29-أبريل-2021

"لا حل إلاّ بتسوية تاريخيّة بين مكونات المجتمع الأساسية وقواه الفاعلة وعائلاته السياسيّة التاريخيّة.." (سبنسر بلات/Getty)

 

"نكبتنا في نخبتنا" عبارة كانت كثيرة الدوران في الاستعمال اليومي بين عامّة الناس بعد الثورة. وتشير هذه العبارة إلى حالة هي النكبة ولا تتردّد في تحديد سببها الأساسي وهو النخبة. ويلفت الانتباه دقّة الصياغة وكثافتها فهي تختصر في لفظتين مسألة من أهم المسائل وأعقدها. وهي أشبه بما نطلق عليه بالجمل السياسية التي تختصر مرحلة أو برنامجًا أو تستشرف أفقًا.  

ظهرت الجملة في المعجم السياسي مع تعثّر مسار بناء الديمقراطية انطلاقاً من 2013، وتسرّبت إلى خطاب المسؤولين في الدولة والحكومة في مداخلاتهم التي لم تكن على المسافة نفسها من السجالات الساخنة في منابر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

  • الثورة والنخبة

قبل اندلاع الثورة بأشهر، ورغم ما تواتر من احتجاج اجتماعي منفتح على مطالب الحرية والحياة الديمقراطية فإن عبارة الثورة انسحبت من الاستعمال عند المعارضة السياسيّة بمن فيها التي كانت في مواجهة دامية مع نظام بن علي، ويقبع الآلاف من مناضليها في سجونه. واستعيض عنها بعبارة "مطالب". وكان هذا حتى مع الاحتجاجات الأقرب زمنيًّا إلى الثورة مثل أحداث الحوض المنجمي.

وأصبحت الثورة، عند النخبة، أمرًا لا مفكّر فيه. وإن من يذكّر بها في كلامه لن ينجو من أن يكون، في أحسن الأحوال، موضوع تندّر. وهو ناقص عقل وأهبل عند فئة واسعة من نخبة ركنت إلى امتيازاتها في كهولتها السياسية مقابل سكوتها عمّا كانت تثيره في شبابها السياسي من قلق للسلطة.

تمتعت النخب الحقوقية التونسية، كجزء من توجّه دولي، بمنزلة هي بين المنزلتين فلا هي معارضة للنظام فتخشى بطشه، ولا هي موالية له فتفقد مصداقيّتها

ولتأكيد "توبتها" المرتبطة بـ"نضجها" كثيرًا ما كانت تسخر من "طفوليّتها السياسيّة" بصوت عال حتّى تُسمع وتصدّق توبتها. وكان هذا أظهر فيما عُرِف بالنخب الحقوقية. ومن يعرف تاريخ الرابطة التونسية لحقوق الإنسان يستحضر نماذج من هذه النخب المعتذرة، رغم ما كان للرابطة من دور في نشر ثقافة حقوق الإنسان والوقوف في وجه كثير من الانتهاكات. 

وهي نخب ظهرت مع ما عرف بسياسة التحديث. وهي سياسة دولية انبثقت مع النظام العالمي الجديد وتصفية تركة الحرب الباردة. وكان الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يعتقد في أن "تحديث السلطة" في أنظمة الاستبداد العربي سيحدث انقسامًا داخل نخبتها السياسيّة تكون مقدّمة إلى انفتاح سياسي وحياة على صلة بالديمقراطية. ويمثّل نظام حسني مبارك نموذجًا لهذا التوجّه. 

كانت النخب الحقوقيّة، وأغلبها من أصول قوميّة واشتراكيّة، جزءًا من هذا التوجّه الدولي. وتمتّعت بمنزلة هي بين المنزلتين. فلا هي معارضة للنظام فتخشى بطشه، ولا هي موالية له فتفقد مصداقيّتها. ومن زاوية أدق كانت النخب الحقوقيّة حجّة أنظمة الاستبداد على وجود مساحة للحرية واختلاف الرأي. واستثمرت الأنظمة في هذه الطبقة على عَقد يسلّم به الطرفان قوامه أنّ "المعارض المدني الجذري" للنظام السياسي العربي يبقى "موضوعًا حقوقيًّا" وضحيّة يُتَعاطف معها، وقد تُخفّف عنها معاناتها. ولكن غير مسموح لها بأن تصبح "منافسًا سياسيًّا" كامل الحقوق.

