هنا في محيط رباط هرثمة بالمنستير والجامع الكبير القديم تتعالى أصوات المآذن في رمضان وتنبعث التراتيل المسترسلة من الحناجر وقد أشفقت السماء وابتلع البحر قرص الشمس المائلة إلى الاحمرار وغرقت في زرقة الموج المتلاطم على مشارف الأسوار العالية والمنارة الشاهقة، وكان صوت المدفع قد أطبق على السماء وانبعث منه الصدى فعمّ الهدوء وانبعثت سكينة بعد طول صيام.
انتشر القوم إثر إفطار وعاد الناس إلى الجامع لإقامة التراويح وتلاوة القرآن والميل إلى العبادة وطلب الغفران وقد تزينت جدران المساجد وأضيئت الصوامع وارتسمت على الأسوار سيرة الغابرين وكأن أرواحهم تسبح بيننا وتطير.
كانت المنستير، منذ أن شيد رباطها هرثمة بن أعين سنة 180 هجرية /794 ميلادية، مزارًا دينيًا يؤمه الناس من كلّ ناحية، ونالت من القداسة "ما جعل الناس يرغبون أن تكون معبرهم إلى الآخرة"
تلك هي عادات قوم توارثوها منذ آلاف السنين في مدينة المنستير الساحلية التي وقف رباطها شاهدًا على عظمة الحضارة الإسلامية في السواحل الشرقية الإفريقية، وظلت آثار "المرابطين" في حصونه من زهد وتعبد وتقوى مضرب الأمثال في المشرق والمغرب. وتسربت إلينا من مآثر "الزهاد" شيء قليل ولكن فيه أثرًا دينيًا واجتماعيًا عميقًا.
لقد كانت المنستير، منذ أن شيد رباطها هرثمة بن أعين سنة 180 هجرية /794 ميلادية، مزارًا دينيًا يؤمه الناس من كلّ ناحية، ونالت من القداسة "ما جعل الناس يرغبون أن تكون معبرهم إلى الآخرة"، حيث يذكر الإدريسي أنه "بهذا المكان أعني المنستير، يدفن أهل المهدية موتاهم، يحملونهم في الزوارق إليها فيدفنونهم بها، ثم يعودون إلى بلدهم".
كان رباط المنستير حصنًا عسكريًا ودينيًا متقدمًا وكان هذا المكان ثغرًا من "ثغور الإسلام" وقد نبشت الدراسات التاريخية والحضارية في النصوص والمصادر لتوصيف من رابط في الحصون وسخّر حياته للعبادة والتزهد والتدين وكذلك للدفاع والحماية. فمن هم هؤلاء المرابطون؟ وماذا وصلنا من آثارهم في هذا العصر؟
في مقابلة مع "الترا تونس" يقول الباحث في التراث والتاريخ جهاد الصويد: "المرابطون هو جمع للفظ مرابط، ولا علاقة له هنا بدولة المرابطين التي نشأت في المغرب وإنما فعل المرابطة هو توصيف لمجموعة من الأشخاص سكنت رباط المنستير واختارت أن تكون في منحى المقاومة وحراسة حدود البلاد وسخرت حياتها لهذا الفعل دون مقابل ودون أجر وكان ساكنو الرباط على علاقة طيبة مع باقي سكان إفريقية".
جهاد الصويد (باحث في التراث والتاريخ) لـ"الترا تونس": المنستير نالت حظوة كبيرة بفضل سيرة المرابطين وكان لها شأن عند العامة والخاصة من الأمراء والعلماء والفقهاء، وكانت قبلتهم في المواسم والأعياد وخاصة في رمضان
واعتبر جهاد الصويد أن "المنستير نالت حظوة كبيرة بفضل سيرة المرابطين عبر مجموعة من الرباطات الموجودة وكان لها شأن عند العامة والخاصة من الأمراء والعلماء والفقهاء، وكانت المنستير قبلتهم في المواسم والأعياد وخاصة في شهر رمضان الذي تتكثف فيه المظاهر الاحتفالية في مشهد قريب مما نعيشه اليوم، كما تحاط هذه الاحتفالية بالقدسية عبر ممارسات تعبدية وتوزيع الحلويات".
