قرأتُ المقالات الثلاثة الأولى ممّا أسماه رئيس الجمهوريّة الأسبق محمد المنصف المرزوقي بالمراجعات الموجعة. ولم يكن منّي، وأنا أبدأ قراءة هذا النص، غير انتظار النقد المركّز والجهد النظري في ترتيب تفاصيل العالم المتناثرة ضمن رؤية تسعى إلى أن تكون شاملة، ولكن الذي فاجأني مفاجأة سارّة هو ما يمكن أن أقدم عليه من عملية جراحيّة موضعيّة في مستوى مفاصل أساسية في الفكر الحقوقي العالمي.
ولكنها رغم موضعيّتها ومحدوديتها، فإنَّها تجعل من النص "موضوع الجراحة" نصًا جديدًا تمامًا. وهو ما قد يرفع الانتظارات من عملية المراجعة لتتجاوز تمثّل المتن الحقوقي واستيعابه ونقده إلى أمل في "إنتاج معرفة" في موضوعه.
شبّه المرزوقي أثَرَ وباء كورونا بالزلزال القوي الذي يجبر المهندس على ابتكار أسس جديدة لبناء جديد يصمد في وجه الزلزال
وسنركّز في هذا الحيّز على المراجعة التي تعلّقت بمتن حقوق الإنسان أعلقِ النصوص بصاحب المراجعة. وقد كاد هذا النصّ المرجعي يغطّي على أبعاد الرجل الأخرى حتّى وهو على رأس السلطة التنفيذية في الدولة. ولم يكن يمنعه من تقديم من تطاولوا عليه من إعلام المنظومة وأمعنوا في تشويهه كذبًا وبهتانًا إلاّ مرجعيته الحقوقية ورفضه أن ترتبط مرحلة تأسيس الحريّة بكبت أعدائها المتجاوزين لكل خلق وقانون.
سياق المراجعة
لم يخرج المنصف المرزوقي عمّا انشغل به معظم المهتمّين بتحولات الفكر والمعرفة والسياسة والاقتصاد في العالم مع أزمة كورونا والموت الزاحف مع هذا الوباء المستجدّ وما نجم عنه من انهيار أقوى المنظومات الصحيّة في الغرب المتقدّم وتعطّل أضخم اقتصاديات العالم.
وبدا لي من خلال المقالات الثلاثة أنّه لم يقع تحت سحر العنوان الجديد "ما بعد كورونا". وهو العنوان الذي بقدرما نبّه إلى أنّ عالم ما قبل هذا الوباء لن يكون هو نفسه عالم ما بعده، فإنّه صار العنوان الذي قد يُخفي الهشاشة الغالبة على الفكر الإنساني وافتقاده الشجاعة الكافية للإشارة إلى أسباب الأزمة الكامنة في نموذج الحياة المعولم وعلاقته بالإنسان ومحيطه.
اقرأي أيضًا: هل يمثّل وباء كورونا "طقس عبور"؟
فالانطلاق من أزمة الكورورنا ليس لإثبات أنّ القادم لن يكون كالسابق وإنّما للتشديد على أنّ السابق كان "وضعًا غير طبيعي". وهذا فارق مهمّ نبّه إليه المرزوقي بالإحالة على ملاحظة لرائد اللسانيات التداولية والمفكر السياسي نعوم تشومسكي يقول فيها: "كل من يحلم بالعودة إلى الوضع الطبيعي الذي كان سائدًا قبل جائحة كورونا مخطئ، أساسًا لأنّ ذلك الوضع لم يكن طبيعيًا في شيء".
وشبّه المرزوقي أثَرَ الوباء بالزلزال القوي الذي يجبر المهندس على ابتكار أسس جديدة لبناء جديد يصمد في وجه الزلزال. أزمة الكورونا هي السياق الذي انطلقت فيه المراجعة، وإن كان فكر المرزوقي السياسي في جوهره مسكونًا بـ"المراجعة الدائمة"، وكأنّ النسق الجديد عنده إذا استقرّ وطال عليه الأمد صار سلطة أقوى من النسق القديم الذي ترك له المكان. ومن غريب المعادلات في سيرة الرجل هذا الجمع بين جذرية سياسيّة ومبدئية صلبة وشغف بالمراجعة لا يتوقَّف. وفي هذا السياق، ننزّل علاقته بمنظومة حقوق الإنسان.
