18-أبريل-2021

خلال كلمة قدمها سعيّد من داخل جامع الزيتونة مساء الاثنين 12 أفريل الجاري

 

مقال رأي

 

من اللافت للانتباه أنّ الجهة الوحيدة التي تُقدِّم "عرضًا دينيًّا" في مشهد سياسي ديمقراطي هي رئيس الجمهورية. وهو "عرض ديني" رثّ يستعيد الميّت من تراثنا، وما "تمسّح" من هذا التراث. وعلامة "تمسّحه" قصوره عن إدراك "فكرة الوسيط" بين الفرد والمعنى.

ويشترك رئيس الجمهورية في منزع التمسّح، بالمعنى الذي ذكرنا، مع كل السلفيات الإسلامية سواء كانت سياسية (حزب التحرير) أو"علمية" أو"جهادية" (إرهاب معولم). سلفيات تتقاطع جميعًا في رفض أنّ "الإسلام هو ما يفهمه الناس من الإسلام"، فيتأكّد تمسّحها بتنصيب نفسها وسيطًا بين الله والناس. ولهذا أثر مباشر على تصورها للدولة بنيةً ووظيفةً.

وتخرج عن هذا النهج حركة النهضة ذات المرجعيّة الإسلاميّة إذ تكتفي بتقديم "عرض سياسي" معتبرة أنّ قضايا الإسلام واللغة والهويّة قد فصل فيها الدستور وصاغها في مرجعيّة جامعة، وأنّ التنافس من طبيعة سياسيّة في سبيل استكمال مؤسسات الديمقراطيّة وتأسيس المواطنة الكريمة.  

كان هناك انتباهٌ إلى المعجم الديني في خطاب قيس سعيّد في الدور الأوّل من الانتخابات الرئاسية وكان من نصّبوا أنفسهم حرّاسًا لقيم المدنيّة والحداثة قد تجندوا لنعت سعيّد بنعوت معاداة التحضّر وحتى في وصمه بالدوعشة والتقاطع مع الإرهاب

ولقد كان هناك انتباهٌ إلى "المعجم الديني" في خطاب المرشّح قيس سعيّد في الدور الأوّل من الانتخابات الرئاسيّة. وكان من نصّبوا أنفسهم حرّاسًا لقيم المدنيّة والحداثة وتجنّدوا لحماية النمط المجتمعي التونسي المهدّد من قبل القوى الظلاميّة أوّل المنتبهين وأوّل المتصدّين. فلم يبخلوا على قيس سعيّد بنعوت معاداة التحضّر والقيم الكونيّة والذكاء الإنساني، ولم يتردّدوا في وصمه بالدوعشة والتقاطع مع الإرهاب.

وكان لهذا الخطاب الحداثوي، أيّامَ الحملة الانتخابيّة في دوريها، أصداء عند بقايا الجبهة الشعبيّة المنحلّة، وعند أحزاب المنظومة القديمة من شتات نداء تونس ومحيطه من مكونات التجمّع الفاشيّة، وداخل المكتب التنفيذي للمنظّمة الشغيلة، وضمن منظّمة الأعراف، وعند لوبيات المال والأعمال المتقاطعة مع أساطير النمط المجتمعي التونسي.

وهؤلاء هم من ساند مرشّحي المنظومة وما جاورها مثل عبد الكريم الزبيدي ونبيل القروي ويوسف الشاهد وعبير موسي ولطفي المرايحي. وهم أنفسهم (أو أغلبهم على الأقل) من جنّد أبواقه في الدور الثاني لمساندة نبيل القروي ومناهضة قيس سعيّد واعتباره تهديدًا للدولة ومكاسبها. وحتّى الجانب الليبرالي من الصف الثوري ممثلاً في حزب التيار حذّر، في بعض من ندوات مرشّحه الأستاذ محمد عبّو، ممّا يطرحه المرشّح قيس سعيّد معتبرًا إيّاه أكبر خطر على مستقبل الديمقراطية ومسارها، حينها.