من جهته، قدم الباحث والمؤرخ رياض مرابط ورقة تفسيرية في تراث المرابطين خلال سهرة رمضانية برباط المنستير ضمّن خلالها ما يمكن معرفته عن هؤلاء القوم الذين حرسوا الثغور وتزهدوا في الدنيا فأحاطهم الناس بهالة من القداسة والاصطفاء.
يقول رياض مرابط: "المرابطون مؤثرون في حياتنا الثقافية والدينية والسياسية وفي طبائع القوم في ربوع الساحل التونسي، فالمرابطة كنشاط عسكري صرف هي ملازمة الثغور، وقد تزامن هذا النشاط مع الفتح الإسلامي لإفريقية، وكلما تقدمت جيوش المسلمين كلما رابطوا في المناطق التي يتوقعون منها تهديدًا وخطرًا".
ويحدد الباحث رياض مرابط مفهوم "المرابطين" فيقول: "هم من يعيشون بصفة منتظمة في قصر الرباط" ويقول الفقهاء "من انقطع عن الأهل وتجاوز ثلاثة أيام فيتخلى عن الناس والأهل ويعيش داخل الرباط أو حوله وينذر نفسه إلى المرابطة أي الثبات في المكان ويراقب حركة الأعداء ويقوم بالإنذار".
ويكشف رياض مرابط أن: الرباطات تشكل مجتمعًا ذكوريًا كما تتضمن نظمًا "كنسية" مستوحاة من العالم المسيحي وهي صيغة معرّبة لمنظومة الأنظمة في الأديرة بما تتضمنه من شبه انقطاع في غرف صغيرة ضيقة ومظلمة، وفي تونس حاول الفقهاء تقنين الرباطات والتأصيل الشرعي لحقوقهم وواجباتهم ومن ذلك كتاب يحي بن عمر "الأحمية والحصون"، خاصة وأن المرابطين يقتاتون من الصدقات التي تفد عليهم من كل حدب وصوب كما يقع توقيف الأملاك على ذمتهم في كافة أنحاء البلاد، وفقه.
رياض مرابط (مؤرخ) لـ"الترا تونس": المرابطون مؤثرون في حياتنا الثقافية والدينية والسياسية وفي طبائع القوم في ربوع الساحل التونسي، فالمرابطة كنشاط عسكري صرف هي ملازمة الثغور، وقد تزامن هذا النشاط مع الفتح الإسلامي لإفريقية
ويبين أن "المرابطين أغلبهم من الأفارقة ومن السكان المحليين وقلّ ما تجد ألقابًا عربية بينهم، فهم أناس من سلم اجتماعي لا علاقة له بالنخبة، كما أنهم ليسوا من الجند العرب وهذا ما يؤذن بطرح السؤال: من هم حتى يحاطون بهذه الهالة من القداسة؟ وما هو مصدر مجلبتهم للاحترام؟".
يقول مرابط:" المرابطون فئة من الناس خالية من أي منفعة ذاتية ومادية ويعيشون في الرباط يحرسونه من عدو قد يأتي وقد لا يأتي، وفرص الاحتدام بالعدو في وجودهم قد تكون منعدمة ودليل ذلك أن رباط المنستير لم تصله أي حرب ولم يلتحم بعدوّ، وستترسخ هذه الذهنية في مجتمعاتنا إذ أن من يعمل لله جدير بالاحترام ومن له منفعة ويتلقى أجرًا مهما كانت الخدمات التي يقدمها ينظر له على أنه يتقاضى ولا يحترم من أجل عمل يؤجر عليه"، على حد روايته.
وأشار المؤرخ إلى أن "رواة وكتاب القرن الرابع والخامس هجري قد استثمروا في واقع حقيقي وصنعوا لنا صورًا عن مجتمع المرابطين، وفي صورهم العديد من التفاصيل التي نجد لها أثرًا في عاداتنا وتراثنا ولها تأثير واضح سياسي واجتماعي وديني".
رياض مرابط: كان المرابطون يعيشون في الرباط يحرسونه من عدو قد يأتي وقد لا يأتي، وفرص الاحتدام بالعدو في وجودهم قد تكون منعدمة ودليل ذلك أن رباط المنستير لم تصله أي حرب ولم يلتحم بعدوّ
ويذكر بعضًا من الأثر المادي لساكني الرباطات وقد أطلق على نمطهم في الحياة "مدرسة الزهاد" ولا ينحسر ذلك في أربطة المنستير بل كل الرباطات التي تحصنوا بها وأشهرها رباط سوسة وما جاورها، "فالنمط العمراني متشابه نراه في جامع سوسة والجامع الكبير بالمنستير وجامع الوردانين في نواته الأصلية ومن خصائصه بناء بيت للصلاة قليلة العرض وقليلة العمق وذات أسقف من الأقبية ومبنية على دعائم" وفق قوله.