كان الدكتور المنصف المرزوقي الاستثناء الوحيد في حركة حقوق الإنسان في السياق العربي لذلك لم يغفر له "مثقّفو النمط" ولجان تفكير التجمع والسيستام ولواحقه الوظيفية المتوترة ذلك

في ظلّ هذه الصفقة بين التيار العولمي والنظام العربي ونخبه الحقوقية كان الدكتور المنصف المرزوقي الاستثناء الوحيد في حركة حقوق الإنسان في السياق العربي. فقد دافع، قبل الثورة (وبعدها)، عن حقوق الفاعل المدني الكاملة أيًّا كانت مرجعيّته. وهو عنده منافس سياسي كامل الحقوق. ومن هذا المنطلق كان المرزوقي جزءًا من الترويكا إلى جانب الإسلاميين بعد الانتخابات التأسيسيّة في 2011 . وهي التجربة التي لم يغفرها له "مثقّفو النمط" ولجان تفكير التجمّع  ولم ينسها السيستام ولواحقه الوظيفيّة المتوتّرة فاستباحت الرجل ظلمًا وأجرمت في حقّه معارضًا ورئيسًا للجمهورية. وهي نفسها بنخبها السياسيّة والقانونيّة والفكريّة والإعلاميّة التي تسكت عن خرق قيس سعيّد الجسيم للدستور، وتتواطأ مع تعطيله مؤسسات الدولة، وتزيّن له كسر مسار الانتقال إلى الديمقراطيّة. 

اقرأ/ي أيضًا: المنصف المرزوقي والمراجعات الموجعة: ميثاق حقوق الإنسان

  • هديّة الهامش إلى المركز

بدل الحديث عن طبيعة ما حدث هل هو ثورة أم انتفاضة كان أولى الانتباه إلى سؤال من فجّر الثورة؟ ذلك أنّ الإجابة عن هذا السؤال ستمنح الإجابة عن سؤال الثورة وحقيقة ما حدث.

إنّه لا خلاف في كون الهامش المفقّر هو من فجّر انتفاض 17 ديسمبر المواطني. ولم يكن هذا بِدْعًا في تاريخ الانتفاض الاجتماعي في تونس منذ ثورة العربان في 1864، إلى انتفاضة الخبز 1984، وصولاً إلى ثورة الحريّة والكرامة التي تَوَّجت انتفاضات الهامش بكسر بنية الاستبداد وبسط الحريّة.

كان الانقسام الاجتماعي هو المحرّك الأساسي للانتفاضات الاجتماعيّة المتواترة. والانقسام حقيقة سابقة على دولة الاستقلال. ولعلّه سليل نشأة الدولة في تونس التي عرفت مع البايات الحسينيين استقرارها الفعلي. وتأكّدت مع الاستعمار مركزيّتها. فالدولة المسمّاة وطنيّة لم تبدأ مع دولة الاستقلال وإن عرفت مع هذا الحدث المهمّ تبدّلاً في السياسة وتحوّلاً أهمّ في القاعدة الماديّة والديمغرافيّة التي أقامتها. فبورقيبة لم يؤسس الدولة الوطنيّة ولكنّه نجح في جعل الساحل وتاريخه ونخبته نصيبَ العصبيّة الأقوى الذي استقرّت عنده دولة الاستقلال.

ولهذه العمليّة الفذّة علاقة بتاريخ الساحل ودوره الريادي في ثورة علي بن غذاهم، و ما لحقه بسبب هذا الدور من تنكيل واسع عقب إجهاض ثورة العربان. فكأن بورقيبة بعمليّة التحويل التي أتاها يمثّل ثأر الساحل من دولة البايات المنتقمة. ولكنّه ثأْرٌ لم يكن باسم البلاد قاطبة وباسم أريافها التي اجتمعت حول علي بن غذاهم. فاستبدل بورقيبة مركزيّة بمركزيّة فبقيت الدولة جهويّة غير قادرة على تغطية كلّ مجالها الاجتماعي والثقافي. ولم تنجح عمليّة التحديث القسرية في رأب الصدعين الاجتماعي والثقافي. وهو ما حرم الدولة من أن تكتسب عن جدارة صفة الوطنيّة لتراوح مكانها في جهويّة هي الوجه الآخر  لمركزيّتها.

الانقسام الاجتماعي الذي عبّرنا عنه في مناسبات سابقة بثنائيّة وطني/أهلي وأحيانًا مدني/أهلي جعل الاقتصاد اقتصادين رسميًا وموازيًا، والسياسة مجالين رسميًا وموازيًا والثقافة كذلك مدنيّةً وأهليّة. حتّى أنّ "المجتمع المدني" لم يكن مرادفاً للمجتمع التونسي لأنّه لا يمثّل كلّ تعبيراته بقدر ما  كان صنيعة الدولة وأداتها في السيطرة على المجتمع الأهلي وسياسات إلحاقه. وهذا ما سيسم علاقات النخبة بالاستقطاب الهووي والعجز عن التقدّم نحو التسويات التاريخيّة التي استدعتها سياقات حادّة كادت تعصف بالدولة ذاتها.

