها برفض الرئيس المصادقة على تعديل قانون المحكمة الدستورية في الآجال الدستورية. التبرير هذه المرّة أن أجل إنشاء المحكمة هو عام منذ أول انتخابات تشريعية بعد الدستور، مضيفًا أن تلك الآجال تهم النظام العام مستشهدًا بقرارات من محكمة التعقيب. وأضاف أنه لا توجد آجال استنهاضية أو استحثاثية مستعرضًا معاني الاستنهاض والاستحثاث في قواميس العرب.
تجاوز الآجال الدستورية -بوصفه سنّة رئاسية- توضّح عدم احترام أجل إنهاء التدابير الاستثنائية التي تحوّلت إلى فرض مسار تأسيسي أحادي، انتهى لتركيز نظام سلطوي فرداني
التبرير كان ضربًا من العبث، ذلك أن منطوقه هو أنه مادام لم تحدث محكمة دستورية في أجل عام فلا يجوز إحداثها إثر ذلك. وإن ما كان تصحيح الوضعية، وفق منطقه، يفترض تعديلًا للدستور، فإن هذا التعديل لا يتم إجرائيًا إلا بوجود محكمة دستورية. هي دوّامة مغلقة ابتدعها الرئيس في سياق مناكفته للأغلبية البرلمانية. مع ملاحظة أن قيس سعيّد قبل تولّيه الرئاسة لم يشر البتّة إلى مسألة عدم دستورية إرساء المحكمة في صورة عدم تركيزها في أجل عام. تأكيد جديد لعدم مبدئيته ومدى توظيفه للآجال لتعطيل استحقاق تركيز المحكمة التي كان بيّنًا أنه لم يكن يسعى لوجودها.
وتجاوز الآجال الدستورية بوصفه سنّة رئاسية توضّح بعدم احترام أجل إنهاء التدابير الاستثنائية التي تحوّلت إلى بوّابة لانقلاب على المؤسسات الشرعية للدولة وفرض مسار تأسيسي أحادي انتهى، اليوم، لتركيز نظام سلطوي فرداني.
الرئيس لا يظهر أنه يجيد تقدير الزمن، على نحو أن حتى الآجال التي يضعها بنفسه لنفسه لتنفيذ أجنداته لا يحترمها
المعضلة الأخرى أن الرئيس لا يظهر أنه يجيد تقدير الزمن، على نحو أن حتى الآجال التي يضعها بنفسه لنفسه لتنفيذ أجنداته لا يحترمها. وكانت الصورة البيّنة أنه نشر النص النهائي لمشروع الدستور المعروض على الاستفتاء، والذي أعدّه بنفسه لنفسه في الغرف المغلقة، خارج الآجال. ولكن لا رقيب ولا جزاء.
وآخر مظاهر سوء تقديره للزمن للقيام بأعمال ما يؤدي بالتبعية لتجاوز الآجال، هو فشل لجنة الصلح الجزائي، التي عيّن مدة أعضائها بستة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة، لاسترجاع مبلغ 13 مليار دينار يقول الرئيس، دون أي أساس موضوعي معلوم، إنها منهوبة بل وإنها ستعود للخزينة العامة. إذ انتهت المدة القصوى للعضوية ولكن واصلت اللجنة أعمالها. معضلة عالجها الرئيس بمشروع لتنقيح المرسوم مؤخرًا ألغى أي تحديد زمني للعضوية، ودون تحديد مدة لعمل اللجنة نفسها. الأمر الذي حوّل آلية الصلح الجزائي إلى آلية غير وقتية ممتدّة في الزمن، بحسب تقدير الرئيس فقط، بما يجعلها آلية موازية للتقاضي، وهو ما يمسّ من حقوق الأفراد بدرجة أولى. خاصّة وأن إقرار مشاريع الصلح بات بيد السلطة التنفيذية من بوابة مجلس الأمن القومي.
إلغاء أي تحديد زمني لعضوية لجنة الصلح الجزائي، وعدم تحديد مدة عملها، حوّل آلية الصلح الجزائي إلى آلية غير وقتية ممتدّة في الزمن، بحسب تقدير الرئيس فقط
وفي السياق نفسه، أورد مرسوم الصلح في فصله الحادي عشر لزوم سدّ الشغور صلب اللجنة في أجل 10 أيام فقط. الأجل الذي لم يحترمه الرئيس مطلقًا إذ أعفى منذ مارس/آذار 2023 رئيس اللجنة دون تعويضه حتى الآن، أي منذ 10 أشهر على الأقل. ومرسوم الصلح نصّ، في الأثناء، على آجال مقتضبة في عديد المواضع من ذلك أجل 20 يومًا للجنة الخبراء لتقديم تقاريرها بشأن ملفات طالبي الصلح، وهو أجل محدود جدًا يبيّن أن الرئيس لا يقدّر حجم أعمال الاختبار المستوجبة ومدّة إنجازها.
ذات الصورة تكرّرت بخصوص مدة عمل لجنة التدقيق في الانتدابات صلب الوظيفة العمومية التي تحددت بشهرين انقضت في ديسمبر/كانون الأول 2023. ولكنّها لم تتمّ أعمالها ليلجأ الرئيس مجددًا لتعديل الأمر الرئاسي المتعلق بإحداثها ليمدّد مجددًا في مدة عملها بشهرين آخرين.
بالنهاية، تبدو للرئيس معضلة عويصة مع الآجال، ولذلك لا يجد حرجًا من تجاوزها ولو كانت آجالًا دستورية إلزامية، فالغاية دائمًا ما تبرّر الوسيلة عنده. تجاوز يؤشر لعدم التزام بالقواعد الضابطة التي تعدّ الآجال الزمنية أحد عناوينها. ومعضلة الرئيس تمتدّ حتى للآجال الذي يحدّدها بنفسه بما يؤشر أيضًا لسوء تقديره للزمن على نحو يعكس سوء تقديره دائمًا وبوجه عامّ.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"