18-أبريل-2023
 قيس سعيّد والمقداد

تونس قطعت علاقاتها يوم كانت صوتًا للشعب العربي الثائر، وهي اليوم تُستأنف العلاقات يوم التحقت بخيبات الأمّة

مقال رأي 

 

تطبيع الدولة التونسية العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري بتبادل السفراء بين البلدين، هي خطوة منتظرة من رئيس الجمهورية قيس سعيّد بالنظر إلى موقفه من الأزمة السورية، منذ ترشحه للرئاسيات 2019، القائم على تأكيد النأي عن التدخل في الشأن السوري، وتجنّب استعمال لفظ الثورة السورية أو إبداء الدعم للمطلبية الديمقراطية مع تشديده على التمييز بين الدولة والنظام.

ظلّ سعيّد يترصّد اللحظة الإقليمية المناسبة لإعادة العلاقات، والتي حلّت مؤخرًا بتوجّه عواصم عربية مؤثرة نحو التطبيع غير المشروط للعلاقات مع النظام السوري وذلك ضمن تسويات في المنطقة من عناوينها أيضًا المصالحة السعودية الإيرانية

لكن ظلّ يترصّد اللحظة الإقليمية المناسبة، التي حلّت مؤخرًا بتوجّه عواصم عربية مؤثرة مثل الرياض والقاهرة وأبو ظبي نحو التطبيع غير المشروط للعلاقات مع النظام السوري ورفع تعليق عضويته في جامعة الدول العربية، وذلك ضمن تسويات في المنطقة من عناوينها أيضًا المصالحة السعودية الإيرانية.

وقبل حلول هذه اللحظة، كان سعيّد متحمسًا لتعزيز القنوات المباشرة مع النظام السوري بما عكسه الاجتماع بين وزير خارجيته ووزير خارجية النظام بنيويورك في سبتمبر/أيلول 2021 على هامش أشغال الجمعية العامة، وهو أول اجتماع بين وزيري خارجية البلدين منذ قطع العلاقات عام 2012.

 

 

يظلّ قرار التطبيع غير المشروط للعلاقات مع النظام السوري مشوبًا تونسيًا بعديد الأسئلة المشروعة ليس أولّها فيما يحمله من رمزية مرتبطة بتونس بوصفها نموذج الانتقال الديمقراطي للثورات العربية عام 2011، على الأقل طيلة العشرية المنقضية. وهي رمزية حملت على النخبة السياسية الحاكمة، التي أنتجتها أول انتخابات بعد الثورة، واجب دعم المطالب المشروعة للشعب السوري في الحرية والكرامة اُسوة بالشعب التونسي.

وضمن هذه المسؤولية الأخلاقية والسياسية أيضًا، قرّرت تونس قطع علاقاتها مع نظام بشار الأسد بداية فيفري/شباط 2012 قبيل تنظيم مؤتمر "أصدقاء سوريا" الذي تمسّك خلاله الرئيس السابق المنصف المرزوقي برفضه المبدئي لتسليح المعارضة مشددًا في كلمته وقتها "لا للتسليح، لا للتدخل العسكري، نعم للحل السياسي وإلا فإنه خراب سوريا".

وهو الخراب الذي فرضه تباعًا النظام البعثي بعد دفعه لتحويل البلد إلى ساحة خلفية للتحارب بين قوى دولية وإقليمية وانتشار الجماعات الإسلاموية المتطرّفة، بما أدى لمقتل مئات آلاف السوريين وتشريد وتهجير الملايين، في نكبة حوّلت سوريا إلى بلد جريح ينزف دمًا.

لم يكن قرار قطع العلاقات الدبلوماسية إلا وسيلة ضغط ضمن حراك إقليمي ودولي لدفع النظام السوري للكفّ عن الجرائم ضد السوريين والاستجابة لمطالبه ضمن حلّ سياسي

لم يكن قرار قطع العلاقات الدبلوماسية إلا وسيلة ضغط ضمن حراك إقليمي ودولي لدفع النظام السوري للكفّ عن الجرائم ضد السوريين والاستجابة لمطالبه ضمن حلّ سياسي. ولم يكن لتونس الثورة، وبالضرورة، إلا أن تتخّذ هذا القرار المبدئي المنحاز للشعب السوري في مواجهة نظام فاشي معزول دوليًا.

تباعًا وفي السنوات اللاحقة، ومع خفوت موجة الربيع العربي إقليميًا وصعود غير المتحمّسين لرياحه للسلطة في تونس، عيّن الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، عام 2015، قنصلًا عامًا بدمشق، وأعاد، بعد سنتين، تركيز بعثة دبلوماسية في سوريا. الخيار بيّن، لكن السبسي، المخضرم في عالم الدبلوماسية، لم يكن له أن يخرج وقتها عن الإجماع العربي.

المثير للالتباس مع سعيّد، الذي دفع السياق الإقليمي لخياره في التطبيع الكامل للعلاقات مع النظام، أنه يتخالف مع ادعاءاته في دعم حق الشعوب في نداء الحرية، فواقعًا، هو لم يكن حقيقة متحمّسًا للثورات العربية وإبداء دعمه لها.

 

 

من جانب آخر، يمثل الانخراط في التطبيع مع النظام شاهدًا آخر على تطابق المواقف بين تونس والجزائر رغم تمايزهما طيلة السنوات السابقة، باعتبار أن الجزائر رفضت، منذ البداية، تعليق مقعد النظام في جامعة الدول العربية وظلّت طيلة سنوات تدفع لإعادة العلاقات الرسمية العربية معه.

