01-يونيو-2023
أهل الكهف في تونس

مجموعة "الكهف" تمثل إطارًا للنقاش العام دون الخضوع لأي نوع من السلطة أو الهرمية (صفحة مجموعة "الكهف" على فيسبوك)

 

"لا يتعلق الأمر بتخليص الحقيقة من كل منظومة سلطة، إذ أن ذلك عين الوهم ما دامت الحقيقة ذاتها سلطة، وإنما بإبعاد سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية) التي تعمل في حضنها لحد الآن"

-ميشيل فوكو-


يقع الاختيار على أماكن تخفت  فيها الإضاءة لحساب الظلمة، تتجمع فيها مجموعة من الشباب اليافع في حلقات مستديرة تضيق بيهم أحيانًا لسعة النقاش وعوز الكراسي في أجواء طقوسية تجتاح غالبًا ركنًا محجوزًا سلفًا داخل المقاهي ويوضع خلفهم علم إليه ينتسبون، تواجهك فيه راية بيضاء تتوسطه دائرة مخططة بداخلها نقش لجبلين تقبع أمامهما ظلال ثلاثة أشخاص تعلو رؤوسهم مظلات تقيهم من حرارة الشمس، أسفلهم تنقش عبارة EL CAVE  أو الكهف.

 

صورة
شعار مجموعة "الكهف" في تونس (صفحة مجموعة "الكهف" على فيسبوك)

 

جعل أفلاطون من "الكهف" في أمثولة تحمل نفس الاسم في كتاب "الجمهورية" استعارة "سيئة" وموطئًا حيًا لكل من يعتقد أنه يمتلك الحقيقة ويعيشها فكل إنسان يعيش في هذا الكهف ويعتقد أن ما يراه ويسمعه هو الحقيقة ولكل إنسان يقبع في كهفه ولا يريد الخروج منه لمواجهة العالم لأن فعل ذلك، أي مواجهة الحقيقة والتخلص من القيود التي تربطه بالكهف، سيجعله يهدم أوهامه وخيالاته وسيدفع به إلى إعادة بناء تصوراته ومعرفته للأشياء.

لا تجد تجربة مجموعة "الكهف" توصيفًا محددًا  لطبيعة نشاطها فهي ليست جمعية ولا منظمة ولا ناديًا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة وإنما هي شكل من أشكال التجمع غير النظامي الذي يرفض أي نوع من السلطة أو الهرمية

كما أن لفظة الكهف تحيل إلى السردية الدينية لقصة أصحاب الكهف والتي ذكرتها المصادر الإسلامية وكذلك المسيحية لكن المراجع التاريخية تختلف حول زمانها ومكانها: عن الفتية السبعة الذين تعرضوا للاضطهاد بسبب ديانتهم فالتجؤوا إلى مغارة سحيقة وناموا فيها عشرات أو مئات السنين ليفيقوا على أنوار جديدة تتغير فيها الحياة داخل قريتهم جذريًا ليكون الكهف مأوى لهم ونقطة عبور "أسطورية" داخل التاريخ سيكون لها ترام في اختيار الاسم.
 

  • محاولة في تعريف الكهف

في سؤال حمزة بية أحد المؤسسين لتجربة الكهف، التي استقرت لبناتها الأولى في بنزرت فالعاصمة لتمتد سريعًا إلى الأطراف، عن أصل التسمية يجيب متصوفًا  أنه "في الواقع لم نسمه الكهف  فقد كان الاسم موجودًا قبل وجودنا المادي. كان يسمى "el cave" ومنذ سنة ظهر في وحيه اسم الكهف. هو كهف في السماء. كنا فيه ثلاثة وأصبحنا ثلاثًا".

لا تجد تجربة الكهف توصيفًا محددًا  لطبيعة نشاطه فهو ليس جمعية ولا منظمة ولا ناديًا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، وليس اجتماعًا بالمعنى الرسمي.

مجموعة "الكهف" بالنسبة لأهلها هي فسحة مفتوحة  لكل من يرغب في خوض تجربة النقاش العمومي داخل فضاء عام وتجربة حرة غير خاضعة لأي مظهر للوصاية أو الاحتراز و لا تحتمل أي صنصرة

في الواقع، هو شكل من أشكال التجمع غير النظامي الذي يرفض أي نوع من السلطة أو الهرمية أو حتى التهيكل الداخلي، فلا يوجد داخله خطط ولا وحدات ولا أعضاء مكلفون بمهمة ولا مسيرون.. كل من استجاب من الحضور قد اكتسب العضوية وشكل هوية "كهفية".