هذه الفئات السياسيّة والاجتماعيّة المنضوية تحت لافتة الحداثة والمدنيّة هي نفسها التي تسكت عن قيس سعيّد اليوم وعن "عرضه الديني" عندما رأت فيه سدًّا في وجه النهضة وعندما بدأت تتحسّس توجّهه المناهض للديمقراطية ومسارها.

ولم يحرّك عندهم ساكنًا وهو يستعيد سيرة الفاروق عمر أو يتمثّل بآية من القرآن الكريم، أو وهو يتحدّث من المسجد عن الأمانة ويصف خصومه السياسيين بالمنافقين. وكما سكتوا عن خرقه الجسيم للدستور وتحرّشه بالمؤسستين الأمنيّة والعسكريّة واحتكاره تأويله، سكتوا عن "عرضه الديني" واستبداده بتفسير النص القرآني، في تنكّر لقيم الحداثة والمدنيّة وروح العصر التي انتسبوا إليها.

القوى الحداثية والمدنية تسكت عن قيس سعيّد اليوم وعن "عرضه الديني" عندما رأت فيه سدًّا في وجه النهضة وعندما بدأت تتحسّس توجّهه المناهض للديمقراطية ومسارها

وفي آخر تدخّل لرئيس الجمهوريّة، بعد عودته من زيارة السيسي، أثار في الجامع الأعظم في تهنئة بحلول رمضان قضيّةً نسيها التونسيون في سبعينيّات القرن الماضي. في هذه الكلمة أشار إلى "أنّ الله توجّه بالخطاب إلى المسلمين وليس عن الإسلاميين"، في مناكفة غير موفّقة. ونصّب نفسه "رئيسًا إمامًا" ومؤوّلًا للقرآن لا معقّبًا على استقرائه بعد أن نصّب نفسه "فقيه قانون" ومؤوّلاً للدستور لا معقّبًا على استنباطه. ومع ذلك يلقى رئيس الجمهوريّة من حرّاس "النمط التونسي" كل الدعم وشدّ الأزر ما دام يستهدف خصومهم ويناهض الديمقراطية التي صارت تهديدًا وجوديًّا عند كثير من الفاعلين في المشهد السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: سعيّد: "الله توجّه بكلامه إلى المسلمين لا إلى الإسلاميين" (فيديو)

وممّا يجدر الوقوف عنده أنّ من ناصروا قيس سعيّد المرشّح المحسوب في أوّل الأمر على الصف الثوري ومنحوه أصواتهم في الدور الثاني هم من يقفون معارضين له ولمنحاه التعطيلي لمؤسسات الدولة الأولى واستهدافه للديمقراطيّة بالشراكة مع الحزب الفاشي والقوى الوظيفيّة التي صارت حزبًا لرئيس يرفض فكرة الأحزاب وكتلةً برلمانيّة لقيس سعيّد المناهض للأحزاب وللديمقراطيّة التمثيليّة.   

يقدّم الرئيس قيس سعيّد "عرضًا دينيًّا" خارجًا عن سياق المشهد في أبعاده الدستورية والسياسية. وهذا العرض الديني التراثي لم يجد قبولاً في الأولى كما لن يعرف مواجهة في الثانية من دعاة الحداثة لأسباب سياسية علاقتها ضعيفة بمرجعيّة الحداثة في الحالتين. ولكن وراء الأسباب السياسية يمكن الإشارة الموجزة إلى أسباب عميقة قد لا ينتبه إليها سعيّد ولا هؤلاء الذين ناهضوه ثمّ ناشدوه من حرّاس النمط.  