كانت الثورة هديّة الهامش المفقّر إلى المركز المنهك ولكنّه فضّل إعادة إنتاج صراعاته القديمة بدل أن يسرع إلى تسوية تاريخيّة تكون قاعدة سياسيّة لبناء تونس الجديدة

وكانت الطبيعة الفوقيّة والقسريّة لعمليّة التحديث التي دشّنها بورقيبة قاصرة عن الإدماج فبات الانقسام مضاعفًا (هوويًّا واجتماعيًّا). لذلك لم تكن الثورة ـ بهذا المعنى  ـ منجز الطبقة السياسيّة التقليديّة (المجال السياسي الرسمي) وإنّما كانت تعبيرًا عن كفاحيّة الهامش المفقّر القصوى (المجال السياسي الموازي). ولئن كان الانقسام الاجتماعي القادح للثورة ونجاحها في كسر الاستبداد فإنّ الانقسام الهووي كان سبباً في انقسام "الصف الثوري" وعودة المطلق الإيديولوجي الذي تسرّب منه النظام القديم بمساعدة القوى الوظيفيّة المحسوبة على الجديد. وتمكّن بواسطتها في 2014 من أن يظفر في الانتخابات بالرئاسات الثلاث.

كانت الثورة هديّة الهامش المفقّر إلى المركز المنهك ولكنّه فضّل إعادة إنتاج صراعاته القديمة بدل أن يسرع إلى تسوية تاريخيّة تكون قاعدة سياسيّة لبناء تونس الجديدة.

اقرأ/ي أيضًا: المدني والأهلي في الاحتجاجات الاجتماعية في تونس

  • تسوية تاريخيّة مؤجّلة

كانت انتخابات 2014 وما أفرزته من ازدواجيّة في مستوى الحكم وفي مستوى المعارضة مقدّمة لتسوية ممكنة عبّرت عن نفسها  فيما سمّي بالتوافق. ولقد أمكن للباجي قايد السبسي أن يجمع في مواجهة الترويكا بعامّة والنهضة بخاصّة طيفاً واسعًا يمتدّ من الجبهة الشعبيّة إلى الدساترة مرورًا ببقايا التجمّع وجانب من الطيف القومي (التيار الشعبي) وبعض الديمقراطيين ورموز اليسار الثقافي الفرانكفوني. وأمكن للباجي في ذلك العمر المتقدّم أن يكون الزعيم السياسي لهذه الجبهة الواسعة التي أطلقت على نفسها جبهة الإنقاذ.

إنقاذ أريد له أن يكون في عنوانه السياسي حماية "النمط المجتمعي التونسي" المهدَّد من قبل الإسلاميين ومحيطهم، وفي جوهره محاولة انقلاب على نتائج انتخابات 23 أكتوبر وإجهاض مسارها التأسيسي. ولكنّ الباجي، بعد فوز حزبه "نداء تونس" بالانتخابات في 2014، غيّر من وجهته باتجاه توافق فرض شروطه على خصمه النهضة وليتخلّى عن حلفاء الأمس في جبهة الإنقاذ.

كانت أبلغ رسائل الاستحقاقات الانتخابيّة المتوالية ولا سيّما انتخابات 2014 (المرزوقي/الباجي) حقيقة الانقسام الذي يعرفه المجتمع والطبقة السياسيّة. وتواجه نمطين مجتمعيين في ظلّ دولة واحدة لم يكن "عمقها" يخفي في المنعرجات الحادّة انحيازها إلى "مجتمعها المدني" الذي صنعته على عينها وجعلت منه، بعد الثورة، أداتها في مواجهة المجتمع الأهلي الذي بقي خارج التغطية إلى أن عبّر عن نفسه بجذريّة في ثورة الحريّة والكرامة.