 

صورة
"الكهف" يمثل لأهله فرصة مفتوحة للنقاش في فضاء عام  (صفحة مجموعة "الكهف" على فيسبوك)

 

الكهف بالنسبة لأهله (يطلق عليهم لفظ الكهفيين أو كذلك أصحاب الكهف) هو فسحة/ فرصة مفتوحة  لكل من يرغب في خوض تجربة النقاش العمومي داخل فضاء عام (مقهى، مخيم ...)، تجربة حرة غير خاضعة لأي مظهر للوصاية أو الاحتراز و لا تحتمل أي صنصرة أو تابوهات ولا تخضع لأي معيارية أخلاقية في الحديث والتعبير عن الرأي (لا مجال لأي لياقة لغوية) فالفضاء مفتوح لجميع الأطياف والشرائح وطرائق التعبير.

هذا التنظم التلقائي من مجموعة من الشباب الذي بدأ افتراضيًا وتوسع على أرض الميدان، وضع بنفسه القواعد التي تحكمه: من ذلك مثلًا "دستور الكهف"الذي تمت صياغته على سبيل الذكر لا الحصر (أي أنه مفتوح للإضافة والحذف) منذ سنة تقريبًا، جاء فيه:

  • الفصل الأول: "الكهف بديل لكل ما يمكن أن يكون"
  • الفصل الثاني: "الكهف قادر على خلق النظام الأنجع من أجل الصالح"
  • الفصل التاسع: "يقدم الكهف بدائل فنية، ثقافية، فكرية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية لكل ما تم استقراره كموجود في مجتمعاتنا"
  • الفصل الواحد بعد العشرين: "جميع المواطنين والمواطنات وكل شخص لا يرى في نفسه التذكير أو التأنيث متساوون أمام الكهف يخاطب ذواتهم لا أعضاءهم".

هذا التنظم التلقائي من مجموعة من الشباب الذي بدأ افتراضيًا وتوسع على أرض الميدان وضع لنفسه قواعد تجمع النفس الصوفي بالنزعة الحقوقية وفلسفة الاختلاف في صيغة أناركية رافضة لأي انتظام مسبق

لا يخفى هذا الخليط في صياغة "دستور الكهف" الذي يجمع النفس الصوفي بالنزعة الحقوقية وفلسفة الاختلاف التي تتجاوز أي معيارية خاصة منها الجندرية التي ستنعكس من خلال نشاطاته إلى جانب صيغة أناركية رافضة لأي انتظام مسبق وفق الآليات الاعتيادية للاجتماع (حزب، جمعية...).

 

  • داخل الكهف

بدأ نشاط أصحاب الكهف في تونس افتراضيًا على منصات التواصل الاجتماعي التي تمثل وسيلة الاتصال بينهم والاستدعاء والإعلام بالنشاط: من خلال التصوير الفوتوغرافي لأشكال الحياة وتغليفها داخل تعابير ونفحات صوفية حلولية (مع التركيز على الجوانب التراثية: الأغوار -جمع غار- القديمة والمحميات، قطعان الماشية وأجواء الأعياد...) واقتباس آيات قرآنية من سورة الكهف  تشيد "بأصحاب الكهف" وترسم غربتهم في الحاضر وصبرهم.

توسعت أنشطة مجموعة "الكهف" بانوراميًا لتشمل عدة ميادين لمقاومة السلطة و توجيه النقد اللاذع إلى سلطة البوليس وتحصيل المعرفة والدفاع عن قضايا الشعوب مع تخصيص القضية الفلسطينية بالاحتفاء

ثم توسعت أنشطته بانوراميًا لتشمل عدة ميادين لمقاومة السلطة وتحصيل المعرفة: إصدار كاريكاتير، ميمز (وثيقة إلكترونية كأن تكون صورة أو فيديو تخرج عن سياقها إلى آخر متعارف عليه لإثارة الضحك) ساخرة من رأس السلطة، الدفاع عن قضايا الشعوب مع تخصيص القضية الفلسطينية بالاحتفاء... كذلك التشهير وتوجيه النقد اللاذع إلى سلطة البوليس: كأن يصدر بلاغات وقصاصات إلكترونية تحمل أسماء موقوفين و/أو معتدى عليهم. كما أعد دليلًا باللهجة العامية سماه أصحاب الكهف بـ"دليل الشرطي الشريف" جاء فيه أنه "يقدمه الكهف لإخواننا في الشرطة من أجل توضيح بعض المسائل": -متى يحق للبوليس ضرب مواطن؟ ومتى يحق له قتل امرأة؟ (في منتهى السخرية) وفيه تخليد لبعض ضحايا القمع البوليسي ونقش عبارات الهامش "تعلم عوم، تعلم عيش...".