صارت بعض القوى السياسية حزبًا لرئيس يرفض فكرة الأحزاب وكتلةً برلمانيّة لقيس سعيّد المناهض للديمقراطيّة التمثيليّة   

وللانفتاح الجزئي على هذه الأسباب العميقة، نشير إلى أنّ تقاطع رئيس الجمهورية في عرضه الديني ليس فحسب مع "سلفيات إسلاميّة" لا تدرك أنّ "نفي الوسيط" يمثّل أساس الإصلاح المحمدي والنبوة الخاتمة، وإنّما تقاطُعُه في منحاه هذا مع "سلفيات حداثية" لا تتبيّن هي أيضًا "تمسّحها". وهذا يستدعي تفصيلاً وتوسّعًا نكتفي منهما بالتذكير بأنّ الحداثة في جوهرها عمليّة علمنة للمسيحية امتدّت على أكثر من قرنين طبعت أطوار الفكر الغربي الحديث وصياغاته المختلفة. فالهيغليّة والماركسية (على سبيل الذكر) لا تخرج في تصوّرها للدولة عن "فكرة الوسيط" في عقيدة التثليث. لذلك هي لا تختلف في الموصوف (الدولة) وتتنازع بحدّة في الصفة (رأسمالية، اشتراكية، قوميّة...). 

هي لم تغادر الرؤية اليهوديّة المسيحية للعالم. فالفكرة التي يتبنونها والدولة التي يدعون إليها نشأت في هذه الثقافة وتفاعلاتها البعيدة. وهذا ما يسمح بالتفكير فيما يبدو لا مُفَكَّر فيه لما له من أثر على التصورات الكبرى السائدة ولِمَا استقرّ من مسلّمات. ونعني الانتباه إلى أنّ الدولة الحديثه "فكرة دينية" (بالمعنى المسيحي للدين). فقد نشأت الدولة ناطقًا باسم الإله ثم نابت عنه بعد أن قتلته/صلبته. وفكرة "موت الإله" بدورها جزء من بنية التصور العقدي المسيحي وعقيدة التثليث، فالذي قُتِل على الصليب في هذه العقيدة هو "المسيح الربّ": أي الإنسان الذي تألّه أو أُلِّه (الإنسان الكامل في الفلسفة النقدية فكرة لا تقطع المرجعية نفسها، وإن تبجّحت بخلاف ذلك).

اقرأ/ي أيضًا: "الإسلام دينها".. قيس سعيّد يغوص ويحفر في العلاقة بين الدين والدولة

وفي هذه المرجعيّة نفسها يفقد التمييز بين "دولة دينية" و"دولة مدنية" معناه. ففي هذا الفكر الدولة لا تكون إلاّ دينية. في التصور التوحيدي الدين هو ما يفهمه الناس من الدين، لذلك هو للناس كافّة. وما يفهمون منه هو اجتهاد بشري تاريخي لا يُلزِمُ إلاّ صاحبه أو من تعاقدوا على الأخذ به. بخلاف تصور الثقافة اليهوديّة -المسيحية الذي يسلّم لرجل الدين بأنّ ما يقوله عن الدين مطابق للدين وليس فهمه الشخصي للدين. فظهرت مؤسسة دينيّة وسيطة (إكليروس ديني)، وذلك ثنائية ديني/سياسي. وكان الوصل بينهما أساسًا لما اعتبر "دولة دينية" في أوروبا. وكان الفصل بينهما، في مرحلة مثيرة من تاريخ أوروبا، ميلادًا لما سُمِّي بالدولة المدنيّة. وهو جوهر العلمانيّة الأوروبية التي لم تخرج عن الرؤية اليهوديّة ـ المسيحية للعالم. وأهمّ أثر لهذه الرؤية يمكن رصده فيما انبثق عنها من تصور للدولة والانتظام السياسي. 