منطلق المراجعة
علاقة المرزوقي بحقوق الإنسان سبقت علاقته بالسياسة بما هي نشاط حزبي وتقلّد مسؤوليات في الدولة. وإن كان الدفاع عن حقوق الإنسان بقي الحيّز الصغير الوحيد الذي أطلّ منه بعض الحقوقيين على مشهد سياسي تحت قبضة نظام استبدادي يرتكز على عصبية جهوية باسم الدولة الوطنيّة إلى نظام فاشي بوليسي يرتكز على عصابة مافيوزية باسم دولة القانون والمؤسسات.
يبدأ المرزوقي مراجعته بسؤال عن منزلة حقوق الإنسان في المدنية الحديثة. ويشير، من خلال بعض من اشتغلوا عليها من مفكري العصر، فيذكر وجهة نظر الكاتب الإسرائيلي يوفال هاراري ويرى فيها أنّها سليلة الفردانية باعتبارها نزعة عرفتها أوروبا مع عملية الإصلاح الديني والفلسفي في القرن السابع عشر، وصورة من الحداثة باعتبارها علمنة للمسيحية وتعبيرًا عن التحول من تجربة محورها الله إلى تجربة محورها الإنسان. وأنّ فلسفة "موت الاله" وميلاد "الإنسان الكامل" لم تلغ شروط خلق "دين جديد" لكل عصر. والفردانية دين جديد أنبياؤه فلاسفة الأنوار، مركزه الإنسان وهدفه سعادته، ووسيلته في بناء هذا العالم الجديد ثلاثة روافد: اقتصادي تمثّله الليبرالية، وسياسي تمثّله الديمقراطيّة، وإيديولوجي تمثّله حقوق الإنسان.
يبدأ المرزوقي مراجعته بسؤال عن منزلة حقوق الإنسان في المدنية الحديثة
عند هذا المستوى، تنطلق نقطة مراجعة مهمّة يبوح فيها المرزوقي بعلاقته بحقوق الإنسان وطبيعة مرجعيتها فيما يشبه "الاعتراف"، فيتوقّف عند انتفاضه أمام الحقيقة التي يقرّرها يوفال هاراري من أنّ حقوق الإنسان ليست إلا الذراع الإيديولوجي لـ"الديانة الفردانيّة". وهي الحقيقة التي أسلمت المرزوقي إلى سؤال حادّ: ما علاقة من يَعتبر نفسه مسلمًا غير إسلامي وعلمانيًا غير ملحد وعروبيًا غير قومي بنصّ مرجعي هو في مرتبة "دين جديد" يُنَصِّب الإنسان "إلهً جديدًا"؟
ولا علاقة للسؤال ببعض النزعات التي ظهرت داخل الفكر العربي الإسلامي، مع توسّع ثقافة حقوق الإنسان في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته وانتصابها نصًا مرجعيًا منافسًا لـ"الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة" بعائلاتها الفكريّة والسياسية المعروفة . ومن بينها نزعة إلى ما يمكن أن نسمّيه "أسلمة حقوق الإنسان".
تذكّرنا هذه الوقفة التأمّليّة القلقة بتجربة الفيلسوف الفرنسي روجي غارودي ورحلته عبر النصوص الكبرى (الماركسيّة، حوار الأديان، الإسلام) لينتهي إلى تمييز فذّ بين "أسلمة الحداثة" و"عيش الحداثة إسلاميّا". فكأنّنا أمام تمييز شبيه بين "أسلمة حقوق الإنسان" و"عيشها إسلاميًا" بما يعنيه الإسلام هنا من ثقافة وموروث أكثر مما هو موقف إيماني وجودي فردي.
ومع ذلك كانت حرقة السؤال دافعًا إلى التفتيش في "التجربة الشخصيّة" وبما يشهد عليها من كتابات تكثّف هذه التجربة المتمفصلة مع حقوق الإنسان ونصّها المرجعي. فكان استحضار كتابَيْ "الإنسان الحرام" و" حقوق الإنسان: الرؤية الجديدة" مدعاةً إلى تنفّس الصعداء لِمَا شهدا به من أنّ الدفاع عن حرمة الإنسان وقداسته لم يكن لأنّها "مستمدّة من نفسه".