 

صورة
مجموعة الكهف انطلقت افتراضيًا وتوسعت على أرض الميدان (صفحة مجموعة "الكهف" على فيسبوك)

 

أيضًا، يقدم الكهف نفسه فضاءً آمنًا لجميع الأقليات الجنسية ومجتمع الميم والدفاع عن قضاياهم عبر الخروج إلى الشارع، التظاهر أو المساهمة في تقديم الفن التقاطعي إلى الجمهور (من ذلك عرض فيلم "عبور" وفيلم "السيدة المنوبية" وبرمجة نقاش حول دور الفن وعلاقته بالجندر).

ويتخذ الكهف "الخير والشر، الجمال والقبح، الذكر والأنثى... يؤمن بها بسطاء الفكر، الكون تكثرات أو لا يكون" مبدأ له.

يجمع اللقاء خاصة مجموعة من الطلبة من مختلف الاختصاصات والشباب المتحزب وغير المعني بالسياسة وكل أطياف المجتمع حول نصوص بيير بورديو وألبير كامو ومحمود المسعدي وأنطونيو غرامشي ومصطفى صادق الرافعي

كما يقدم أمسيات موسيقية بالعود العربي ويحتفي بكل أشكال الموسيقى إلى جانب تقديم أعلام إلى جمهور القراء باللهجة التونسية: ابن خلدون، ابن طفيل، إخوان الصفا، ألان دونو، نجيب محفوظ، جون لوك غودار... بالإضافة إلى إضاءات قانونية-حقوقية (مجلة الأحوال الشخصية، قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص، كما نقل الكهفيون الفصل 125 من مجلة الإجراءات الجزائية المتعلق بهضم جانب موظف عمومي و المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال إلى الدارجة لتوضيح إخلالاتهما في مجال الحقوق والحريات).

أما أهم نشاطات الكهف فهي اللقاءات المتجددة والمتزامنة (بين تونس العاصمة وبنزرت وسوسة وصفاقس وقابس وتطاوين إلى حد الآن) حيث يعرض الكهف برنامج اللقاء مسبقًا باختيار نص معين على مواقع التواصل الاجتماعي ثم يتم التجمع داخل مقهى في العادة حيث يعرف جميع الحاضرين بأنفسهم بالطريقة التي يبتغون ثم يتلى النص المختار وتترك المساحة حرة للتعليق والنقاش والسجال.

يجمع اللقاء خاصة مجموعة من الطلبة من مختلف الاختصاصات والشباب المتحزب وغير المعني بالسياسة وكل أطياف المجتمع حول نصوص بيير بورديو وألبير كامو ومحمود المسعدي وأنطونيو غرامشي ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم ويطرحون قضاياهم في إطار ما يسميه كانط "الاستعمال العمومي للعقل" بالتساؤل حول معاني المقاومة والحرية والسلطة والواقع والخيال والهوية.

إلى جانب الشارع ينزل "الكهفيون" إلى الهامش حيث تصبغ الحيطان برسوم وشارات ورموز ومقولات منددة بالرأسمالية وسطوة البوليس وعن الشباب اليائس والمستخف به

إلى جانب الشارع، ينزل الكهفيون إلى الهامش حيث تصبغ الحيطان برسوم وشارات ورموز ومقولات منددة بالرأسمالية وسطوة البوليس والتلوث الناتج عن المصانع (يسقط يسقط حكم المجمع)، وعن الشباب اليائس والمستخف به.
من بين أهم الشعارات الذهبية للكهف "باق ويتمدد" و"لقد [عبثتم] مع الجيل الخطأ".

 

  • حوصلة

الكهف تجربة فريدة- تعرف عامها الأول مطلع جويلية/يوليو 2023- في التهوي وورشة مستمرة في البحث عن الحرية لجيل كامل من الشباب في مواجهة عربدة السلطة وفسحة للتعبير والتبادل داخل فضاء يضعون قواعده بأنفسهم، نجحت فيما لا تنجح فيه عديد التجمعات المنظمة (جمعيات، نوادٍ...) في استقطاب اليافعين وفي تقريظ الاختلاف وفي هدم أي مركزية للخطاب والتمدد السريع داخل الخريطة.

نجح أصحاب الكهف في مزج مرجعيات حداثية مع أخرى تراثية لإحياء سرد حقوقي/صوفي جديد يقلب جمهورية أفلاطون رأسًا على عقب أين يفقد الإنسان الحقيقة داخل الواقع ليبحث عنها داخل حجرات الكهف وفي النأي بنشاطهم عن أي شكل من أشكال الهيمنة التي تؤمنها أيدولوجيا الدولة إلى مساحة أرحب نحو حرية الخطاب والممارسة كما حلم ميشيل فوكو طويلًا وغيره ممن ينشد مشروع الحرية اليافع.