من رسائل الاستحقاقات الانتخابيّة المتوالية في تونس تأكد الطبيعة الإصلاحية للثورة التونسية التي ارتكزت أساسًا على تأسيس الحرية وبناء الديمقراطية والمواطنة الكريمة

ولعلّ الرسالة الثانية من حيث الأهميّة تمثّلت في الطبيعة الإصلاحيّة لهذه الثورة. فهي لئن عبّرت عن خصوصيتها الإصلاحيّة مثّلت تدشينًا لجيل جديد من الثورات مختلف عن الثورات التقليديّة الجذريّة. وإذا كانت مهمّة "الجذريّة" تركّزت في عنوان السيادة الوطنيّة فإنّ لـ"لإصلاحيّة" عنوانًا واحدًا تقريبًا هو تأسيس الحريّة وبناء الديمقراطيّة والمواطنة الكريمة، وأنّ تأسيس الاختيار الشعبي الحر يمثّل الطريق الملكيّة إلى السيادة والاستقلال والمقاربة الوطنيّة للثروة والتنمية والأمن الاجتماعي.

والتقدير الأهمّ أنه لا أفق لهذا العنوان المواطني السيادي إلاّ بتسوية تاريخيّة بين مكونات المجتمع الأساسية وقواه الفاعلة وعائلاته السياسيّة التاريخيّة. تسوية تعيد بناء الدولة لتغطّي كلّ مجالها السياسي والاجتماعي، كما أسلفنا.

وكان أمام الطبقة السياسيّة والنخب، بمعناها الواسع، محطّات ثلاث تشير بإلحاح إلى ضرورة هذه التسوية. أولها الانتخابات التأسيسيّة وثانيها انتخابات 2014 وثالثتها انتخابات 2019. وتلخّص هذه المحطّات من جهة نتائجها السياسيّة التناوب بين القديم والجديد. وتلك طبيعة الانتقال الديمقراطي جولة بجولة بين القديم والجديد إلى أن تستقرّ الديمقراطيّة باستكمال مسارها والمرور إلى مرحلة البناء الاستراتيجي. غير أنّ الجولة الأخيرة التي عدّت لصالح "الصف الثوري" تكشّفت عن ظاهرتين: الشعبويّة والفاشيّة. وبعد سنة ونصف تبيّن تقاطعهما في مناهضة مسار بناء الديمقراطيّة، باستهداف الدستور ومؤسسات الدولة. ونجحتا في شقّ الصف الديمقراطي، وأصبح لهما بينه "قوى وظيفيّة" هي بمثابة حاضنتهما السياسيّة وشريكتهما في تقويض المسار.

الانحدار الذي عرفته العملية السياسية مع انتخابات 2019 ودور رئيس الجمهورية في فرض "بلوكاج سياسي شامل" غير مسبوق في تاريخ الدولة انعكس على أداء النخبة بأن أجّج من خلافاتها وتنافيها

الانحدار الذي عرفته العمليّة السياسيّة مع انتخابات 2019 ودور رئيس الجمهورية في فرض "بلوكاج سياسي شامل" غير مسبوق في تاريخ الدولة حتّى في عهديها البورقيبي والنوفمبري انعكس على أداء النخبة بأن أجّج من خلافاتها وتنافيها. والأخطر استهداف الشروط التي مكّنت مسار الانتقال الديمقراطي من الاستمرار متمثّلة في إجماع حول مفهوم الدولة، ومؤسسة أمنيّة وعسكريّة خارج الرهان السياسي، ولقاء بين الاعتدال من القديم والجديد في ومشهد سياسي هو في حقيقته وسط بلا يسار.  كلّ هذا جعل من التسوية التاريخيّة الضروريّة مؤجّلة وربّما بعيدة المنال.

يعود فشل النخبة في مهمّتها التاريخيّة هذه إلى أسباب عديدة أهمّها ضعف الثقافة الديمقراطيّة ونتيجته هشاشة الالتزام بمرجعيّة الديمقراطية ومسارها في مقاربة الشأن الوطني وما يدور في الجوار الإقليمي والسياق العالمي من صراع محاور عنيف بأفق ترتيبات جديدة لعلاقة الاقتصاد بالسياسة والسوق بالديمقراطيّة.

وعوض أن يكون للنخبة التي انطلقت من بلادها ثورة الألفيّة الثالثة شرفُ المساهمة، ولو القليلة، في هذا الصراع وتقديم مقترحات في "إدارته" وفي ما تعرفه تجربة الانتظام السياسي والدولة الحديثة من أزمة، صارت صدى للخارج ومنفعلة وقد كان بوسعها أن تكون فاعلة. وإنّ فشل النخب في تحقيق التسويات التاريخيّة بشروط وطنيّة في الغالب وبمرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها مهدِّدٌ للسياسة بالانهيار وللأفراد والأوطان بالاستباحة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عناصر الأزمة السياسيّة في تونس وسبل تجاوزها

مفارقات المشهد السياسي في تونس بعد انتخابات 2019