وكان هذا سببًا كافيًا لإعادة التفتيش في مدى دعوى "حقوق الإنسان دينٌ إلهه الإنسان". فكان منطلق المراجعة سؤال "ماذا لو كان هذا الإعلان الذي كتبتُ فيه الكتب وحاضرتُ حوله ما لا يُحصى من المحاضرات وحتى داخل القصر الرئاسي، بل ودخلتُ السجن من أجله، بحاجة للمراجعة ككل المعتقدات الأخرى؟".
مضمون المراجعة
موضوع المراجعة هو "الميثاق العالمي لحقوق الإنسان" بفصوله الثلاثين (10 ديسمبر 1948). وهو ما يعني قراءة جديدة لهذا النص المرجعي بتوسّط خبرة مداها ربع قرن" بعد أوّل قراءة له". فكانت جملة الديباجة "ولمّا كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني..." منطلقًا لسلسة طويلة من الأسئلة تمتدّ إلى فصول الميثاق الأساسية: من تناسى؟ ومن الذي ازدرى؟ ومن ارتكب كل هذه الهمجيّة ؟ ومن ميّز بين البشر بسبب أولوانهم وأديانهم؟ إلى آخر الأسئلة. وتشي الأسئلة بالرغبة في قراءة جذريّة تحاول أن تردم الهوّة بين "إنسانيّة النص" و"همجيّة الواقع".
اقرأ/ي أيضًا: في أزمة الديمقراطية التونسية المزدوجة: السياسة والميديا
وكان الجواب هو الإنسان بأبعاده الثلاثة: الإنسان الجلاّد والإنسان الضحيّة والإنسان الضمير مع التشديد على أنّ الميثاق يُظهر بوضوح صورة الإنسان الضحيّة وعلى استحياء صورة الإنسان الجلاّد، ويَسكت عن هويّة "الإنسان الضمير" باعتباره واضع هذا نصّ الميثاق. ويمكن أن نتبيّن من خلال كل هذا أنّ تصورنا لحقوق الإنسان يمرّ حتمًا عبر مفهوم الإنسان عندنا. ويبدو هذا الأمر بديهيًا ولكن عندما نكتشف أنّ "الإنسان"، بلام الاستغراق، تختلف صورته من ثقافة إلى أخرى. ولو كان الحديث عن "الإنسان الإنساني" حقيقةً موضوعيةً مشتركةً لما كانت هناك حاجة إلى ميثاق يحكي حقوقه.
"الإنسان الضمير" هو نفسه الإنسان الحقوقي، ولكنّه ليس بمعزل عن التوتّر بين نوازع الخير ونوازع الشرّ. فـ"من أين لنا تقديس كائن كهذا، في أحسن الأحوال ضحية وفي أسوائها جلاد وفي جلّها كلاهما معًا؟". يقضي سؤال الكاتب إلى سؤال: "هل نكْفُر بحقوق الإنسان؟".
يجيب المرزوقي بالنفي فالميثاق العالمي لحقوق الإنسان مكسب إنساني ثمين شاركت في صياغته أغلب شعوب الإنسانية، وعنه تولّدت جلّ العهود والمواثيق الدولية، ومعه صار العالم أفضلَ، وما كان من دور للمنظمات الحقوقية ومناضليها في العالم في نصرة المستضعفين ومناهضة التعذيب والظلم السياسي والاجتماعي على اختلاف أديانهم وأعراقهم وهوياتهم الاجتماعيّة تجسيدا للوجه الثالث للإنسان (الإنسان/الضمير).
غير أنّ التجربة الإنسانية الزاخرة بالعطاء والتضحيات لا تعفينا، حسب المرزوقي، من مراجعة الوثيقة الأولى: الميثاق. وهذا هو مستوى "الوجع" في المراجعة كما تبيّناه من نصّ المقال.
بدا لنا أنّ القراءة النقدية تمّت على ضوء هذه الأبعاد الثلاثة للإنسان. وقد كان استحضار هذه الأبعاد بمثابة المِشْرَط الذي أمكن به إحداث جراحة موضعية تبدو طفيفة ولكنها غيّرت جوهر النص بطريقة بديعة. ولا تتجاوز هذه الجراحة "فتح النص" لإضافة كلمة واحدة فإذا هو "نص جديد" حتّى لا نقول هو "نصّ آخر".