وفي مقابل الثقافة اليهودية المسيحية يقوم التصور التوحيدي في المستوى السياسي وهو تصوّر لا يشتمل إلاّ على "الدين لذاته" (أي كما تمّ تمثّله). أمّا "الدين في ذاته" فهو لا يتجاوز معنى المرجعية الجامعة والمستوى الإيماني الشخصي. ولهذا نتيجة مهمّة تتمثّل في أنّه في الإسلام لا يوجد إلاّ "السياسي".

بخلاف التصور اليهو-مسيحي الذي يسلّم لرجل الدين بأنّ ما يقوله عن الدين مطابق للدين (وليس فهمه الشخصي للدين)، فظهرت ثنائية ديني/سياسي، وكان الوصل بينهما أساس ما اعتبر "دولة دينية" في أوروبا، وكان الفصل بين طرفي الثنائية، في مرحلة عرفتها أوروبا ميلادًا لما سُمِّي بالدولة المدنيّة. وهو جوهر العلمانيّة الأوروبية التي لم تخرج عن الرؤية المسيحية، وأهمّ أثر لهذه الرؤية يظهر في تصورها للدولة. في التصور التوحيدي الطارد لفكرة "المطابقة" لا يوجد إلا السياسي، وهو أساسًا "علمانية سياسية" يسمّيها الفيلسوف طه عبد الرحمان الائتمانية. وسيكون أثر هذا التصوّر واضحًا على هويّة الانتظام في الاجتماع الإسلامي التوحيدي. ومن ثمّ على الدولة من جهة مفهومها وبنائها ووظيفتها.

إذا كان الرئيس قد استدعى الميّت من تراثنا وترك ما بقي منه على نبض فإنّ من التحقوا به وصاروا من فريقه من دعاة الحداثة والقيم المدنية هم بدورهم نقلوا الميّت من تراث الغرب السياسي وزهدوا في مراجعاته الكبرى

وهذا ليس مفاضلة بين الرؤية المسيحيّة والرؤية التوحيديّة فلكلّ رؤية قيمتها وإنّما الغاية تبيّن ما يقوم من فروق نوعيّة في الانتظام السياسي نتيجة الاختلاف في الرؤى. ومن شأن هذه الإثارات الموجزة أن تفتح مغاليق الفكر السياسي الذي تمّ تسييجه بمفاهيم وعناوين منتهية ولكن مجرّد تحريكها كفيل بفكّ ما أحاط بها من أسيجة الدغمائيّة. وإذا كان الرئيس قيس سعيّد قد استدعى الميّت من تراثنا وترك ما بقي منه على نبض فإنّ من التحقوا به وناشدوه وصاروا من فريقه من دعاة الحداثة والقيم المدنيّة هم بدورهم نقلوا الميّت من تراث الغرب السياسي وزهدوا في مراجعاته الكبرى.

وانطلاقًا من الرؤية التي أوجزنا الإشارة إليها يكون نقد الخطاب الحداثوي في علاقته بالمرجعيّة الإسلاميّة في حالة النهضة (نقدًا وإقصاء) وفي حالتي قيس سعيّد (نقدًا ودعمًا)، وانطلاقًا منها أيضًا يُنقد موقف حركة النهضة التي لا تعمل، رغم طول التجربة، على تخطّي الخطاب الشرعي باعتباره "منهجًا مطبّقاً" إلى "خطاب التأسيس" باعتباره "منهجًا للتطبيق". وأساسه تحويل "النص المؤسس" إلى مفاهيم استئنافاً للمنحى المقاصدي الذي توقّف. وفي عمليّة التحويل هذه نقلة من "المعرفة الإسلاميّة "إلى "إسلاميّة المعرفة"( أي إنسانيّتها.) ولكلّ هذا أثر مباشر على متصوّرات الدولة والديمقراطيّة والانتظام السياسي وبناء المجتمع. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"



اقرأ/ي أيضًا:

سعيّد: قانون المساواة في الإرث فتنة وجاء بطلب أوروبي

سعيّد: الصراع حول المساواة في الميراث غير بريء والنص القرآني لا يقبل التأويل