على مستوى اللباس وخاصة في المنستير: النساء يرتدين الجبة المشقوقة، جبة الصوف الزرقاء والحمراء المتوارثة بين نساء المنستير وهي علامة التزهد وكان الحزام الذي يشد به قد صنع من حبل، وهي العلامة الزهدية (صبية)، كما كان اللباس الصوفي من موروثات المتزهدين، ويشك الباحث رياض مرابط أن "الكدرون الساحلي" (نوع من اللباس الصوفي) من عادات المرابطين.
أما على مستوى الغذاء فقد ذكر في عديد المصادر أن من أكلاتهم "دقيق مخلوط بزيت" وهو ما نطلق عليه اليوم بـ"البسيسة" التي تعتبر المساند الرسمي لطلبة العلم في حلهم وترحالهم إلى يوم الناس هذا.
كما ذكرت الروايات أن من الحلويات التي كانت توزع في المواسم والأعياد ما يطلق عليه المنستيريون اليوم بـ"قرن القرطاس" وهي أكلة خالصة في شهر رمضان وهذا النوع من الحلويات يسمى الغسانية والنص يعطي وصفًا لها: "مشحّر بالعسل".
ويقول مرابط: "قد توارثت الذهنية العربية الإسلامية في الساحل التونسي بعض الصفات التي تحلى بها الزهاد وذكرت في كتب الطبقات، أهم هذه الصفات "كان زاهدًا في الدنيا" فمصداقية الأشخاص ترتبط بالزهد وهي عقلية محلية ومن ذلك أن التونسيين لا يستكينون إلى ذوي المال وإنما يقولون عن الزاهد "زوالي" ويميلون إلى طيبته"، وفق تقديره.
"ومن الصفات كذلك "صفة الخوف" إذ تتواتر في السِير جملة "وكان سريع الدمعة"، فالتدين كما تقدمه النصوص ليس تدين رجاء (المحبة والاندماج) وإنما تدين الخوف الذي تتسم به جهتنا وذلك بترجيح ثقافة العقاب على ثقافة الجزاء"، يقول مرابط.
كما تبرز من صفات المرابطين "المجاهدة" فالجهاد الحقيقي هو جهاد النفس وقدمت لنا كتب المصادر المرابطين مجاهدين لأنفسهم قبل جهادهم للعدو، وفق تحليل الباحث رياض مرابط.
رياض مرابط: الصفة الغالبة على هؤلاء المرابطين أنهم كانوا "قليلي الهيبة للملوك" ومدى وقوفهم من السلطة القائمة يكسبهم ثقة الناس وحبهم ويحاط بهم شيء من القداسة
ويتابع: "أما الصفة الغالبة على هؤلاء المرابطين أنهم كانوا "قليلي الهيبة للملوك" ومدى وقوفهم من السلطة القائمة يكسبهم ثقة الناس وحبهم ويحاط بهم شيء من القداسة لأن من يقترب من الأمراء وذوي الجاه يصبح محل شك من مدى قربه من الله وما كنا قد أدرجناه من الصفات لذلك نرى أن الذهنية العامة لا تحبذ من هم على صلة بأصحاب النفوذ".
وقد ذكرت لنا المصادر أن ظاهرة الرباطات لم تكن حكرًا على الرجال بل وجدت نساء صوفيات أخلصن عبادة الله وجهاد النفس، فقد أورد البكري نقلًا عن محمد الوراق عند وصف رباط المنستير وقصر هرثمة أنه في قبلة هذا القصر "صحن فسيح فيه قباب عالية حولها النساء المرابطات".
ويذكر لنا الباحث جهاد الصويد أن ما ذكره البكري إشارة وحيدة معزولة عن وجود رباط للنساء في المنستير وهذا الموضوع يحفه شيء من الغموض وتختلف فيه قراءات النصوص فقد اعتبر البعض أن الظاهرة تتحدث حول تجمع نساء في المناسبات، حسب تصوّره.