"الإنسان الضمير" هو نفسه الإنسان الحقوقي ولكنّه ليس بمعزل عن التوتّر بين نوازع الخير ونوازع الشرّ
ورد بالديباجة "ولمّا كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني...". وُضِعَ هذا النص على "طاولة التشريح" وتمّ فتحه وأضيفت إليه عبارة الإنسان فصار كالتالي: "ولمّا كان تناسي الإنسان حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني..."، وفي ذلك إقرار بوجود المكوّن الشيطاني في الإنسان وتحميله مسؤولية أعماله بدل أن نبني له "صورة هلامية" قد تجعل منه إلـهً.
أمّا عملية الجراحة الثانية فتعلّقت بالانتهاكات وأنّه لا معنى لتعدادها وإظهار فظاعتها دون التعرّض للإنسان الجلاد وكيف تسنى له كل هذا. فيصبح الفصل الثامن عشر من الميثاق "لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين" كالتالي: "وواجب كل شخص احترام حق الآخر في حرية الفكر والوجدان والدين، تحت طائلة الجزاء بالقانون".
وأمّا التنقيح الثالث، ويعتبره الكاتب أهمّ تنقيح، فيتعلّق مجدّدًا بالإنسان ومنزلته في الوجود. فالنظرة الإنسانوية التي تجعله مركز الكون وإلهه قد تكون السبب فيما عرفه العالم من شرور وحروب وإهلاك للحرث والنسل. وبديله تصوّر جديد يقول بتكريم الإنسان ضمن كون مسخّر له. فللطبيعة حرمتها وتوازنها وقانونها الذي يجب احترام نظامها والمحافظة على توازنها. وما الطير وسائر الحيوان إلاّ أمم أمثالنا. والشجر وسائر النبات كائنات حيّة قد نعرف كثيرا من أسرارها إذا أصغينا إليها.
في ظلّ هذا التصور الإيكولوجي الذي تبينّاه من المقال وعبّرنا عنه بلغتنا، يقترح المرزوقي فصلًا جديدًا في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان يضاف إلى فصوله الثلاثين يعيد بناء العلاقة بين الإنسان والطبيعة باعتبارها صورة من جمال الخلق والخالق بل هو إعادة لاكتشاف الإنسان لذاته ولأبعاده وغاية وجوده. وهو فصل قد تحتفل به الإنسانية في 2048.
ويدعو الحقوقيين وأهل النظر و في الاختصاصات المختلفة تقديره. يقول المقترح: "للإنسان الحق في بيئة سليمة تعافت من كل ما تعرضت له من انتهاكات في الماضي، ولكل الكائنات الحية من حيوان ونبات الحق في الحياة وشروط العيش الكريم، وواجبُ الإنسان احترام هذه الحقوق وتجسيدها".
أفق المراجعة
في هذا السياق، يحضرني تعريفان للإنسان الأوّل قريب من روح الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في نسخته الأصليّة، وأعني تعريف أرسطو للإنسان بـ"أنّه حيٌّ (أو حيوان) ناطق أي عاقل". والثاني قريب من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، بعد الجراحات الموضعية التي استهدفته، والفصل الحادي والثلاثين الذي أضيف إليه، وأعني تعريف الغزالي للإنسان بـ"أنّه حيٌّ عامل أي عابد". ولا شكّ في أنّنا أمام تصورين للإنسان والطبيعة. فهي هناك محاكاة لعالم المثل وهنا وجود جميل مسخّر من خالق كريم، وطبيعةٌ نُبَادِلُها عواطفَنا. فيصبح جبل أُحُد البركاني الأخشب الحزيز موضوعاً للحب والعاطفة في الاتجاهين: "إنّ هذا الجبَلَ يُحَبُّنا ونحبّه" (حديث شريف).
اقرأ/ي أيضًا: في الصراع والتدافع أو جدل التأسيس والانتقال الديمقراطي
وأنا أتابع عملية الجراحة المسلّطة على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، قفزت إلى ذهني لأوّل مرّة عبارة "جراحة النصّ"، وهي عبارة لم تقابلني قَطّ رغم علاقتي بتدريس الأدب واللغة وتحليل النصوص. وينبّهنا هذا إلى أنّ المعجم المتعلق بنقد النصوص لا يخرج عن المعجم الطبي (تحليل النص، شرح النص، جراحة النص). وهل من الصدفة أنّ الكلام في العربية مشتق من جذر (ك، ل، م)، والكِلام الجراج، والكَلِيمُ الجريح. ويتحدّث القدامي عن "اجتراح الكَلام" وكأنه نتيجة لعملية جراحيّة بها يستخرج المعنى الرفيع. فتكون الكتابة جراحةً. والكلام قد يؤذي فهو لذلك جارحٌ. "وجُرْحُ الكلام كجُرْحِ اليَدِ" مثلما قال أمرؤ القيس ولعل جرح الكلام أوجع وأبقى.