كان المنتظر، راهنًا وعلى الأقل، أن تتبنّى الدبلوماسية التونسية موقف التطبيع المشروط كالذي تتبناه اليوم بعض العواصم العربية، ومفاده عدم تمكين النظام الأسدي من هدية التطبيع دون قيامه، في المقابل، بخطوة الانخراط في تسوية سياسية جديّة

في المقابل، كان المنتظر، راهنًا وعلى الأقل، أن تتبنّى الدبلوماسية التونسية موقف التطبيع المشروط كالذي تتبناه اليوم بعض العواصم العربية، ومفاده عدم تمكين النظام الأسدي من هدية التطبيع دون قيامه، في المقابل، بخطوة مماثلة وهي الانخراط في تسوية سياسية جديّة.

بشار الأسد لا يزال لا يعترف حتى الساعة بشرعية مطالب السوريين، وهو يعطّل أي خطوة للحل السياسي السلمي كتعطيله عمل اللجنة الدستورية التي تعمل تحت المظلة الأممية. لا تزال تتواصل جرائم النظام ومليشياته، وباتت سوريا، بالنهاية، فاقدة لسيادتها أمام وكالة الإيرانيين والروس، بما يهدّد الأمن القومي العربي. ألم يكن لقيس سعيّد أن يتبنى، على الأقل، موقف التطبيع المشروط؟

بشار الأسد لا يزال لا يعترف حتى الساعة بشرعية مطالب السوريين، وهو يعطّل أي خطوة للحل السياسي السلمي وباتت سوريا، بالنهاية، فاقدة لسيادتها أمام وكالة الإيرانيين والروس، بما يهدّد الأمن القومي العربي. ألم يكن لسعيّد أن يتبنى، على الأقل، موقف التطبيع المشروط؟

يبرّر سعيّد، في الأثناء، تطبيع العلاقات بعدم التدخل في "اختيارات الشعب السوري"، كما ورد في بلاغ رئاسة الجمهورية التونسية بتاريخ 11 مارس/آذار 2023، ليحلّ السؤال: هل أن النظام البعثي الذي يحكم البلاد بالحديد والنار وبدعم مليشيات ودول أجنبية، هو اختيار بحق للشعب السوري؟ إن الخشية، في هذا الموضع، هو اعتبار فوز الأسد بولاية رئاسية رابعة بنسبة 95 في المائة في المسرحية الانتخابية المثيرة للسخرية التي نظمها قبل عامين، هو المقصود باختيار الشعب السوري لدى سعيّد.

قرار سعيّد بتطبيع العلاقات مع النظام السوري وتبادل السفراء هو هدية مجانية يقدّمها لنظام فاشي قاتل لشعبه ولا يزال يكابر في الاعتراف بمطالبه. وبشار الأسد هو المستفيد الرئيسي من هذا التطبيع لما تحمله تونس من رمزية كنموذج للانتقال الديمقراطي في المنطقة، وهو النموذج الذي يتبدّد بدوره بسبب سعيّد نفسه. ولذلك، لم يكن من قبيل الصدفة أن تونس قطعت علاقاتها مع النظام البعثي يوم كانت صوتًا للشعب العربي الثائر، وهي اليوم تُستأنف العلاقات يوم التحقت بخيبات أمّة سُرق ربيعها وتلاشت استحقاقاتها.

قرار سعيّد بتطبيع العلاقات مع النظام السوري وتبادل السفراء هو هدية مجانية يقدّمها لنظام فاشي قاتل لشعبه ولا يزال يكابر في الاعتراف بمطالبه

في الأثناء، إن حسابات استراتيجية ومصالح اقتصادية متشابكة هي التي دفعت عواصم عربية للتطبيع مع النظام السوري، بيد أن تونس غير مستفيدة من هذا التطبيع بما في ذلك وبالخصوص على المستوى الاقتصادي. فحجم التبادل الاقتصادي بين البلدين عام 2010، قبل اندلاع الثورات، لم يتجاوز 37 مليون دولار فقط، وهي قيمة محدودة جدًا.

بل على الخلاف، تتضرّر تونس بتبادل الطواقم الدبلوماسية على مستوى السفراء فيما يتعلّق بمخاطر اتجار النظام السوري بالمادة المخدرة الكبتاغون، الذي بات أكبر مروّج لها في العالم. ومن المهمّ، في هذا الجانب، أن تولي الأجهزة الأمنية في تونس، في المستقبل، الاهتمام اللازم لمراقبة التدفقات والتبادلات مع النظام المروّج للمخدرات.

أكثر ما يجمع بين سعيّد والأسد هو اعتماد الخطاب المؤامراتي لوصم المعارضين وللهروب من المطالب المشروعة

قيس سعيّد بقراره التطبيع غير المشروط مع النظام السوري، بالنهاية، يزيد من استنزاف رصيد تونس الثورة أكثر فأكثر. وليس من باب الطرافة، أن أكثر ما يجمع بين سعيّد والأسد هو اعتماد الخطاب المؤامراتي لوصم المعارضين وللهروب من المطالب المشروعة: الأسد لا يتحدث إلا عن "المؤامرة الكونية" ضد سوريا، وسعيّد لا يتحدث إلا عن "المؤامرات" من "الخونة والعملاء". وعسى أن المتشابه بينهما يقف عند هذا الحدّ لا أكثر.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"