"تالة" علوّ تونسي شاهق يخترق كثافة التاريخ بلغة واثقة ومتأنية، حيث التّماس مع أسرار الكون ممكن، وحيث ركوب صهوة الشتاءات القاسية وترويضها ممكن. السفر إليها انزياح نحو سماء الألوهة، وعوج على ينبوع الصفاء الأبدي، وتأمل في حياء الحجر وعلوّ همّة التاليين.
تالة كلمة أمازيغية تعني العين الجارية، وهذه المدينة التابعة لولاية القصرين، ترتفع عن سطح البحر 1017 مترًا تقريبًا، وتبعد عن العاصمة تونس حوالي 250 كلم
"تالة" هي ابنة مدلّلة لسهول القصرين، وأخيّة سامقة لمدن تشبهها في الجمال وامتلاك أسرار الخلود، مدن سفوح جبال الظهرية التونسية: كسرى، تاجروين، القصور، الروحية، برقو، سبيبة، جدليان، حيدرة، العيون.. وغيرها. "تالة" عندما تباغتك بين الثنايا وأنت تتهجى دروب الشمال الغربي، تبدو كوحدة جمالية ضائعة من الأشياء والكلمات، بين الأودية الفسيحة ونبض الرخام المتكئ على كبد الأرض.
"تالة" هي حنين أبدي لزائريها، تقدّم نفسها بين حزن السنابل وهي تودع الربيع ورائحة المشمش تفوح في أفنية المنازل. كلما اقتربنا اتضح وضوحها، هنا الإيقاع واحد. أقصد إيقاع عيش أهل الشمال الغربي التونسي حيث تموّجات الغنائية الأساسية المتدفقة من أطراف العالم الأربعة في هذه السفوح، هي ذاك التاريخ المنضود والمرصوف كقصيدة شعر تراوح بين الغموض والوضوح.
"تالة" قديمة قدم الإنسان، وشاحها النوميدي والأمازيغي، تلمحه في وجوه الصبايا الجميلات. هنا، حافظت الأعراق على الأصول البربرية والرومانية والقرطاجية، فتراها في حكمة الحكماء وشدة الرجال وشجاعة الشباب.
"تالة" هي كلمة أمازيغية وتعني العين الجارية. ترتفع عن سطح البحر حوالي 1017 مترًا، وتبعد عن العاصمة تونس 250 كلم، وعن مركز ولاية القصرين 54 كلم، ويقطنها حوالي 34 ألف ساكن (حسب الإحصاءات الرسمية للدولة التونسية لسنة 2004). وفي سنة 1897، عرفت "تالة" تأسيس أول مدرسة ابتدائية وهي تحمل اليوم اسم "مدرسة فلسطين" إكرامًا لفلسطين وشعبها ولـ"القضية الفلسطينية" ذاتها.
وفي سنة 1904، شهدت تأسيس بلديتها وهي من المدن السباقة إلى ذلك، كما افتتح جامع الزيتونة فرعًا له بمدينة "تالة" في سنة 1947 وكان من مؤسسيه العلامة "أحمد الحمروني".
"تالة" يحدّها وادي سراط وسفوح جبال الكاف غربًا، والوادي الكبير وسبيطلة وجبال سليانة جنوبًا. هذه المدينة العالية الشامخة، يصنفها التاريخ القديم عاصمة ثانية للأوراس الأمازيغية، فهي محطة أساسية واستراتيجية لملوك نوميديا الكبرى، يتحالفون معها ويتمترسون بقبائلها في أيام الشدة والحرب، ويتريّضون في بساتينها ومروجها في أيام السلم. كما كانت "تالة" المنبت الأول لكل الثورات التي عرفتها أرض تونس طيلة القرنين الأخيرين، فإذا ثارت "تالة" فإن كل تونس تثور، لا سلطة تصمد أمام شباب "تالة"، إذ تراها تتهاوى كقصر من رمل لتذروها الرياح مع أول صيحة تنادي بالحرية والكرامة الإنسانية.