وما شدّني إلى ما أسميته بعملية جراحية أن كان الفصل المقترح أشبه بالضمّادة تُلفّ على الجرح، وهذه الجراحة على موضعيّتها وبساطتها غيّرت جوهر النصّ بالإماطة عن أبعاد الإنسان الثلاثة وإعادة ضبط علاقته بالله والطبيعة. وهذا ليس بالأمر الهيّن.
تبيّن لنا، من خلال مهنة التدريس بالجامعة والعلاقة بمراكز البحث، ثلاثة مستويات في مجال البحث العلمي تتعلّق بالباحثين وبحوثهم نطلق عليها مستوى التمثّل ومستوى النقد ومستوى إنتاج المعرفة. والغالب عند باحثينا هو الاجتهاد في تمثّل ما تعلّق بمجال اختصاصهم من مقاربات ومناهج ونظريات.
وهناك مستوى ثان تجاوز التمثّل إلى النقد وتبيّن ما في بعض المقاربات والمناهج المعتمدة من خصوصية أو قصور. ومستوى ثالث هو من تجاوز التمثّل والنقد إلى "إنتاج المعرفة". وهذا من القليل النادر. ولذلك تقصر جامعتنا عن إنتاج المعرفة والقيمة المضافة، إلاّ في القليل النادر وعلى المستوى الفردي وليس المؤسساتي.
ووجدتُ ما سلّط على نصّ الميثاق العالمي يتجاوز النقد إلى ما هو قريب من "إنتاج معرفة حقوقية". فقد تؤلّف عشرات الكتب دون أن تضيف شيئًا يستحق الاهتمام وقد تغير أو تضيف كلمة في نصّ ليس لك فتحوّله من منزلة إلى منزلة أرقى فتكون أولى به من صاحبه.
هذه المراجعات ليست حقوقية سياسيّة نظرية بقدر ما هي خلاصة لتجربة نضالية حزبيّة سياسيّة مؤسساتية
كانت مبادرة الرئيس المرزوقي بمشروع محكمة دستورية دولية في 2014 ضمن هذا التصور لحقوق الإنسان. وهي مؤسسة سليلة تقييم مفاده أنّ منظّمة الأمم المتحدة لم تنجح في أن تكون "حكومة دولية " تمنع الدول من التظالم مثلما تمنع الدولة رعاياها عن تظالمهم. وهي فكرة الفلاسفة وفي مقدمتهم برتراند راسل الفيلسوف البريطاني.
وأعادت ثورة الألفية الثالثة المنطلقة من تونس طرحها بإشارتها القويّة إلى أزمة الدولة الحديثة وأزمة ما يمكن أن نسميه بالنظام العالمي وهو، رغم التحولات التي عرفها، يبقى نتيجة للحرب العالمية الثانية وما أفرزته من توازنات دولية ومواثيق ومعاهدات تعكس في معظمها إرادة المنتصرين.
لهذه المراجعة الموجعة فصلها الثاني المتعلّق بالديمقراطيّة والذي سنعود إليه في مناسبة أخرى. وهي مراجعة تضعنا أقرب إلى هويّة الانتظام السياسي وموضوع الدولة والأحزاب والتمثيل الانتخابي. وقد كنّا من فريق الدكتور المرزوقي في فترة توليه رئاسة الجمهوريّة ورافقناه في مرحلة من تجربة حزب الموتمر وكلّ مراحل تأسيس حزب الحراك من التأسيس إلى ما تلاه من منعرجات كنّا من صانعيها ومن ثمّ شهود عليها وعلى أنفسنا فيها.
هذه المراجعات ليست حقوقية سياسيّة نظرية بقدر ما هي خلاصة لتجربة نضالية حزبيّة سياسيّة مؤسساتية قسمها الثاني على علاقة بسياق بناء الديمقراطيّة في المجال العربي، وهي مراجعة تأخّرت عن وقتها المناسب كطائر المينيرفا يأتي متأخّرًا، لعله يحمل بعض حكمة آخر الليل.
اقرأ/ي أيضًا:
مقاربة تقويمية لبيئة الميديا العربية: مداخل نقدية من النموذج الانتقالي التونسي