سمّاها الأجداد الأوائل تسمية بلاغية ميّالة إلى الشعر وهي "العين الجارية"، وذلك لم يكن إفراطًا في مجاز اللغة الأمازيغية، بل كان كناية عن حقيقة وهبتها إياهم الطبيعة بسخاء نادر، فالعيون الجارية تحيط بالمكان الساحر من كل جانب.
يوجد بمدينة "تالة" تقريبًا، 25 عينًا جارية تنشج الماء والتاريخ معًا: عين تالة، عين السلسلة، عين الحمادنة، عين القادرية، عين قلاع، عين الشار، عين أم الثعالب، عين دار الجبل، عين العرعاره، عين أم الجدور، عين الشقة، عين أحمد، عين أم العيون..
هذا الرصيد البيئي من العيون الجارية بمدينة "تالة" والذي يعد كنزًا طبيعيًا لا يقدّر بثمن، ليس مستغلًا بالشكل الكافي، وليس له أي انعكاسات على التنمية بالجهة.
يوجد بمدينة تالة حوالي 25 عينًا جارية، لكنها غير مستغلة بيئيًا وفلاحيًا، وسياحيًا و ثقافيًا
"عين تالة" التي تعتبر أهم هذه العيون لتوسّطها المدينة ولوجودها في قلب النسيج الأثري الذي تزخر به كل الأنهج والأزقة وكل الساحات، كان يمكن لها أن تكون محفزًا لأنشطة ترفيهية وتثقيفية، كان يمكن أن تكون محطة سياحية دولية، كان يمكن أن تكون درسًا مفتوحًا حول التاريخ الأمازيغي يحضره تلامذة المدارس التونسية، كان يمكن لمائها المنساب منذ قرون أن يعلّب ويباع ليعود بالفائدة على المدينة.
"عين تالة" تبدو لزوارها اليوم مهملة ومنسية، تاريخها منطفيء، فلا توجد علامات تروي حكايات العين أو رخامات، نقشت فوقها بعض التواريخ الأساسية للعين وما جاورها، مياهها منسابة نحو المجهول الزراعي.
ليس بعيدًا عن المدينة، توجد باقي العيون في السفوح وفي التخوم، تراها على امتداد العين، أغلبها ينشج الماء وقصص الأرض وأصحاب الأرض منذ قرون طويلة، فحول العين، تُنسج قصص الحب وتنضج على صوت الخرير المنساب إلى الأودية والبساتين، وتُعقد الصفقات الفلاحية والتجارية، وتُقام التحالفات القبلية، وتشرب الخيول قبل السفر للاتّجار أو الذهاب للحرب.
إن شبكة العيون الجارية التي توجد داخل مدينة "تالة" وخارجها، تبدو غير مستغلة بيئيًا وفلاحيًا، فأغلبها يذهب إلى سديم الأودية والمجاري الطبيعية، فلا بحيرات ولا سدود، وأيضًا غير مستغلة سياحيًا أو ترفيهيًا أو ثقافيًا.
عندما تلمس بعينك وبعقلك هذا الكنز الطبيعي ،وهذا الرصيد الثمين من العيون والمياه المجاورة للأمكنة التراثية والتاريخية التي تروي قصص من مرّوا من هنا، تفهم فلسفة الإهمال التي تمارسها الدولة منذ الاستقلال إلى اليوم على تالة وعلى كامل العمق الغربي للبلاد التونسية.
"عين تالة" وباقي العيون، هي نداء آسر ومتسامٍ، يعلو عميقًا ليشعرنا بنبض تلك الأرض وما فعل الأولون ومن جاؤوا من بعدهم. فهل يصل صدى نشيج عيون تالة آذان أهل العقد والحل للبحث عن سبل غير تلك السبل المتقادمة لانتشال عيون تالة من الإهمال؟